التراث والخيال العلمي (قراءة للمؤلف في نصي مدينة الرياح والحب المستحيل) موسي ولد ابنو

سبت, 11/12/2016 - 11:55
بقلم د. موسي ولد ابنو

التراث والخيال العلمي

(قراءة للمؤلف في نصي مدينة الرياح والحب المستحيل)

بقلم د. موسي ولد ابنو

 توطئـة : أقدم هذه المقاربة لنصي مدينة الرياح والحب المستحيل(1)* بوصفي قارئا. 

فالكتابة أملت نفسها دون مبررات. أما القراءة فهي دائما بحث عن مسوغات للكتابة.

  I. تجليات التراث واستلهام الكتاب

         تدور أحداث روايتي الحب المستحيل ومدينة الرياح في مستقبل بعيد، بعد نهاية القرن الحادي والعشرين. لكن إذا كانت أحداث الحب المستحيل تدور كلها في هذا المستقبل البعيد، فإن مدينة الرياح في جزئيها الأول والثاني، تسترجع فترات من الماضي؛ لأن بطلها ﮜارَا الذي سافر في اللازمان يسترجع في لحظة سكرة موته ذاكرة الماضي السحيق، بدءا من القرن الحادي عشر الذي ولد في بدايته، ومرورا بالقرن العشرين الذي جابه هاربا نحو المستقبل، بفضل الخضير الذي ينقله من الماضي إلي المستقبل ليريه ما آل إليه البشر. وهذان النصان يجعلان من التراث مرتكزا لكتابة رواية الخيال العلمي. ففي مدينة الرياح كما في الحب المستحيل أقحمت التراث القديم في رواية الخيال العلمي، سواء كان هذا التراث عالميا، من خلال التراجيديا اليونانية، أو عربيا إسلاميا من خلال النص القرآني، أو التراث الشعبي الموسيقي البيظاني. فجاء النص على منوال حكاية أديبيه، لا بالمعنى لفريدي(Freudien)، ولكن بالمعنى الصُّوفُّوكْلِي. فصوفوكل (Sophocle) عندما ألف أُدِيبْ ملكا كتب تراجيديا البصيرة الإنسانية، وذلك وفق القراءة المتميزة التي قدمها كارل رينهارت (Karl Reinhart). فالطريق الفاصل بين بداية مجد البطل التيبي (نسبة إلى مدينته (Thèbe) إلى نهايته المروعة، هو صراع بين الظاهر(الكُمُونْ) والحقيقة (التجلي). يتقدم أديب نحو تجلي الحقيقة، وبهذه الطريقة -كما يقول هايدكر-(Heidegger) " يتقدم خطوة خطوة ليجعل نفسه في اللاكمون، ولتتجلى أمامه الحقيقة، التي لن يطيق النظر إليها إلا بفقء عينيه، لينقذ نفسه من الظاهر المضلل. وهكذا يكون البطل التيبي قد اضطر إلى أن يعمي نفسه كي يرى حقيقة ذاته." فبفقدان بصره تمكن أديب من النظر ببصيرة، لتتجلى أمامه الحقيقة.

يرمز ﮜارَا لوجوه عدة من أسطورة أُدِيبْ (Œdipe): فﮜارَا تخبره كهانة أوْدَاغٌوسْتْ بأن حفيده سيقتله، كما أخبرت كاهنة تيب لايوس في الأسطورة اليونانية. لكن ﺗﻧﮕَلَّ، حفيد ﮜارَا، قاتل جده والمتزوج جدته، لم يفقأ عينيه، كما فعل بطل تراجيديا اليونانية، لأنه الأديب التقاني، الغارق في الظاهر، المنغمس في الخطيئة.

إن الأساطير والنصوص التراثية المؤسِّسة، سواء كانت عالمة أو شعبية، لا تقص علينا حكايات من الماضي بقدر ما تنبئنا عن خبايا مستقبلنا. وهذا هو مرتكز توظيف التراث في رواية الخيال العلمي. فرواية الحب المستحيل مثلا هي استلهام للخطيئة الآدمية على أنها أمر سيحدث في المستقبل، بطرد بني آدم من الكوكب الأرضي، الذي يكون قد دمره مجتمع التقانة. كما أنها أيضا تدبر للأمانة في سورة الأحزاب، على أن نقض الميثاق الأزلي الذي ورد في هذه السورة ينبئ عن جهالات وزلات مجتمع التقانة الواقعة في الحاضر والتي ستتفاقم في المستقبل. والرواية هي أيضا تأويل لقصة آدم وحواء التي، وإن كانت قد خرجت من ضلعه لتوقعه في الخطيئة، إلا أنها تمثل أيضا مآله، بما أحدثه مجتمع التقانة من تخنيث للجنس البشري وهدم للأسس الطبيعية لعلاقات الجنسين من تكاثر وتكافل، وبتحويله الرجال نساء، والنساء رجالا، واستنساخه البشر. وهذا القدر مطروق في الحب المستحيل، وقد قاد البطل ) آدم (، في نهاية الرواية، إلى تغيير جنسه للحاق بمحبوبته، حيث قرر أن يتحول إلى امرأة، فأصبح حواء. تستلهم أيضا رواية الحب المستحيل نصا تراثيا عالميا آخر هو أسطورة المأدبة لأفلاطون وتوظفه في الخيال العلمي لتصف مجتمعا مستقبليا نزل به نفس العقاب الإلهي الذي سبق وأن نزل بالجنس الأندروجين (Androgyne).

تتزاوج في مدينة الرياح وفي الحب المستحيل لغات عدة (تراثية، فلسفية، علمية) وأساليب عدة (روائية، شعرية، موسيقية، دينية) لتشكل كتابة تتعطش إلى الحقيقة. ذلك العطش نفسه الذي قتل ﮜارَا، بطل مدينة الرياح، ثم بعثه من جديد. وقد أنتجت هذه الكتابة سماء جديدة وأرضا جديدة، "أرض الرجال" وسماؤهم التي تمكنهم من النظر إلى أنفسهم. إنه عالم الرواية الذي يدعونا إلى التفكير: {فاقصص القصص لعلهم يتفكرون} سورة الأعراف -الآية 176.

 

 بغض النظر عن الأسباب الموضوعية والذاتية والعوامل المفترضة، سواء كانت عوامل نفسية، أو كانت وجودية أو سوسيو-تاريخية، يظهر من خلال قراءة الروايتين أنهما ترتبطان بأنموذج أسطوري يتجاوز بشكل كبير الكاتب نفسه، واللحظة السوسيو-تاريخية. ففي الروايتين يمكن تقصي معنى النص على ضوء الأساطير الكبرى. فمن الأسطورة استوحيت التجليات التي ألهمتني إنشاء عالم ينافي الواقع المبتذل، بل يتجاوز ذلك ليرفض وطأة هذا الواقع المنساق وراء السفالة.

