التظاهر حكمه ودوافعه / محمدأحمد الأمسمي

اثنين, 06/19/2017 - 12:00
محمدأحمد الأمسمي

يتحدث العلماء وقادة الرأي عن التظاهر كوسيلة من وسائل التعبير عن المطالبة بالحقوق أو الرفض أو الاعتراض على ممارسات معينة ممن بيدهم السلطة أو سن القوانين، والتنظيمات التي تمس فئات المجتمع المدني، فيشعر العمال أو النقابات أو الشعب بما فيها من جور عليهم أو تجاوزات يحصل بها الضرر عليهم في حياتهم اليومية أو معايشهم ومكاسبهم أو مرتباتهم وحقوقهم الوطنية أو المدنية، ونظرا لكون المظاهرات اشتهرت أولا في بلاد الغرب بعد الثورات الطاحنة التي شهدتها أوروبا للوقوف في وجه طغيانات الكنيسة الدينية والعقلية والعلمية من جهة، وللقضاء على الاستبداد ونظام الإقطاع والسخرة التي كان الملوك والنبلاء يمارسونه على من تحت أيديهم من العمال الذين هم في الغالب عامة الشعب، فكانت هذه المظاهرات الاحتجاجات قوية وعنيفة لقوة المعاناة وطولها على تلك الشعوب، وذلك التصوير التاريجي لهذه الأعمال نفر العقلاء وخصوصا من يفزعه ما آلت إليه تلك المظاهرات من قتل وتدمير، وما نجم عنها من خراب استمر لسنوات، فنظر إليها فقهاء الإسلام الذين لم يمارسوا السياسة، ولم يتعرضوا للمعاناة التي تحوجهم للبحث العلمي  لتخريج حكم المظاهرات تخريجا يوضح حكمها في الشرع الذي ما جاء إلا  ليحلل أو يحرم، أو يفسر الوقائع تفسيرا نصيا أو عقليا حتى يعرف المسلم حكم الله فيها، فسهل عليهم الحكم بحرمتها، لما يترتب عليها مقارنة بما يحصل للناس من الأمن واستمرار الحياة ولو مع لحوق الأذى والظلم لبعض الناس سواء كان مستمرا أو موسميا، ثم ظهر قادة رأي يشاركون أولئك الفقهاء في فهم مقاصد الشرع وسعيه لإزالة الظلم والحيف عن الناس وزادوا عليهم بالثقافة الواقعية، عن الأمور المعاصرة وشاهدوا ثمار تلك المظاهرات في بلاد الغرب وقوة تأثيرها على من يفكر في الظلم والجور أو استغلال الناس واتخاذهم سخرة في العمل الشاق، وحرمانهم من حقوقهم ورواتبهم المناسبة وعطلهم وراحاتهم السنوية، وما يجب على أرباب العمل التكفل به وضمانه لهؤلاء الكادحين، فوقع الخلاف بين هذين التيارين في البلاد الإسلامية وكل منهما يسفه رأي الآخر ويجهله ضمنا أو صراحة..

وعند البحث في اللغة العربية نجد أن التظاهر يدل على التعاون والمساندة، وأن كلا من المتظاهرين يسندون ظهورهم في ظهور من يتظلم معهم أو من يلحقه الضرر مثلهم  ليحصل بذلك التناصر والتعاون قوة معنوية ظاهرها الاتحاد على المطالب والاستقواء بمساندة العامة ضد الخاصة الظالمة أو المتهمة على الأقل بانتهاك حقوق أو تضييع واجبات،.. وعند الرجوع لمصادر التشريع قرآنا وسنة نجد أن التظاهر  يكون حراما ويكون جائزا، وذلك بحسب دوافع المتظاهرين ومن يظاهرونهم، فمن ظاهر أهل الجور والظلم والكفر  يحكم بأن تظاهره محرم لما يترتب عليه من تضييع الحقوق والتقصير في الواجبات المدنية للمواطنين المستضعفين، أو لما يترتب عليه من تثبيت الباطل وتطويل عمره في الأرض، قال الله تعالى على لسان كليمه موسى عليه السلام في معرض الاعتراف بفضل الله عليه وتخليصه من فتك فرعون: (قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ) (17) أي عونا للمجرمين لتقوية إجرامهم أو مناصرتهم فيه.

