رواد ديبلوماسية الاستقلال: محمد ولد الشيخ ولد جدو

اثنين, 11/28/2016 - 08:38
محمد ولد الشيخ ولد جدو

يعتبر محمد بن الشيخ ولد جدو من أعظم سفراء موريتانيا على مر تاريخ بلاد شنقيط فهو بثقافته ولباقته ودماثة خلقه وبوجدانه المفعم بحب موريتانيا نموذج لجيل كان قدره أن يتحمل أمانة التعريف بدولة ناشئة في شكلها الجغرافي والسياسي ضاربة في أعماق التاريخ في عمقها الحضاري.
كان سعادة السفير محمد ولد الشيخ ولد جدو متسما بالصبر والجد والمثابرة كان مغلبا للمصلحة الوطنية مضحيا من أجلها، لذلك أدى مهمة تسويق الدولة الجديدة على كل الأصعدة بنجاح منقطع النظير وترك لها سمعة ومصداقية باقية على الزمن. وفي هذه اللحظة الاحتفالية وفي الذكرى الخمسينية للاستقلال الوطني تنشر "الرأي المستنير" مساهمة منها في الاحتفال برواد الجيل المؤسس لموريتانيا على طريقتها نبذة مختصر عن حياة سعادة المرحوم السفير محمد ولد الشيخ ولد جدو والذي تستحق سيرته الذاتية قراءة متأنية من طرف كل الأجيال الموريتانية الطامحة لعزة هذه البلاد وبقائها قوية عزيزة الجانب.
نبذة عن حياة المرحوم محمد بن الشيخ بن جدو
ولد الفقيد أواسط سنة 1925، قريبا من حي "لحواش" الشهير الذي يقع في الجزء الشرقي من مدينة ابي تليميت القديمة. من والد مشهور في المدينة هو الشيخ ولد جدو ولد المعزوز، باعتباره من أقدم من سكن المدينة في عشريات القرن الماضي وتقرى بها وأصبح منزله في الجزء الغربي مأوى للكثيرين من الأقارب والأباعد، ممن كانوا يترددون على المدينة في تلك الفترة قصد الدراسة والتحصيل أو طلبا للرزق والكسب بل وحتى بحثا عن الرئاسة والزعامة، في مدينة كانت تشهد جدلا واسعا ونقاشا محتدما حول مواضيع حساسة ومهمة مثل جهاد النصارى من عدمه وشرعية التعامل والعيش في بلاد يحكمها غير المسلمين وهل بلاد السيبة التي كانت تطلق على تراب البيضان أفضل أم حكم فرنسا وما سيصحبه من أمن وعدالة بشر بها ؟، إلى غير ذلك من مسائل جوهرية تدور حولها - بين فطاحلة العلماء أمثال باب ولد الشيخ سيديا والشيخ سعد ابيه من جهة والشيخ ماء العينين وولد حبت وغيرهم من جهة أخرى - مناظرات قوية وكتابات فقهية رائعة، أثرت الساحة السياسية وغذت الخيال الشعبي الذي انقسم حول الفريقين بين مؤيد ومعارض.
ظل المشهد السياسي يمور ويفور رغم وفاة الشيخ ماء العينين المبكرة (1910م) والشيخ سيديا باب (1924م) وانطفاء جذوة المقاومة المسلحة (1932م)، لتبقى المقاومة السلمية والثقافية ضد الاستعمار هي الملاذ الوحيد والملجأ الحصين لشعب نشأ حرا وعاش طليقا في صحراء كبيرة ومترامية الأطراف وسعت الجميع واحتضنتهم قرونا طويلة، رغم تعدد الشعوب واختلاف الديانات وكثرة الدويلات التي تعاقبت على احتلال المنطقة قبل أن يصهرها الإسلام والثقافة العربية في بوتقة واحدة وكيان وحيد داخل حيز جغرافي يسمى بلاد البيضان.
ولد المرحوم في هذا الجو المفعم بالوطنية والرافض لسيطرة النصارى على بلاد المسلمين، ليكون من أوائل الشباب الشناقطة المشاركين بقوة الكلمة والنضال السياسي والرأي المستقل في صياغة - ما عرف بعد ذلك في بداية الخمسينات من القرن العشرين - بحركة الشباب الموريتاني.