 تدور أحداث مدينة الرياح في برازخ التاريخ، وتعتمد أسلوبا في الكتابة برزخا بين الواقعية والرمزية، وبين رواية الخيال العلمي والرواية التاريخية. فالمكان والزمان والشخوص واللغة التي أنتجتها الرواية تتأسس في فضاء بعيد، فضاء القَصص القرآني. تستلهم رواياتي النص القرآني، سواء في وجهها الإبداعي: (خلق المصطلحات والجمل وأسماء الشخوص)، أو في تكوين عالم جديد يحاكي عوالم القَصص القرآني، أو حتى في إيجاد تقنيات جديدة للحكي. فمثلا، خلال كتابة مدينة الرياح، عرضت لي معضلة إبداع بطل يشهد على عشرات القرون وينتقل بين حقب زمنية متباعدة. وإن كانت فكرة نسبية الزمن قد خطرت ببالي كطريق إلى حل ممكن، إلا أنها لم تسعفني. لكن عندما استحضرت قصة أصحاب الكهف، وكونهم عاشوا {ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعا} تبلورت أمامي طريقة تمديد حياة بطل الرواية لتغطي قرونا كثيرة. كما أني استلهمت القَصص القرآني في خلق شخصية الخضير في الرواية، ملَك الزمن، الذي ينقل البطل من فترة زمنية إلى أخرى، ليؤدي وظيفته كشاهد على الفعل الإنساني عبر التاريخ. وبما أن موضوع الرواية الرئيسي هو بصيرة الإنسان والحكم عليها من خلال مقارنة فترات من التاريخ تفصلها قرون عدة، كان لابد من إيجاد لحظة يتكور فيها الزمن، لحظة يمكن أن تشتمل على عشرات القرون التي جابها البطل، وتكون هذه اللحظة لحظة حق تنجلي فيها الحقيقة أمام البطل-الراوي، وتمكنه من الحكم على التاريخ وعلى نفسه وعلى الزمن. هنا يظهر دور القَصص القرآني وأهمية استلهامه في الكتابة الروائية وفي حل معضلات الحكي: لقد جاء في القرآن الكريم أن لحظة الحق هذه كائنة، وهي لحظة سكرة الموت: {وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ(19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ(20) وَجَاءتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ(21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ} (سورة ق). فعند سكرة الموت يتمدد الزمن ليستدير، فيسترجع الأمد مهما طال، وتُسترجع البداية، وتتكشف الحقيقة. هكذا جاء الحكي في رواية مدينة الرياح ليروي لحظة الحق هذه، لحظة الشهادة التي ينكشف فيها الغطاء. يروي البطل في هذه اللحظة، ببصيرة ثاقبة، أحداثا عاشها في زمن امتد عشرات القرون، أحداثا كان في غفلة منها فتكشفت له وصار شاهدا عليها، يعرف كل شيء عنها ويحكم عليها ببصيرة:

«...أنا في عالم جديد، تهاجمني خلاله ذكريات تافهة، غريبة، من الحياة التي تغادرني.. وجاءت سكرة الموت بالحق.. لم أعد في غفلة من شيء.. بصري اليوم حديد.. أضاءت سكرة الموت تلافيف حياتي التي ظهرت بصور مكبرة آلاف المرات، والزوايا المظلمة كأنما صوبت عليها آلاف الشموس الصحراوية الموتورة.. انزاحت الحواجز بين الظاهر والباطن، البادي والخفي، المعلوم والمجهول.. الوعي يتم من خارج منطقة الوعي. إنني من منطقة ما بعد الحياة، وما قبل الموت، من منطقة التخوم، أستعيد شريط حياتي.. أسمعه، وأراه، أدركه بالتفاصيل. ليس فيه قبل ولا بعد.. أنا الذي أفنيت حياتي أحاول، بلا جدوى، أن أربط حياتي بأحلامي، وشعوري بلا شعوري، ووعيي بوعي الآخرين، لأصدر حكما على الآخرين وعلى ذاتي وعلى الزمن، وارتدت محاولاتي يائسة مخذولة.. ها أنذا أشاهد ما عجزت عنه طوال حياتي يتحقق من تلقاء نفسه ساعة موتي.. الآن، وبعد ما خرجت من الميدان، أرى نتيجة المعركة الحاسمة بين حياتي وأحلامي، مجسدة أمامي بدقة متناهية، كل شيء فيها يأخذ حجمه الصحيح، قبل أن تلتهمها بالوعة العدم. أرى العالم كله من عدسة ناظور، كله الآن بديهيات، لم تعد ثمة ألغاز ولا أسرار.. كله على مستوى واحد من الوضوح. الزمن اختزل نفسه في بعد واحد، لم يعد ثمة ماض ولا مستقبل، أصبح حاضرا فحسب.. وشخصت البداية..» (ص 9-10).

تتجلى في القصص القرآني كل الحقيقة الإنسانية، وكل تحديات الحاضر. هذا ما جعلني أستلهم من القرآن الكريم أهم موضوعاتي الروائية. ففي روايتي الأولى، الحب المستحيل، تمحور الحكي حول الأمانة الواردة في الآية قبل الأخيرة من سورة الأحزاب. {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} فالأمانة هي أمانة العلم الذي أودعه الله الإنسان، عندما علمه الأسماء: {وعلم آدم الأسماء كلها} والظلم هو الجهالة المحكوم بها أزليا على الإنسان، والتي تجلت في زلاته في ماضيه وحاضره  وفي مستقبله. وهذا ما تكرسه المدن غير الفاضلة في الحب المستحيل. أما بنية مدينة الرياح فهي تَمثُّلٌ لقَصص سورة الكهف.  فالأجزاء الثلاثة في الرواية تتناص مع القَصص في هذه السورة: (قصة أصحاب الكهف، قصة موسى عليه السلام والخضر، وقصة ذي القرنين). كما أن هذه الأجزاء الثلاثة تتمثل المحطات الثلاث في قصة موسى عليه السلام والخضر (خرق السفينة، قتل الغلام، إقامة الجدار).

