معارك دبلوماسية.. من الطفولة البدوية إلى المناصب الأممية

جمعة, 02/23/2018 - 09:38
السفير أحمدو ولد عبد الله

ذات رحلة قصيرة إلى مدينة «نيس» الفرنسية على البحر الأبيض المتوسط، في عام 1964، حين كان أحمدو ولد عبدالله، الدبلوماسي الموريتاني والمسؤول الأممي السامي فيما بعد، طالباً في جامعة جرونيبل، يتأمل الطريق الذي عبره الإمبراطور نابليون عام 1815 عائداً من المنفى في جزيرة «آلبا» لاسترداد حكمه، خطرت على بال الطالب الجامعي الشاب فكرة خلاصتها أن نابليون الذي مر من هناك بحثاً عن مجده السابق، لا بد أنه نظر إلى تلك الأشجار والأحجار نفسها التي كان ينظر إليها الطالب وهو جالس على مقعده في الحافلة. إنه نابليون الذي امتلك قوة خارقة وأنجز الكثير لبلاده، لكنه مات منفياً في جزيرة «سانت هيلينا» النائية بجنوب المحيط الأطلسي. يقول ولد عبدالله: في تلك اللحظة أدركت أن مآل وضعيتي الإنسانية هو الموت، وقررت ألا أخرج ما حييت عن جملة من الضوابط البسيطة، وأن أظل متواضعاً وملتزماً بالأخلاق واحترام نفسي والآخرين، وأن أتحلى دائماً بسلوك يتطابق مع مبادئي، وأن أعيش وفق المثل الموريتاني «الموت ولا الدناء». وتحت هذا العنوان نشر ولد عبدالله كتاب مذكراته متضمناً قصة حياته بكثير من التفصيل، من طفولته البدوية، إلى أعلى المهام والمناصب في منظمة الأمم المتحدة. ويحاول المؤلف نقل الأحداث «كما جرت بالفعل وكما عشتها وأدركتها خلال فترات مختلفة من حياتي»، مبتدئاً بمولده عام 1940 في «حاسي عبدالله» بالشرق الموريتاني، حيث ترعرع هناك في مخيم بدوي متنقل. وهو يتذكر أن المواسم الماطرة كانت الأفضل بالنسبة إليهم لطبيعتها الجميلة ولتوفر الطعام فيها، وأن البلاد شهدت بين عامي 1942 و1944 جفافاً قاسياً تزامن مع توقف السلع المستوردة من أوروبا، لاسيما القماش والسكر والشاي، بسبب الحرب العالمية الثانية، أو ما عرف محلياً باسم «عام الشدة». وقبل ذلك بوقت قصير شهدت منطقة الحوض الغربي صراعاً دينياً عنيفاً بين أتباع «شريف نيور» والقبائل التي لا تتبعه، فقامت فرنسا باعتقال مئات الأشخاص المقربين من الشريف، وبينهم عم المؤلف ووالده، فنفت العم إلى كيدال بشمال مالي، بينما بقي مصير الوالد مجهولاً. لذلك آلت زعامة القبيلة إلى عمته «مريّم بنت عبدالله» التي وافق الضباط الفرنسيون على تسميتها منبهرين بذلك الاختيار، وقد أثبتت جدارتها بذلك المنصب. ولئن فقدت العمة قوتها السياسية بسبب أعوام الجفاف التي أدت إلى نقص الطعام وقلة توزيع الهدايا، فقد حافظت على تماسك العائلة خلال سنوات الصعبة من تاريخها، إلى أن عاد العم بعد غياب في المنفى دام عشر سنوات، فاستعاد زعامة القبيلة في مراسم حضرها الحاكم الفرنسي.