بعد دراسات محظرية: القرءان - الفقه وبعض متون الحديث، ألتحق بالمدرسة الفرنسية في أبي تيلميت أو ما سمي آنذاك "LA medrsa" ليتم توجيهه إلى مدرسة أبناء الأعيان التي أسسها المستعمر لاحتضان الفتيان وتوجيههم في عمر مبكر إلى طريقين للتوظيف: التعليم في المدارس - أو الترجمة أي ما يسمى أملاز في ذاك الوقت.
حتى تتكرس سيطرة الإدارة الفرنسية وتحكم قبضتها على البلاد بعدما طوقت الشباب ورسمت لهم طريقا محددا للعمل والنشاط.
لم تستهويه أي من الوظيفتين ولم تمكنه الظروف الأسرية من السفر إلى الخارج للدراسة والتحصيل، فانخرط في العمل السياسي السلمي ضد المستعمر وأتباعه مما سبب له كثيرا من المتاعب حتى في مسقط رأسه.
في بداية الخمسينات شكل مع مجموعة من الشباب الموريتاني تمثل جميع أطياف المجتمع ما سمي حينها حركة الشباب الموريتاني.
وقفت سلطات الاحتلال ضد الحركة وقادتها ومارست أو مورست ضغوط كثيرة عليه شخصيا للتخلي عن نهج الحركة وأفكارها التي تطالب بمزيد من الحرية ومنح الشعب حق اختيار ممثليه، ليفاجئ الجميع ويعلن ترشحه باسم حركة الشباب لانتخابات 1955م ضد مرشح الإدارة الفرنسية سيد المختار انجاي عن دائرة موريتانيا في البرلماني الفرنسي.
يقول البيان الصادر عن حركة الشباب الموريتاني قبل الانتخابات "تؤمن الحركة بالحرية والإنعتاق وحق الشعوب في تقرير المصير وهي نفس المبادئ التي وردت في ديننا ودعا إليها رسول الهدى محمد بن عبد الله عليه أفضل الصلاة والسلام، كما آمن بها رواد الثورة الفرنسية الخالدة ومازالت صفوة الشعب الفرنسي العظيم تناضل من أجلها... غير أن سلطات الاستعمار في إفريقيا الغربية ضربت عرض الحائط بكل تلك القيم وقفزت فوق الحريات وأسقطت بجرة قلم ما تواترت عيه أجيال من المناضلين الشرفاء... كل هذه الأمور مجتمعة دفعت الحركة إلى تقديم مرشح يعتبر من خيرة مناضليها للمشاركة في الانتخابات المقبلة المزمع تنظيمها، آملا أن تستجيب الإدارة الفرنسية وأعوانها إلى رغبة الشعب الموريتاني في اختيار من يمثله في البرلمان الفرنسي دون وصاية من أحد... "(تمت صياغة هذا الجزء من البيان اعتمادا على بعض الروايات الشفهية والشهادات التاريخية، ولم نستطع العثور على نسخة مكتوبة من البيان الذي صادرته السلطات الفرنسية وحظرت تداوله واعتبرته وثيقة بالغة الخطورة وتحرض على العصيان والتمرد). فرضت الإدارة الفرنسية مرشحها وفشلت حركة الشباب في إيصال صوتها إلى البرلمان، لتواصل نضالها السلمي.
سافر المرحوم بعد انتهاء الانتخابات إلى المغرب وفرنسا حاملا رسالة الحركة وفكره التحرري، حيث كانت الاشتراكية الأممية وقادة التحرر في العالم يجوبون أوروبا طولا وعرضا ويتجاوبون مع ممثلي الشعوب المستعمرة ولا يوفرون جهدا في إطلاع العالم الحر على فحوى نضالهم العادل.
سرعان ما عاد إلى أرض الوطن من منفاه الاختياري بعدما شاهد وسمع من آراء صقلت شخصيته ومنحته الإرادة القوية على مواصلة النضال، كما بلغته أنباء شبه مؤكدة مفادها: أن مؤامرة تحاك لاغتياله من طرف نافذين في أحد الأحزاب المغربية، بعدما فشلوا في استمالته إلى دعواتهم وطلباتهم المتكررة بضرورة انضمام موريتانيا إلى المغرب، فقد رفض الفكرة من أساسها وأصر على استقلال بلده بشكل كامل.
كما أن رياح التحرر بدأت في الهبوب ولا توجد قوة في الوجود تستطيع أن تمنعها من الوصول إلى ربوع بلاد شنقيط، ليتعزز كل ذلك بانتخابات (وي او نون) Oui ou non وما تبعها من أحداث متسارعة صبت جميعا في صالح الاستقلال والانفصال عن فرنسا.