تتقاطع الثيمات في الرواية مع موضوعات القَصص في هذه السورة: السفر خارج الزمن (زمن الكهف) البصيرة (مجمع بحري المعرفة الإنسانية والمعرفة الإلهية)، الفعل وعلاقته بالخير والشر (خرق السفينة، قتل الغلام، إقامة الجدار)، وأيضا غرور الإنسان وقصور بصيرته (اعتراض موسى عليه السلام على أفعال الخضر).  وهي أمور تتمثل في الحكي من خلال حكم كاهنة أوداغوست على ﮜارَا: "لن تستطيع أبدا أن تحكم بتمعن على المستقبل بالحاضر.." (الرواية ص61).  وهو الحكم نفسه الذي تحكم به الكهانة على أوديب في تراجيديا صوفوكل. لكن التّناص يتجلى بشكل أوضح في كون "كهف" أصحاب الكهف برزخا زمانيا ومكانيا: {وترى الشمس إذا طلعت تزَّاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه..}. والمكان في مدينة الرياح كهف برزخي، فجمهورية ﺗﻧﮕَلَّ هي "جمهورية المنكب البرزخي الديمقراطية". كما أن أحداث الرواية تدور في الفضاء الموريتاني الذي يسميه الشيخ محمد المامي "المنكب البرزخي" ويقول عنه أبو الهامة: "هذه الأرض برزخ" (ص54)،  كما أن ﮜارَا يقول: "كهفي ممتلئ سوداوية إلى حد الفيضان.." (ص125)، وزمانها زمن كهفي: البطل ﮜارَا ينقله الخضير في اللازمان، من فترة تاريخية إلى أخرى. والحكي في الرواية ينتقل مرتين من الزمن إلى اللازمان حيث يفر البطل في نهاية الفصل الأول إلى قمة الجبل فيلتقي الخضير، ويفر في نهاية الجزء الثاني ليلتقيه مرة ثانية؛ مثلما هو الحال في سورة الكهف التي ينتقل قَصصها مرتين من الزمن إلى اللازمان: الأولى عندما يعتزل أصحاب الكهف مجتمعهم ويلجئون إلى الكهف، والثانية عندما يصل موسى عليه السلام إلى مجمع البحرين ليلتقي الخضر.

ومن أبرز إشكاليات هذا التناص المقابَلة بين الجزء الأخير من الرواية الذي يتناول مستقبل مجتمع التقانة، وقصة ذي القرنين التي تتناول مصير الأرض بعدما مُكن للإنسان فيها: {إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} كما أن ﮜارَا والثعلب و فاله وكلابها و النّمادي وكلابهم يشكلون في الرواية تمثلا لأصحاب الكهف وكلبهم، وأيضا فإن لاَزمة رواية مدينة الرياح: "إذا كنت رافضا للقدر فاعتزل البشر، وانفرد في الصحراء وانتظر أمر ربك.." هي تمثّل لنداء أصحاب الكهف {وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً} (الكهف:16) في نهاية الجزء الأول من الرواية، يهرب ﮜارَا من مجتمع بشري فاسد، مجتمع أُودَاغُوسْتْ فيأوي إلى رأس جبل الغلّاوية منتظرا الخلاص بالموت أو رحمة من الله، مجيبا نداء البعيد الذي جعل أصحاب الكهف يعتزلون مجتمعهم، فهو ينتج ويؤوّل على صعيد حياته البشرية هذا النداء الذي أجابه أصحاب الكهف. وهو نفس النداء الذي جعل موسى عليه السلام يقصد مجمع البحرين (بحر المعرفة الإنسانية وبحر المعرفة الإلهية) ليلتقي الخضر (الخضير في الرواية).

        يظن الإنسان أنه صائب النظر وأنه يسعى من أجل الخير وطبق الهدف الذي حدد لنفسه. لكنه في أغلب الأحيان يكون أعمى، بينما يظن أنه يبصر؛ فتنتج أفعاله عكس ما أراد. يظن الإنسان -والحالة هذه-أنه يسعى لمصلحته، وهو في الحقيقة يعمل لهلاكه. فيكون التخلص من الظاهر سبيلا أوحد لاكتشاف الحقيقة الجوهرية ومعرفة الحكمة الإلهية. وهذا بالضبط هو موضوع القَصص القرآني في سورة الكهف.  ففي مستهل هذه السورة تأتي قصة أصحاب الكهف الهاربين من ظلم المجتمع البشري، والذين يتقبلهم الله في رحمته، فيخرجهم من الزمن الفلكي ليدخلهم في الزمن الكهفي: {وترى الشمس إذا طلعت تزَّاور عن كهفهم ذات اليمين وإذا غربت تقرضهم ذات الشمال وهم في فجوة منه} ليرجعهم بعد قرون إلى مجتمعهم، فيروا ما آل إليه. ثم تروي السورة قصة موسى عليه السلام والخضر، التي تُظهر بجلاء قصور البصيرة الإنسانية وعجزها عن تقصي الحقيقة. وفي الأخير تروي سورة الكهف قصة ذي القرنين الذي ملك المشرق والمغرب، وجال الأرض مكتشفا الوجوه المختلفة لفعل الإنسان فيها، حتى وصل بين السدين وأقام السد دون يأجوج ومأجوج. وتُستنتج دلالة هذا القَصص في الآية  97 من السورة: {قل هل نُنَبِّئُكُمْ بالأخسرين أعمالا الذي ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}. يستوحي نص مدينه الرياح هذا المعنى ويتناوله على صعيد الزمن البشري، زمن التاريخ، ليقارن أفعال البشر في فترات متباعدة من التاريخ، لكن ضمن تاريخ بلد واحد (موريتانيا) من الماضي إلى الحاضر والمستقبل، تقاس من خلالها بصيرة الإنسان، وهل هو يسعى إلى الخير أم إلى الهلاك، وهل أن الإنسان ينتقل، بفعله في التاريخ إلى الأفضل أم أنه يرذل. هكذا يكون ﮜارَا، بطل رواية مدينة الرياح، الضمير الذي يقارن بين الماضي والمستقبل في مسيرة التاريخ، وهو الإنسان المنتشل من المستقبل البعيد ليروي ذاكرة الماضي السحيق.

أما تأويل قصة ذي القرنين من سورة الكهف في مدينة الرياح فإنه نتج عنه تصور لما سيؤول إليه مجتمع التقانة. فعند ما أتدبر محطات ذي القرنين في سورة الكهف، وأتدبر تمكينه في الأرض وإتيانه أسباب الأشياء كلها، فالذي يتبادر إلى ذهني هو الإنسان التقاني الذي غزا مشارق الأرض ومغاربها، والذي تحكم في الطبيعة: {إنا مكنا له في الأرض وآتيناه من كل شيء سببا} (الآية 83). وعندما أتدبر ما ورد في القرآن الكريم عن محطات ذي القرنين (العين الحمئة، القوم الذين تطلع عليهم الشمس دون ستر ، البشر الذين لا يفقهون قولا و يأجوج ومأجوج) فإنه يحضر ذهني تلوث المياه وتشقق طبقة الأوزون في الغلاف الجوي التي نتجت عن جهالات البشر وفساده: {إن يأجوج و مأجوج مفسدون في الأرض} (الآية 90) وهي كلها أمور تذكر بما آل إليه مجتمع التقانة. رافق هذا التأويل لقصة ذي القرنين في الجزء الأخير من رواية مدينة الرياح توظيف آخر للتراث في مجال الموسيقى الشعبية البيظانية (موسيقى البيظان، الموريتانيين البيض) من خلال استلهام (جانْبَتْ الغول) طريق ﮔﻠنَيْدِيَّ في التِّيدِنِيتْ، التي أوحت بمجتمع مستقبلي وقع في التهلكة. فمَوْسَقَتْ ﻟﮕنيدي الجزء الأخير من الرواية الذي يتناول مجتمع ﺗﻧﮕَلَّ ومدينته غير الفاضلة (مدينه الرياح)، ﺗﻧﮕَلَّ "الغول الْمُلَوِّثْ" (الرواية) الذي حوّل المجابات الكبرى إلى مخزن للنفايات السامة. 