وفي سن العاشرة كان على أحمدو ولد عبدالله أن يتوجه على ظهر جمل إلى أقرب مدرسة إليه، وهي مدرسة «تنبدغه» الواقعة على بعد 220 كم من «حاسي عبدالله». وبعد إكماله المرحلة الابتدائية انتقل لمواصلة دراسته في الإعدادية الوحيدة بالبلاد، وكانت إعدادية «روصو» في أقصى الجنوب الغربي. وفي إعدادية روصو درس ثلاثة طلبة سيترأسون البلاد فيما بعد، محمد خونا ولد هيداله وأحمد ولد بوسيف ومعاوية ولد الطايع. وفي صيف 1960 أكمل أحمدو ولد عبدالله الصف قبل الأخيرة من الثانوية العامة، وكان عليه الانتقال إلى داكار بالسنغال لدراسة السنة النهائية (مرحلة البكالوريا) في معهد «فان فولنهوفن». وفي نوفمبر من ذلك العام استقدمته الحكومة مع الطلبة الموريتانيين الآخرين إلى نواكشوط للمشاركة في احتفالات إعلان الاستقلال الوطني وللاعتناء بالوفود الأجنبية.

 

ويتحدث المؤلف عن نيله شهادة البكالوريا في العام التالي، وذهابه للالتحاق بجامعة جرونوبل الفرنسية التي حصل منها على شهادة الليسانس في الاقتصاد عام 1966، ثم واصل الدراسات العليا في العلوم السياسية بجامعة باريس. ولدى عودته إلى الوطن في أكتوبر 1968 كان متحمساً لتمكنه أخيراً من «المشاركة في البناء الوطني مثل عديد الأفارقة والمغاربيين» من جيله. وفور وصوله عُين مديراً مستشاراً لدى وزير الصناعة والمناجم، ثم «بفضل تدخل الوزير محمد سالم ولد مخيطرات ومساندة الرئيس المختار ولد داداه، تم تعييني مديراً لشركة سوميما التي تملك مناجم النحاس في أكجوجت شمال العاصمة». وبعد عام ونصف العام أصبح ولد عبدالله وزيراً للتجارة والنقل في تعديل أدخل بموجبه الرئيس المختار عدداً من حملة الشهادات الجامعية إلى الحكومة.

وعن الفترة التي أمضاها وزيراً في الحكومة، يقول ولد عبدالله إنه لم ينضم يوماً واحداً إلى عضوية «حزب الشعب» الحاكم، وإن الصيغة الموريتانية من نظام الحزب الواحد كانت تسمح بحرية الكلام، لاسيما خلال الاجتماعات الرسمية، لذلك يذكر كيف أبدى تحفظاته الشديدة على كثير من القرارات والسياسات الرسمية، لاسيما سياسة فك الارتباط مع فرنسا، وتعريب التعليم، والخروج من منطقة الفرنك الأفريقي، وسياسة تأميم الشركات الأجنبية، والانفتاح المتزايد على المعسكر الشرقي.. وهي التحفظات التي يعتقد أنها كانت وراء خروجه من الحكومة، حيث «استقبلني المختار في مكتبه ليقول: سوف تفيدنا أكثر بوجودك في الولايات المتحدة، حيث ستكون لنا سفيراً في واشنطن، ويمكنك متابعة علاقتنا بالبنك وصندوق النقد الدوليين».

ويتطرق المؤلف لتجربته في أميركا واحتكاكه بالوسط الدبلوماسي في عاصمة القرار العالمي. فهو منذ مرحلة الدراسة كان ينظر باشمئزاز للخطابات الثورية واليسارية السائدة في أفريقيا وآسيا والعالم العربي، ويرى أن فرص نجاحها ضئيلة للغاية، فيما كان يميل إلى الواقعية في القرارات والمواقف، ثم تعلم من الناس في واشنطن أن يكون براغماتياً. لكن بعد أربع سنوات من العمل هناك، تم تعيينه سفيراً في بروكسيل لدى دول الاتحاد الأوروبي. وهناك نسق زيارة أداها المختار ولد داداه، فحاز على إعجابه بسبب الاحتفاء الذي لقيه ووفده المرافق في بروكسيل. وهناك باح له الرئيس، متخلياً عن تحفظه المعتاد، بمعلومات وصلته من الرئيس الزائيري، ومفادها أن سفيره في بروكسل يتآمر مع ابن عمه وابن خالته وسميه «العقيد أحمدو ولد عبدلله»، قائد المنطقة العسكرية السادسة في نواكشوط، لقلب نظام الحكم. فرد السفير مفنداً تلك الاتهامات، ثم «أعلمني أصدقائي في نواكشوط بالرضا التام للرئيس لدى عودته من بروكسيل».

