السيف أصدق إنباء من الكتب *** في حده الحد بين الجد واللعب
من لا يعرف قائل هذه الأبيات فهو الشاعر أبو تمام الطائي، ومن لم يدرس في المدارس مناسبة هذه الأبيات ومغزاها، فالشاعر أعد تلك القصيدة بمناسبة النصر الذي حققه الخليفة العباسي المعتصم حين فتح عمورية مسقط رأس الإمبراطور الروماني “تيوفل”. تبدو هذه الأبيات الأولى مألوفة في العديد من البيوت والمؤسسات وحتى المستشفيات، نعم رأيت العديد منها واستمتعت في الماضي بقراءتها وكنت أشعر بنشوة غريبة تُغلفها مشاعر النصر والقوة ولم أكن أعلم أن تلك المشاعر لا تخصني ولا علاقة لي بها إلا أنها انتقلت إليّ عبر الجينات التي ورثتها من أبي وربما من أمي أيضاً. لم أدرك مصيبة تلك المشاعر المرتبطة بهذه الأبيات وغيرها المشابهة إلا مؤخرا بعد دراسة لمدة سنة ونصف في العلاج الروحاني والتقرب إلى الله وحب الله ليس خوفاً منه وإنما حبا فيه والنتيجة أن أحب نفسي لأنني أحب الله. بيت الشعر هذا الذي تشرّب في عقول العرب ودمائهم وجعلهم يرون السيف أصدق إنباء من الكتب، وربما لا شعورياً أصدق من كتاب الله القرآن الكريم. هل يُعقل أن يكون السيف أصدق من كلام الله؟!
أبو تمام الطائي لم يكن يقصد السيف هنا بحد ذاته إنما كان يقصد به الإنسان أو ربما تحديداً المعتصم أي أنه أصدق من أكاذيب المنجمين وتوقعاتهم المستقبلية حين حذروه من دخول عمورية لكنه دخل وحارب وانتصر وفتح فتحا عظيما، ومن منا لا يعرف قصة “وا معتصماه”. المشكلة ليست هنا أيضاً، إنما هي في أن العقلية العربية يبدو أنها تأخذ من الأمور قشورها في الكثير من الأحيان ما يسبب انتقاصاً لنصوص وأزمنة وتواريخ.
عقلية يبدو أنها تشربت من الكثير من مثل هذه الأفكار ما أدى إلى تبنيها قيما ومبادئ خاصة عند متحجري العقول والذين لا يؤمنون إلا بما آمن به آباؤهم وأجداهم الأولون، فهو الصحيح وغير ذلك لا صحة له في الواقع. هل نتكلم هنا عن عقلية مغيبة! ربما، وهل نتصور نفسيات معقدة أو ساذجة لتلك الدرجة! والجواب أيضا ربما، فنحن نحتاج للكثير من الدراسات في هذا الصدد لنعرف الأسباب الحقيقية والدوافع وخاصة ونحن نعيش في عصر يختلف عن عصر الطائي والمعتصم وغيره، لكن الإنسان العربي لا يزال يتمسك بالكثير من أحبال التخلف التي ورثها، والتي تتدلى منها الكثير من المغالطات لدرجة التشبه بالعصر الجاهلي، وربما أسوأ لأن العصر الجاهلي كان له ما يميزه ولكن ما الذي يميزنا كعرب في هذا العصر؟
التقدم المفاجئ أو العلامة الفارقة الوحيدة في هذا العصر هو الانتباه إلى الرؤساء الطغاة في العالم العربي ومحاولات الثورة المتعددة الأشكال عليهم، لكن من يدعون أنفسهم بالثوار لم يكونوا موفقين أيضا، لأن الشعوب العربية لاتزال في هذا الوقت تحمل في جيناتها الخنوع والخضوع ولم تقم بثورات كبرى لأنها تريد الديمقراطية، فهم لا علم لهم حتى بأبجديات الديمقراطية والدليل هو ما حدث للعراق بعد صدام وما يحدث فيها اليوم، وما يحدث الآن في سوريا وما تقوم به سياسة قطر المتخبطة وما حدث في مصر في عهد مرسي لولا تدخل العقلاء من الخليج.
وحتى لا أكون مجحفة في طرحي هنا أستثني الشعب التونسي وما حدث في تونس، فقد زرت تونس منذ سنوات ورأيت فيها الكثير من العقول النيرة وكانت تونس تنعم بديمقراطية ربما تفوق حد التخيل في كل المجالات وربما أحياناً نقف عندها بتساؤلات كثيرة، لكنهم عرفوا طريق الديمقراطية منذ زمن، وكانت بداية الثورة من أجل لقمة العيش وتردي الحالة الاقتصادية ولم يقم بها مفكر أو مثقف فهم آخر من يُضحون بأرواحهم في وقت الأزمات إنما قام بها بائع خضار يبحث عن لقمة لسد جوع أسرته حتى فاض به الكيل وقام بإحراق نفسه حينها ثارت حفيظة الكل من مثقف إلى أميّ. وقد كنت ذكرت في لقاء معي أجرته قناة “صانعو القرار” في 2011 أن ما يحدث في العالم العربي ما هو إلا مخطط أميركي وربما تحالفي مع دول أخرى واستثنيت فيه تونس، لكن لقيت اعتراضا من الكثير ممن كانوا يؤمنون أن تلك كانت ثورتهم حتى جاء مرسي في الحكم وأثبت صحة ما قلت. لكن التعديل الذي حدث في عهد مرسي يمكن أن نُطلق عليه صحوة وليست ثورة.
أما ما يحدث اليوم في سوريا والعراق فهو مخالف لكل ما جاءت به الكتب السماوية وتأكيد لمعتقدات تبنتها جماعات من بعض من يحملون في دمائهم جينات التخلف واعتبار السيف والحرب والقتل وسفك الدماء هو السبيل لحياة كريمة ومجد وتقدم.
في السابق تمنيت كثيرا لو أنني كنت أعيش في زمن الرسول أو بعده وليس هذا الزمن ولكن ما أسمعه اليوم وأشهده من عمليات سفك الدماء والخراب تارة باسم الدين وتارة أخرى باسم الثورات أحمد الله كثيرًا أنني لم أعش في زمن الفتوحات الإسلامية إن كانت بهذا المنظر المقرف الذي تُظهره لنا داعش ومن على شاكلتها، فوالله إن كانت الفتوحات الإسلامية كذلك ما كنت أسلمت ولا دخلت دين محمد على يد فتوحاتهم بل فضلت أن أموت على ما كنت عليه، لكن أحمد الله أنني أنا اليوم هنا وما أنا عليه.
قبل ثورات الخراب والدمار وسفك الدماء نحتاج في العالم العربي لثورة في العقول بما تحمله من أفكار ومعتقدات وقيم وإرث فكري يحتاج لغربلة وربما لتغيّر شامل. نحتاج إلى العلم والنور وليس لجماعات من الثيران المتخلفة تسفك الدماء وتستخدم السيف باسم الدين مثل جماعات داعش والإخوان الإرهابيين وغيرهم من الثيران المسيرين من قبل الغرب. نحتاج لنعيش بسلام وفي سلام، نحتاج لمستقبل جميل للأجيال القادمة ونحتاج لأن نموت ونُدفن في مقابر تزينها الزهور وترش بماء الورد لا بدماء أبرياء. مصيبة عندما تكون الثقافة العربية قائمة على السيف والقمع وعلى قوة تفوق قوة أعظم كتاب وهو كتاب الله القرآن الكريم