  II. مَوْسَقَةُ الرواية

ينتظم نص مدينة الرياح تحديدا على شكل جلسة موسيقية بيظانية، وتأتي أجزاؤه وفصوله على شكل طرق ومقامات التيدنيت (عود الموسيقى البيظانية). فيقابل الجزء الأول من النص الطريق السوداء (أول طرق التيدنيت)، والجزء الثاني يقابل الطريق البيضاء (الطريق الثاني من التيدنيت)، ويقابل الجزء الثالث طريق ﻟﮕنيدي (الطريق الثالث في التيدنيت)، لأن هذا الجزء من الرواية يتناول المجتمع التقاني المستقبلي الذي فقد إنسانيته ولأن طريق ﻟﮕنيدي تمثل الموسيقى التي لم يعزفها البشر، بل إن عازفها هو الغول انْوَفَّلْ (الغول لغة يعني الهلكة، وكل ما أهلك الإنسان فهو غول، أو الغول: كل ما زال به العقل). جاءت ﻟﮕنيدي في النص باسم برج التبانة، لأنها ترمز لعالم آخر، ولأن عازفها لا ينتمي إلى عالم البشر، ولأن الجزء الأخير الذي يقابلها تدور أحداثه في فترة مستقبلية هاجر فيها بعض البشر من الكوكب الأرضي إلى عوالم أخر، وفيها صارت بعض الكائنات الفضائية تجوب برج التبانة، وأحيانا تحط على الأرض بحثا عن شذرات من عصرها الذهبي، كما هو حال سُولِيمَا التي تصطاد النفوس الخيّرة، مسافرة في الثقوب السوداء بسرعة الضوء، من نقطة إلى أخرى من مجرتنا. وهي ترمز في الرواية إلى نَمَادِي الفضاء المقابلين لنَمَادِي المجابات الكبرى. هذا ما جعلها تساعدهم في ثورتهم البيئية. واسم (سوليما) منحوت من الحروف الأولى من كلمات فرنسية ثلاث: Soleil (الشمس) و Libya (اسم النقطة 32 من الخريطة الأرضية لكوكب المريخ) و Mars (المريخ)، وذلك لأنها لما كانت تُحضِّر رحلتها إلى الأرض تدربت في "مركز تدريس اللغات والحضارات الإنسانية" الموجود داخل النظام الشمسي في ليبيا، على المريخ...

في مراكز تخزين النفايات السامة، التي ترمز إلى هَلَكَةِ مجتمع التقانة وفساد أهله في الأرض، جاءت موسيقى ﻟﮕنيدي، طريق الغول انوفل، كما وصفها ﮜارَا: «ثقيلة، صاخبة، حادة، متلاحقة، سريعة، تعجل عن الآذان فتخترق الجسم، لتدخل من جميع مسام الجسد، ألحانها غليظة فاحشة..» (ص162). ويضيف ﮜارَا واصفا هذه الموسيقى )في الصفحة 164 (: «كنت منزعجا شديد التوتر من الموسيقى الجحيمية التي تبعث النكد وتدفع إلى الإحساس بالقرف والغثيان؛ كتائب مسلحة بعتاد كثيف من الآلات الكهربائية والالكترونية تتبارى في الصخب الذي يفجر طبلة الأذن، وينفذ إلى مواطن الإحساس، كالمكاوي؛ سيل عرم من المفرقعات المحطِّمة للسكينة، العديمة التناسق والتناغم، يرافقها صراخ مسعور، يكرر ذات النبحة في نشاز أبدي. كلمات الأغنية في ضمير الأنا تحكي عناد البشر في ضلالاتهم، موقعة على أوزان قصيرة مبتذلة..». 

تقابل مقدمات أجزاء الرواية الثلاثة مداخل طرق التيدنيت وتوجد في كل جزء خمسة فصول تقابل المقامات (أَظْهُورَ) الخمسة، المشكلة لكل طريق من طرق التيدنيت، وهو ما يوضحه الجدول التالي: 

(جدول التّناص بين مدينة الرياح و التيدنيت )

 

مدينة الرياح

التيدنيت

الجزء الأول: برج السوداء. (تدور

أحداث هذا الجزء من الرواية في قرى

ﮔﻧﮕار َالسود)

 

اطْرﻳﮓْ الكَحْلَ (خَبْطَتْ لَكْوَرْ): معزوفة لكور(الزنوج):

ﮔُولْ الحَمَّادِ كانْ اسْعَ/ وَجْبَرْ مَانْ اسْلاكَتْ لَنْفَاسْ

اُمَرَّتْ عَنُّ ذِيكْ الخَلْعَ/   إِسَوَّلِّ ذاك امْنْ النَّاسْ

عنْ ﻟﻓﮔيعَ وا ﻟﻤﻓﮕﻊ /   شَنْهِ مارَتْهُمْ فَنْتَماسْ

ﻟﻓﮔيعَ َ خَبْطَ تُمَوَّرْ        /مارَ فَالتَّاشَبَّطْ تَظْهَرْ

وا ﻟﻤﻓﮕﻊ خَبْطَتْ لَكْوَرْ/ مَارَتْهَ فَلْمَهْرْ اَرَدَّاسْ وَاصْلْ انْتَمَاسْ ادْخُولْ افْكَرْ/ فِيهْ الطَّزَانَ غَيْرْانَّاسْ

ﮔَالَتْ عَنُّ هُوَّ ذَ الدَّهْرْ/  فَاصَلْ فَطَّزَانَ والسَّاسْ

مقدمة الجزء الأول: آﮔْوَيْدِيرْ

(بحوث أثرية في مقبرة الغَلاَّوِيَّة القديمة)

آﮔْوَيَدِيرْ: شُورْ فَكْحَالْ انْتَمَاسْ (مقام من فواتح الطريق السوداء، وكلمة آﮔويدير تعني المقبرة (

الفصل الأول: "الذهب": وصف قافلة الملح التي كانت تجوب "بلاد الذهب": الاسم القديم لمواطن زنوج موريتانيا

 

ثيمات الفصل الأول:

- وصف تحميل القافلة.