بيد أنه في 10 يوليو من نفس العام، قام ضباط، من بينهم «العقيد أحمدو ولد عبدالله» بانقلاب عسكري أطاح بالرئيس المختار من سدة الحكم، وهو انقلاب ينفي المؤلف أي علاقة له به رغم «العديد من المعطيات والصدف المريبة». ومهما يكن فقد عاد السفير ولد عبدالله من بروكسيل بعد ستة أشهر من الانقلاب، ليتسلم حقيبة الشؤون الخارجية في حكومة «اللجنة العسكرية للخلاص الوطني»، وكان الملف الأكبر والأعقد أمامه هو قضية الصحراء الغربية، الإقليم الذي تقاسمته موريتانيا والمغرب عقب خروج الاستعمار الإسباني منه، لتتكون جبهة «البوليساريو» بدعم من الجزائر وتشن حرب عصابات ضد موريتانيا خصوصاً، أنهكت البلاد وأضعفت نظام ولد داداه وكانت ذريعة الجيش لإطاحته.

لكن الحكومة الجديدة لم تملك خريطة طريق للانسحاب من الصراع، واتسم أداؤها بكثير من الارتباك والتخبط والتشوش وانعدام الرؤية، ووقعت في أخطاء كثيرة في تعاطيها مع الأطراف الرئيسية، لاسيما المغرب والجزائر وفرنسا، ثم أقدم العسكريون من وراء ظهره، على توقيع اتفاقية سرية مع «البوليساريو» في الجزائر، تتخلى بموجبها موريتانيا عن أي مطالب لها في الصحراء، وتعترف بالبوليساريو، وتنفذ انسحاباً فورياً من إقليم «وادي الذهب».. ما جعل موريتانيا تبدو وكأنها خرجت من أزمة لتدخل أخرى.

وفي أعقاب مهمة صعبة ومليئة بالارتباك وسوء التفاهم، أُجبر ولد عبدالله في مطلع 1980 على ترك منصبه كوزير للخارجية، ليصبح عاماً للشركة الوطنية للمناجم (سنيم)، لكن سرعان ما تم اعتقاله بتهمة الضلوع في «صفقة» إطلاق سراح الرئيس السابق ولد داداه، وتم وضعه تحت الإقامة الجبرية ثلاثة أشهر في «أوجفت»، وبعد إنهائها «عدت إلى نواكشوط، حيث مكثت لأكثر من ثلاث سنوات دون عمل ودون أجر ولا حتى الحصول على وظيفة». لكن لدى الإطاحة بولد هيداله في 12 ديسمبر 1984 «كنت وقتها قد ذهبت إلى نيويورك منذ أسبوع كمدير في الأمم المتحدة ومستشار لقضايا الطاقة». وبعد تسع سنوات في مقر الأمم المتحدة، تم تعيين ولد عبدالله عام 1993 ممثلاً خاصاً للأمين العام في بوروندي، ثم قام بمهمة في غرب أفريقيا بين عامي 2003 و2007، وفي الصومال من 2007 إلى 2010.

وأخيراً توّج المؤلف مساره الشخصي والمهني بـ«معارك ينبغي خوضها»، من خلال منظمات المجتمع المدني الدولية، ضد الفساد، والتهريب، والتطرف.. ولصالح تعزيز العدالة الدولية، ودعم الأمن في منطقة الساحل والصحراء، والمساعدة العمومية للتنمية.

محمد ولد المنى

الكتاب: الموت ولا الدناء

المؤلف: أحمدو ولد عبدالله

الناشر: دار الجنوب

تاريخ النشر: 2017