وقد حرم الله التظاهر بالإثم والعدوان على بني إسرائيل وعابهم بالتناقض في تطبيق الحق بأخذ بعضه وترك بعض فقال تعالى: (ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ..) ومعلوم أن ذلك محرم في ديننا لعموم تحريم الظلم والعدوان تحت أي ظرف أو بأي وسيلة.

وقد أمرنا بالوفاء بالعهود للكفار ما لم يظاهروا أي يناصروا علينا عدوا آخر لا عهد له، فقال تعالى: (إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ)، فمن التقوى الوفاء بالمواثيق الدولية أو البينية مع من أبرمت معهم ما لم يحصل منهم مناصرة علينا، فعلم من ذلك حرمة التظاهر من المسلمين للباطل من باب أولى ، وقد نبه الله تعالى من تناصرن من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عليه في حادثة معينة مشهورة بأن ذلك النوع من التظاهر  الذي فيه أذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومخالفة لمحابه معصية يتاب منها فقال تعالى :

(إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ ).ثم يلحق بهذا النوع من التظاهر في التحريم ما كانت الدوافع له مصطنعة، ومسيسة للعناد، أو إلحاق الضرر بحزب معين أو شريحة معينة، أو طائفة  ولو مخالفة في الدين أو الاتجاهات الفكرية، وخصوصا إذا خيف من انحرافه عن التنظيم السلمي أو استغلال أصحاب الأهواء الباطلة له والوقوع في الإخلال بالأمن أو الحاق الضرر بممتلكات الناس أو تعطيل مصالهم، فكل ذلك مفسدة عظيمة والضرر في الشريعة الإسلامية لا يزال بضرر مثله أحرى أعظم منه أو أخطر، فقد جاء الحديث بقاعدة عظيمة: ( لا ضرر ولا ضرار).

بقي أنه حكم التظاهر إذا تحققت دوافعه وانتفت موانعه يكون من الوسائل الجائزة، انطلاقا من كونه تعاون وتناصر على جلب نفع أو دفع ضرر واقع أو متوقع بطرق سلمية خالية من المحرمات الشرعية أو ما يؤول إليها، إذ لا أحد من العلماء أو قادة الرأي السياسي في الشعوب الإسلامية يدعي تحريم ذلك وخصوصا أنه ورد حديث حسن في مستدرك الحاكم وغيره يرخص فيه النبي صلى الله عليه وسلم للمتضرر أن يتظاهر بإظهار ما يتعرض له من أذية جاره بعد الصبر عليه وتكرار الأذية منه، وكذا أقر النبي صلى الله عليه وسلم تظاهر المجتمع مع ذلك المتظاهر بالقول والتأييد والمناصرة والتشهير بذلك الظالم وسبه بما فيه من ظلم لجاره، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَشَكَا إِلَيْهِ جَارَهُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ جَارِي يُؤْذِينِي. فَقَالَ: «أَخْرِجْ مَتَاعَكَ فَضَعْهُ عَلَى الطَّرِيقِ» فَأَخْرَجَ مَتَاعَهُ فَوَضَعَهُ عَلَى الطَّرِيقِ فَجَعَلَ كُلُّ مَنْ مَرَّ عَلَيْهِ قَالَ: مَا شَأْنُكَ؟ قَالَ: إِنِّي شَكَوْتُ جَارِي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَمَرَنِي أَنْ أُخْرِجَ مَتَاعِي فَأَضَعَهُ عَلَى الطَّرِيقِ فَجَعَلُوا يَقُولُونَ: اللَّهُمَّ الْعَنْهُ اللَّهُمَّ اخْزِهِ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ الرَّجُلَ فَأَتَاهُ فَقَالَ: ارْجِعْ فَوَاللَّهِ لَا أُؤْذِيكَ أَبَدًا)

قال الحاكم: «هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ وَلَمْ يُخَرِّجَاهُ» وَلَهُ شَاهِدٌ آخَرُ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ " وسكت عنه الذهبي في التلخيص.

فهذا من التظاهر الحسن الذي يوحي بترابط المجتمع وتناصره وتظاهره للمظلوم من جاره أو غيره، وقد أثمر هذا التظاهر تراجع هذا الظالم عن ظلمه، وأظهر أن المجتمع المسلم له ضمير حي يضغط به على أهل الجور والظلم حتى يستقيم حالهم ويكفوا شرورهم عن الناس، وهذا من أنبل مقاصد الشرع الحنيف.

محمد أحمد الأمسلمي