- الأب يخذل ابنه ﮜارَا.

- ظهور شخصية النصراني الكافر.

- فاله، بطلة الرواية وأيضا اسم امرأة من شنقيط مشهورة في تاريخ موسيقى التيدنيت

كَرْ اطْرِﻳﮓْ الكَحْلَ: انْتَمَاسْ (المعزوفة الأولى من الطريق السوداء)

 

 

لَشْوَارْ (المقامات):

- آوديد (أصل هذا الشُّورْ محاكات رغاء الإبل

عند تحميل قافلة تِيشِيتْ)

- ﮔَيْوَارْ: يدل اسم هذا المقام على الخَذُولِ

- لَكْوَيْفَرْ: الكويفر

- فاله: شاهده: «يُوﮔِ يَيُوﮔِ بُولَيْدِي»

 

الفصل الثاني: مُوسَ اسْبَعْ

- البَرْزَخْ: مكان الرواية.        

ثيمات الفصل:

- أطفال القرية يمارسون لعبة "ادْيَرَا لاكَسِّ"(استحداث زئير الأسد)

- حنين البطل إلى قريته وأصدقائه.

- زوجة تَالُوثَانْ تعشق رجلا آخر.

فَاغُ اطْرﻴﮕ الكَحْلَ: ﺗﻧﭼُوﮔَ.

البَرْزَخْ ادْخُولْ(مقدمة) في ﺗﻧﭼُوﮔَ

لشوار (المقامات):

- مُوسَ اسْبَعْ (استحداث زئير الأسد)

- المَشَوَّشْ: اسم هذا المقام يعني (الذي يحن إلى الأحبة)

- اتْرَوْجِيحْ: اسم هذا المقام يعني (ترجيح شيء أو شخص على آخر) كلماته: يَلاَّلِ نَخْتِيرٌ عَنٌّ

الفصل الثالث: الرَّشْقُ

 

 

ثيمات الفصل

- المطر يفاجئ القافلة التي تضطر إلى دفن أحمالها. وتصل غَانَا، آخر قرى السودان، قبل أوْدَاقُوسْتْ وفيها يتعرض البطل للرشق مع باقي عبيد القافلة

- البائعة تعرض سلعها على ﮜارَا، رغم أنه مربوط إلى مؤخرة الجمل، ويمشي بين رجليه تفاديا لرشق الأطفال.

 

اكْحَالْ اطْرﻴﮔْ الْكَحْلَ: هَيْبَ

 

 

لَشْوَارْ (المقامات):

 

- الرَّاﺷﮔَ: وكلمة الَّرﺷﮔَ تعني نوبة المطر

 

 

- اتْعَسْرِ، وكلمة اتعسر في الحسانية تدل

على شيء يأتي في غير موضعه.

 

الفصل الرابع: اللَّيَّنْ

 

ثيمة الفصل

- البطل يقع في حب فاله في أوْدَاغٌوسْتْ

سَنِّيمَ الْبَيْظَ: ﻣﻐﭼّوﮔَ (مقام الحب في التيدنيت)

 

لَشْوَارْ (المقامات):

- اللَّيِّنْ

 

الفصل الخامس: الْبَرَّانِ

 

ثيمة الفصل:

- بعد ظهور المذنب يحدث انقلاب في كيان البطل الذي يصبح "غريبا على الأرض" (ص70)

 

ابْتَيْتْ اطْرﻳﮔْ الكَحْلَ: بَيْقِ

 

لَشْوَارْ (المقامات):

- الْبَرَّانِ: كلمة البران تعني الغريب

- الْهَايْمَاتْ: (الهائمات)

 

الجزء الثاني: "برج البيضاء" (البيظان والنصارى): تدور أحداث هذا الجزء في الفضاءات التي يسكنها البيظان، كما يتناول عاداتهم وتاريخ موريتانيا الحديث (مجيء المستعمر، قتل كبلاني)

 

اطْرﻳﮔْ البَيْظَ: مقام لَبْيَاظْ يرمز إلى البِيظَانْ وإلى لغتهم (وَذْنُ بَيْظَ، اَبَيْظَنْ مَنْ تِيدِنِيتْ وَلْ مَانُ)

 

المقدمة: "الطبل" (الرياح "تدوي في جنبات الكدية كالطبل") (ص 81)

 

كتائب النسور تحوم باحثة عن جثة، تنتظر موت البطل

ادْخُولْ اطْرﻳﮔْ البَيْظَ: مَكَّ مُوسَ

 

لَشْوَارْ (المقامات):

 

  • أﮔَتْمَارْ (كلمة أﮔَتْمَارْ تعني الطبل)

اتَّحْوَامْ (لَعْسَيْرِ): كلمة التحوام في الحسانية

 تعني حَوَمَانُ الطير

 

الفصل الأول: "الأبكم"

ثيمات الفصل:

- البعثة الأثرية تلتقط البطل من قمة جبل الغلاوية وهو فاقد الكلام.

- فاله خائفة من هذا الجسم الهامد، فهي تصرخ وتلوذ ﺒﮔُوسْتْبَسْتَرْ

- مجنون الكلام (القناص المهذار)

- سقوط البطل من فوق الجمل يعيد إليه قدرته على الكلام

 

 

كَرْ اطْرﻳﮔْ البَيْظَ مَكَّ مُوسَ

لَشْوَارْ (المقامات):

أَنَيْوَالْ لَبْكَمْ:الأبكم. شاهده:

وَلْفِ دَمْعَتْهَ بَتَّجْلاَجْ      /يَامَسْ تَجْرِ مَاسَكْنَتْ

أَرَاعِ ذُوكْ اذْنُوبَكْ يَالْحَاجْ/ هَيَّ ﮔَاعْ اتْبَانْ اﻧﻓﮔﻌَتْ

- اتْشَيْمِّيرْ (كلماته: ظَحْكَتْ فَالَهْ تَنْزَاهْ الْعَيْنْ...)

- لَمْجَيْنِينْ (تصغير كلمة مجنون): اسْرُوزِ لَكْحَلْ

- كَلَمْتْ الَبَيْكَمْ (اسم هذا الشور يعني كلمة الأبكم)

 

 

الفصل الثاني: "انْتْرَشْ"

 

ثيمات الفصل:

- البطل يحل محل مَرْدُوشَا في خدمة فاله       

- فاله تختار "مَعْطَلَّ" اسما للبطل.