بعد الاستقلال 1960، عمل في الإدارة المحلية كعضو في المجس الجهوي conseil régional في سينلوي قبل الانتقال إلى مشروع العاصمة الجديدة - نواكشوط.
عين واليا في ولايتين من الوطن: (نواذيبو - لعصابه) 1961 إلى 1966م، لينتقل بعد ذلك إلى العمل في السلك الدبلوماسي، بعد أن تبنت السلطة المركزية في نواكشوط سياسة جديدة، تعتمد من بين أمور أخرى على توطيد العلاقة مع الجيران وتطبيق دبلوماسية مرنة لاحتواء النزاعات والأطماع المهددة للبلد في كيانه ووجوده والتعريف بخصوصية هذا الشعب وحقه الذي لا يتزعزع في إنشاء دولته المستقلة على أرضه دون وصاية أو تدخل من أحد.
كانت موريتانيا في تلك الفترة تخوض حربا ضروسا على الصعيد الدولي والإقيمي، بدأت بمعركة الاعتراف بها كدولة مستقلة وعضو في الأمم المتحدة، ثم تلي ذلك محاولة فك الحصار المضروب عليها لدخول جامعة الدول العربية، وقد تكللت جميع تلك الجهود بالنجاح، بفضل السياسة التي رسمتها الحكومة الموريتانية واختارت لها مجموعة من الأطر الوطنيين، كان في طليعتهم المرحوم، الذي عين قنصلا في جمهورية مالي المجاورة، ثم اختير في خضم الثورة الناصرية والصراع العربي الإسرائيلي في أحلك سنواته، 1967 سفيرا لبلده في جمهورية مصر العربية، التي تعترف بنا كدولة مستقلة عضو في الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية وتضع فيتو على انضمامنا إلى جامعة الدول العربية، فكلف بإقناع الزعيم الناصري بعروبة البلد وحقه في التواصل مع أشقائه.
بعدما نجح في مهمة مصر، حول إلى شبه الجزيرة العربية كسفير في المملكة العربية السعودية ومعتمد في معظم الدول الخليجية 1971-1975، لمواصلة سياسة الانفتاح على الأشقاء وجلب الاستثمار والمال العربي إلى موريتانيا التي بدأت تحتاجه في معركتها ضد التخلف بعدما نجحت في معركة تقرير المصير. استطاع بدبلوماسيته الفذة وعلاقته الواسعة في أوساط أهل الخليج أن يجلب الكثير من الأموال والاستثمارات إلى بلده، كان من أهمها جزء كبير من تمويل طريق الأمل ومستشفى صباح للأمراض الصدرية وغيرها من المشاريع المهمة، التي ساهمت في تدعيم الاقتصاد الوطني والتخفيف من معاناة المواطن.
عاد إلى أرض الوطن بعد انتهاء مهمته في السعودية 1975م، وليتفرغ إلى هواية قديمة لديه، شغلته عنها الوظيفة والمهام الدبلوماسية ألا وهي جمع المخطوطات والبحث عن التراث الموريتاني القديم ومحاولة بعثه ونشره.
قبل أن تدفعه السلطات الحاكمة في البلد سنة 1980م إلى الهجرة خارج الوطن وإنشاء حركة amd مع بعض القادة والسياسيين البارزين: (محمد عبد الرحمن أمين -مصطفى اعبيد الرحمن - حاب - وآخرون)، بعد معارضتهم للحكم العسكري الذي أطاح بالمختار ولد داداه والمطالبة بإعادة الحكم المدني وترك الشعب الموريتاني يختار قيادته بشكل ديمقراطي، وقد ردت السلطات العسكرية الحاكمة آنذاك بمحاكمة المجموعة غيابيا والحكم عليهم بين الإعدام والمؤبد.
رجع إلى البلد غداة الانقلاب العسكري: 12-12-1984، ليواصل جهوده الخاصة المتعلقة بالمخطوطات والبحث العلمي وتكلل ذلك بإنشاء زاوية الشيخ سيدي المختار الكنتي في نواكشوط، والتي لم يبخل عليها بجاهه وماله وعلاقته في الخارج حتى يتسنى نشر ما أمكن من كتب هذا العالم الكبير وانقاذ علمه الواسع من التلف والضياع.
توفي في حادث سير أليم مساء الخميس 11 يناير 1990، قرب مسقط رأسه أبي تيلميت وهو في طريقه لزيارة والدته المقيمة بالمدينة، رحم الله الجميع وأسكنهم فسيح جناته أنه سميع مجيب.