فَاغُ اطْرﻳﮔْ الْبَيْظَ: اسْرُوزِ

 

لَشْوَارْ (المقامات):

- انْتْرَشْ (وكلمة  انْتْرَشْ تعني أقحم في الأمر)

- الْحَرْ (وكلمة الْحَرْ تعني العتيق: معطل اسم من أسماء العتقاء)

 

الفصل الثالث: التَّرِكة

 

 

ثيمة الفصل:

يتناول هذا الفصل الإرث الحضاري الموريتاني من خلال خصوصيات مجتمع البيظان القديم

وتقاليده

 

اكْحَالْ اطْرﻳﮔْ الْبَيْظَ: انْيَامَ

 

لَشْوَارْ (المقامات):

- التَّرِكَة )الميراث(: (شُورْ فَتَّحْزَامْ)

 

الفصل الرابع: محنة

 

ثيمة الفصل:

-  يتناول هذا الفصل محنة الاستعمار من خلال وصف السيبة في ﺗﺟﮕﺞ إثر قتل كبلاني

 

ابْيَاظْ اطْرﻳﮔْ الْبَيْظَ: جَيْنَّ

 

لَشْوَارْ (المقامات):

- الْمَحْنَ (المحنة)

 

الفصل الخامس: "العتق"

ثيمات الفصل

- عملية تنفذها المقاومة ضد بعثة المستعمر أثناء ترحالها بين ﺗﺟﮕﺞ وتيشيت

- البطل يهرب من أسر ﮔُوسْتْبَسْتَرْ

اْبتَيْتْ اطْرﻳﮔْ البَيْظَ: ﻟﻌﺘﻳﮔْ (العتق)

 

لَشْوَارْ (المقامات):

- لَرْحَالْ (الأرحال)

- الرﻣﮕانِ

 

الجزءْ الثالث: "برج التبانة"

 يتناول هذا الجزء الأخير من الرواية الدواهي التي تهدد البشر بالهلاك بعدما عم الفساد الأرض. (من شخوص هذا الجزء: الغول ﺗﻧﮕَلَّ (كل ما أهلك الإنسان فهو غول)        

اطْرﻳﮔ ﻟﮔنيدي: اطْرﻳﮔْ الغُولْ انْوَفَّلْ (طريق الغول انْوَفَّلْ)، وكلمة غول تعني الهلكة والداهية. "ﻟﮕنيدي اطْرﻳﮔْ فَتِّيدَنِيتْ "بَيْنْ اسْمَ واتْرَابْ"("ﻟﮕنيدي طريق في التيدنيت بين السماء والأرض"، كما يقول موسيقيو البيظان)

 

المقدمة: "انْوَفَّلْ"

ادْخُولْ ﻟﮔنيدي: انْوَفَّلْ

 

الفصل الأول: "الْمَاشِ"

ثيمات الفصل:

- البطل يتيه بلا هدف في منطقة الباطن ويكتشف مركز النفايات السامة

كَرْ اطْرﻳﮔ ْﻟﮕنيدي: انْوَفَّلْ

 

لَشْوَارْ (المقامات):

- الْمَاشِ (الماشي)

 

الفصل الثاني: النَّوْحُ

 

ثيمات الفصل:

- البطل يبكي ويصرخ مستنجدا بالخضير (ص 154)

- أُمَّة مراكز النفايات السامة هي شر الأمم

 

فَاغُ اطْرﻳﮔ ﻟﮕنيدي: فَاغُ لَكْبِيرْ

 

لَشْوَارْ (المقامات):

- انْوَاحْ: الصيغة الحسانية لكلمة "النوح " في الفصحى

- الرﮋَّ: الصاعقة

 

الفصل الثالث: نهوند

 

ثيمة الفصل:

- سوليما تتغول للبطل في صورة امرأة فاتنة

اكْحَالْ ﻟﮔنيدي: نَهَوَنْدْ

لَشْوَارْ (المقامات):

- اﺗﮋَخْرِيفْ: اسم هذا الشور يعني التشكل في ألوان بديعة

الفصل الرابع: لَبْرَازْ(المبارزة)

 

ثيمات الفصل

- مبارزة كلامية بين سائق شاحنة النفايات السامة وخفيرها

- يتقمص البطل زي سُولِيمَا للتخفي ويتمكن من الهروب من مركز النفايات السامة ليلجأ إلى دار فاله     (يقف عند الباب مناديا: فَالَه افْتِحي الدار") ص 176

- "كانت فاله حزينة دائما، تبكي أحيانا

بدون سبب مفهوم... كانت تغيب أسابيع

طويلة..." ص 179

 

ابْيَاظْ اطْرﻳﮔ ﻟﮕنيدي لَبْرَازْ، ﭽﮔْرَاتْ، ﻣﻧﭼَلَّ

 

شاهد مقام انْوَفَّلْ: "فَالَه حَلِّ ادَّارْ..." (فاله افتحي الدار)

 

لشوار:

ﭽﮔْرَاتْ  شاهد ﭽﮔْرَاتْ:

 "آن ﮋﻧﮕرَ  نَبْغِيهَ       /هِيَّ قَالَتْ مَا تَبْغِينِ

آنَ نَفْرَحْ بَمْجِيهَ              /هِيَّ تَبْكِ لَيْنْ اتْجِينِ

(أنا ﮋﻧﮕرَ أحببتها        /وهي تصدني

أسر بقدومها   /وهي تبكي حين تجيئني)

الفصل الخامس: "ﺒﻳﮔِ الْمُخَالَفْ"

ابْتَيْتْ اطْرﻳﮔ ﻟﮕنيدي: ﺒﻳﮔِ الْمُخَالَفْ

 

جاء هذا التقابل بين أجزاء وفصول الرواية وطرق ومقامات التيدنيت ليبرز علاقة موضوع الحكي في كل جزء مع دلالات الطريق المقابل في التيدنيت، والعلاقة بين ثيمات الفصول وثيمات المقامات. وهذا التناص بين الرواية والتيدنيت نابع من الطبيعة المشتركة للزمن الروائي والزمن الموسيقي، لأن الأدب والموسيقى يحاكيان زمن الأسطورة، ولأن زمن الرواية وزمن الموسيقى، حالهما حال زمن الأسطورة، ينقذان من مأساة النهاية. يكثر الاسترجاع في الرواية لأن موسيقي التيدنيت تفرض الترديدة والاسترجاع والتنويع، ويستدير زمنها كما يستدير الزمن في طرق التيدنيت ومقاماتها. هكذا إذن تنهل رواية مدينة الرياح من معين ميتلوجيا موسيقى التيدنيت، وبهذا تكون رواية سينفونية بالمعنى الحقيقي.

 III. ﮔﺎرَا، شاهد على الزمن

إن تراجيديا والدين واختيار المكان والزمن السيسيو تاريخي، تشكل مسوغات أسست خلال الحكي وجوه ﮜارَا المختلفة. والحدث الملهِم الذي انطلق منه الحكي، في مدينة الرياح، كان اكتشافَ هذا الاسم. كانت الفكرة التي سبقت اكتشاف اسم بطل الرواية وكتابتها تتصور عملا روائيا أقرب إلى اللوحة السيسيو تاريخية للمجتمع الموريتاني. هكذا فرضت الفترة المرابطية نفسها كبداية، لأنها المرحلة المؤسسة لتاريخ هذا البلد. في تلك الفترة كان صنهاجة يقطنون شمال وغرب موريتانيا، بينما كان ﮔﻧﮕار َ يسكنون الجنوب والجنوب الشرقي، فيكون إذن المجتمع الصنهاجي-ااﮕﻧﮕارِي هو مجتمع الرواية. ومن ثم جاء دور موسيقى التيدنيت التي أنتجها المجتمع الصنهاجي-ااﮕﻧﮕارِي، بثلاثيتها التي طبعت ثقافة البيظان والتي شكلت ثلاثية النص. وخلال بحثي عن أسماء شخوص هذه الفترة التي قد ترد في الحكي، اكتشفت أن الاسم الحقيقي لعبد الله بن ياسين، داعية المرابطين، هو سيدي عبد الله مُولْ ﮜارَا، ووجدت أن "ﮜارَا" اسم يعبر بجلاء عن تلك المرحلة من تاريخ هذا البلد، ببعديها الصنهاجي وااﮕﻧﮕارِي. ف"ﮜارَ" (قَارَةٌ) كلمة تحمل رنينا سودانيا ﮔﻧﮕاريا، وهي في نفس الوقت كلمة بيظانية عربية. وبما أن سيدي عبد الله مول ﮜارَا، المعروف بابن ياسين، كان بطل تلك الفترة التاريخية، توصلت إلى نتيجة مؤداها أن اسم بطل الرواية سيكون "ﮜارا". وجاء اسم أبي البطل "فارَا مُولْ" نتيجة لهذا الإلهام: "مول"، إشارة إلى الأصل البربري لاسم ﮜارَا، و"فارا" إشارة إلى أصله ااﮕﻧﮕارِي. وهكذا تكون ثنائية الفترة، بجانبيها الصنهاجي وااﮕﻧﮕارِي، قد تجسدت في اسم البطل. عندها بدأت استكشف هذا الاسم، أعني اسم ﮜارَا ٬ لأن الاسم، كما يقول رولان بارت (Roland Barthes) «يمكن أن يستكشف وأن يتكشف وتحل رموزه. فهو وسط بالمعنى البيولوجي، يمكن أن نغوص فيه، ونسبح إلى ما لانهاية في التأملات والمتخيل اللذين ينطوي عليهما، كما تحتوي الصَّدَفَةُ درتها، أو كما تختزن الوردة أريجها قبل تفتقها. وبعبارة أخرى فإن اسم العلم يحمل دائما في طياته معنى مكثفا.»

        إن تفتق معنى ودلالات اسم ﮜارَا هو الذي أعطى لشخص بطل الرواية وظيفته كشاهد على الزمن الغابر، والذي يمكن أن يجتاز الحقب. وهذا المعنى المستوحى من طيات الاسم هو الذي أوجد فكرة حكي يتناول فترات زمنية متباعدة. كما أنه أوجد فكرة انتقال البطل من الزمن الفلكي إلى اللازمان، لكي يتمكن من الانتقال من فترة زمنية إلى أخرى. ومن ثم جاءت فكرة الزمن الكهفي وفكرة الخضير، مَلَكُ الزمن، الذي يمكن البطل من الانتقال في اللازمان. يظهر من هذا أن الرواية كلها تبلورت انطلاقا من استكشاف دلالات هذا الاسم.

         هكذا يُنْزَعُ البطل من الزمن، ليُخلّص من مأساته، وليصير شاهدا عليه. فيتحول إلى كائن خارج الزمن، يُنتشل ليدلي بشهادته. إلا أن ﮜارَا كان منقطعا عن ذاته وعن الآخرين وعن الزمن الماضي، عاجزا عن التذكر في كل الفترات التي عاشها بعد الفترة الأولى. النوم وحده هو الذي يمكنه -في نوبات أحلام وجيزة- من الشعور بذاته وبالأزمنة الغابرة التي عاشها. لكنه مع كل يقظة يفقد ذاته ويرجع إلى عبثية وجوده. فقط، وبعد موته، عندما انتشل بعد أزمنة طويلة، باح بسره، ودخل دائرة الخلود. بعد تحليل معهد أركييولوجيا الفكر الإنساني لبقايا مادة لَمْيَلِينْ في جمجمته، ظهرت الأفكار التي اختلجت في نفسه لحظة سكرة الموت، والتي حملت شهادته على القرون التي جابها. وهكذا تكون سكرة موته قد أنتجت لحظة تخيل أدبي، صار بموجبها فعل حياته فعل بطل، وتلك هي وظيفة التذكر التي تسمو بالحياة إلى قدر إلهي، حسب عبارة أفلاطون. هكذا شكلت عظام ﮜارَا النخرة، التي حتها الزمن، الصفحة البيضاء، الفارغة، الموحية باليأس والموت والتي عليها كتب الباحثون الأثريون، بعدما عبطوا الأرض، ملحمة حياة دامت أكثر من عشرة قرون، واسترجعها البطل-الراوي لحظة سكرة موته. فانتفت الصفحة البيضاء، وفُتح الباب لقدر معاكس. فنتجت من حكاية، تبدو تافهة، إرادة خلاّقة أعادت إنتاج ميثولوجيا مذهلة.

  IV. عبقرية المجابات الكبرى

تتضافر أمور كثيرة تجعل من المجابات الكبرى مسرحا روائيا خصبا. فلم يكن من الممكن أن تتجسد لوحات مدينة الرياح ولا أن توجد شخوصها خارج هذا الفضاء الصحراوي المترامي الأطراف، والذي يجعل الإنسان في مواجهة مع نفسه ومع الكون. فلا يمكن مثلا أن نتصور مصير ﮜارَا المأساوي أو كوارث التلوث التي وردت في الرواية خارج هذه المفاوز المهلكة. وهنا تظهر بجلاء جدلية المكان ومسميات الشخوص. فالوجوه الأصلية لاسم ﮜارَا، بطل الرواية، ترجع إلى المجابات الكبرى. فكلمة "ﮔَارَ" تعني في الجغرافيا البيظانية "الجُبيل المستدق، المنفرد، الأسود، شبه الأكمة، مَلْمَلَهُ الحَتُّ، فبقي شاهدا على طبيعة عبثت بها عوامل التعرية". أخذ منه بطل الرواية اسمه ولونه الأسود، كما أخذ منه وظيفته كشاهد على أزمنة غابرة. فالمجابات الكبرى مملوءة ﮜورًا، كما هو حال ﮜارَا، الذي تَفَلَّقَ في المجابات الكبرى، فصار ﮜورا (الفتى القنقاري المخطوف، المشدود إلى ذنب جمل، والعبد الثائر في أوداغوست، والفتي الكهفي على جبل الغلاوية، والثائر الإيكولوجي في المجابات الكبرى.)

وبما أن الرواية تنطلق من الزمن والفضاء الموريتانيين كان لزاما أن تدور أحداثها في المجابات الكبرى التي صهرت طبيعتها الإنسان الموريتاني، وأنتجت أساطيره وثقافته. غير أنني اضطررت إلى تغيير التناغم الجمالي في هذا المكان من محطة من الحكي إلى أخرى. هكذا تنتقل الرواية من فضاء طرق القوافل الرحب، المفتوح، في الجزأين الأول والثاني، إلى الفضاء الضيق، الحرج، داخل مراكز تخزين النفايات السامة التي غزت المجابات الكبرى في الجزء الثالث. جاء هذا الديكور الأخير عندما غير ﮜارَا وجهه، ليغرق في تشاؤم مطلق.

V. دلالات الأسماء

عندما أكتب أترجم، أحاول أن أبث حقيقة جديدة في اللغة والمصطلحات تتجاوز قواعد التلقي والتقبل، لتنتج نصا يوحي - من خلال شرف المعنى- بدلالات جديدة للأمكنة والأزمنة والشخوص والمصطلحات، وأكون مترجما يؤَوِّل دائما الألغاز الكبرى للحياة. هذه الترجمة تنتج معاني جديدة لا توجد في أي قائمة للمصطلحات أوفي أية لغة، وتؤدي إلى النشوة الموسيقية وتحيل على الميتافيزيقا. ويتجلى تفتق هذه المعاني عندما يجتاز الإبداع حدود اللغات. هكذا فإني، ومن خلال اسم واحد من بين أسماء شخوص رواية مدينة الرياح، ﮔُوسْتْبَسْتَرْ(Ghostbuster) الذي نحت ليتناغم مع اسم أوْدَاغُوسْتْ، أتجاوز اللغات لأصل إلى صميم معنى وظيفة هذا الشخص في النص. فتصير كلمة قوستبستر في الرواية اسما لرئيس البعثة الأثرية التي تبحث عن أوداغوست، مدينة القوافل المفقودة، التي طمرتها الرمال ولم يعد أحد يعرف مكانها.  فتشكلت كلمات ثلاث، تبعا لإيقاعها الموسيقي - Ghost )ﮔوست( "شبح" بالانكليزية،  Buster(باستر) "باحث"، و"Aoudaghost" ("أوداغوست"، الاسم الصنهاجي لمحطة القوافل المفقودة في الصحراء)- فجاءت كلمة "Gostbuster" اسما للباحث الأثري في الرواية، الذي يعني اسمه بالانكليزية الباحث عن الأشباح...

 

ترتبط دلالات الأسماء بمواضع الحكي في روايتي الحب المستحيل ومدينة الرياح. فأسماء الشخوص ليست اعتباطية، وإنما هي ذات دلالات، وتحمل في طياتها مواضيع الحكي، وهكذا تظهر الجدلية بين الأسماء والسرد. وقد تمثل بعض أسماء الشخوص نقطة انطلاق تشكل النص، وفي بعض الأحيان تفرض أسماء الشخوص نفسها انطلاقا من مسار السرد. ففي الحب المستحيل تشكل النص انطلاقا من اسم آدم الذي يرمز للإنسان الكامل، الرجل الأول الذي خرجت من ضلعه المرأة وبسببها وقع في الخطيئة، ونقض الميثاق الإلهي، فطرد من الجنة. وقصة سيدنا آدم تنبئ بزلات البشر في العصر المستقبلي، والتي يتمحور حولها النص. فاسم مَاِنكِي (Manikè) بطلة القصة، يترادف مع كلمة manikè التي تعني في اليونانية "فن التنبؤ بالمستقبل" و تعني أيضا في اللغة اليابانية المرأة التي عرفت الحب. وترمز هذه البطلة لشخص المرأة المتحكمة في مصير الرجل، وقد مثلت قدر آدم في الرواية، الذي تحول إلي امرأة من أجل أن يعيش حبه معها. أما (Androgyne)

خُنَاثَةُ في الحب المستحيل، فهو شخص يرمز، كما يوحي اسمه، إلى اختلاط الأدوار وإلى محو الفوارق بين الجنسين، الذي تفاقم في المجتمعات الحديثة. وفي الحب المستحيل يوجد أيضا شخص ريمان(Riman) الذي يوحي اسمه بالشيطانية ويمثل أهل الشر في المجتمعات الحديثة. أما شخص أبو الهامة "الرجل الدميم عظيم الهامة" في روايتي الحب المستحيل ومدينة الرياح فهو سقراط، كما وصفه أفلاطون في كتابه الثناء على سقراط. ويعود وجود شخصي الشيطان وسقراط دون أي تغيير في اسميهما أو في ملامح شخصيهما، من نص إلى آخر، إلى كون الأحداث التي تدور في الروايتين هي تجسيد للصراع الأزلي بين الخير والشر، وذلك من المنظور الديني-الفلسفي الذي جسده أبو الهامة (سقراط) في الجزء الأخير من مدينة الرياح، حيث ظهر وقد أعفى لحيته وجعل على هامته طاقية الأصوليين، وتحدث بوعظهم. يوجد مسوغ آخر لظهور سقراط في مدينة الرياح، وهو أن بعض استتباعات قراءتي لأسطورة المأدبة (الأفلاطونية) التي وردت في الحب المستحيل توجد أيضا في مدينة الرياح: فإذا كان العقاب الإلهي الذي نزل بالجنس الأنْدْرُوجيني قد نتج عنه ظهور الجنسين، الذكر والأنثى، فإن هذا الفصل رافقه فصل آخر فصم شعور كل إنسان إلى ثنائية الوعي واللاوعي، التي لا تقل خطورة عن فصل الإنسان اللأندروجيني المتكامل، بأنوثته وذكورته، والذي جعل منه الزوجين الذكر والأنثى، كما ورد في أسطورة المأدبة. هذه الثنائية بين الوعي واللاوعي شكلت موضوعا محوريا في رواية مدينة الرياح.

هذه بعض التجليات التي أمكنتني من استلهام التراث في كتابة رواية الخيال العلمي.

(1)* صدرت رواية الحب المستحيل بالفرنسية سنة 1990 عن دارL'Harmattan  تحت عنوانL'Amour Impossible  قبل أن تصدر بالعربية عن دار الآداب سنة 1999.  وأيضا صدرت مدينة الرياح أولا بالفرنسية عن دارL'Harmattan  سنة 1994 تحت عنوان Barzakh  قبل أن تصدر بالعربية عن دار الآداب سنة 1996.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مواضيع ذات صلة: