الشيخ سيديَ بابَه وموقفُه من نازلة الاستعمار (الحلقات من 1 إلي 9) د/ أحمد بن هارون ابن الشيخ سيديَ

سبت, 03/07/2015 - 16:26
د/ أحمد بن هارون ابن الشيخ سيديَ

الشيخ سيديَ بابَه وموقفُه من نازلة الاستعمار (الحلقة الأولي)      (حقائق - تساؤلات - تحليلات - تصويبات - وثائق)

أحمد بن هارون ابن الشيخ سيديَ         [email protected]

الحلقة الأولي

المقدمة وإعلان المحاور الأساسية؛
الأسلوب المتَّبَع اليوم في تخليد المقاومة وأبطالها؛
أين نحن اليوم من أدب الاختلاف الذي كان سائدا بين أقطاب الرأيين المهادن والمقاوم؟
نازلة الاستعمار وتعقيداتها.

المقدمة والْمَحاور:

بسم الله الرحمٰن الرحيم، الحمد لله رب العـٰلمين،

والصلاة والسلام على سيدنا محمد خاتم النبيئين وعلى آله وأصحابه أجمعين

يقول أبو الرَّيحان محمدُ بنُ أحمدَ الخوارزميُّ البَيْرُونيُّ في كتابه المسمّى: "تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة": «ثم إن الخبَر عن الشيء الممكنِ الوجود في العادة الجاريةِ يقابل الصدق والكذبَ على صورة واحدة؛ وكلاهما لاحقان به من جهة المخبرين لِتفاوت الهمَم وغَلَبَة الهِراش والنزاع على الأمم. فمِنْ مُخبر عن أمر كذب يقصِد فيه نفَسه فيُعظم به جنسَها، لأنها تَحتَه، أو يقصدها فيزري بخلاف جنسه لفوزه فيه بإرادته، ومعلومٌ أن كِلا هذين من دواعي الشهوة والغضب المذموميْن؛ ومِنْ مُخبِر عن كذب في طبقةٍ يحبهم لِشُكْرٍ أو يُبغضُهم لِنُكْرٍ؛ وهُو مقُارِب للأول، فإن الباعِث على فعله من دواعي المحبة والغَلَبَة؛ ومِن مُخبرٍ عنه مُتقرِّبا إلى خيرٍ بدناءةِ الطبع أو مُتَّقِيا لِشَرٍّ مِن فشلٍ وفَزَعٍ؛ ومن مُخبِرٍ عنه طِباعا، كَأنه محمولٌ عليه غيرُ مُتمكِّن من غيره؛ وذلك من دواعي الشَّرارَة وخُبْث مَخابِئ الطبيعة؛ ومِن مُخبرٍ عنه جَهلا، وهو المقُلِّد للمُخبرين وإن كَثروا جُملَةً أو تواتروا فِرقةً بعْد فِرقة، فهو وَهُمْ وسَائِطُ فيما بيَن السامع وبين المعتمَد الأول. والمجانبُ للكذب المُتمسكُ بالصِدق هو المحمود الممدوح عِند الكاذِب فَضْلا عن غيره. فقد قِيل: قولوا الحَق ولو على أنفُسِكم».

وفي مجتمعنا، ما زال الحديث في التاريخ والأنساب والأعلام مربوطا بالمباهاة والمجاملة والعصبيَّات البدائية، مما جعله فى منأى عن البحث الجدّي والموضوعي المدوَّن.

ومن أكثر موضوعاتنا التاريخية والسياسية استعصاء على البحث العلمي الهادئ، موضوع المقاومة، أي مقاومة الموريتانيين للاستعمار الفرنسي، لما يحويه من محاذير وأساطير وتعريضات وإطلاقات يريد أهلها، عن قصد وعن غير قصد، وضْعَها مَوضِعَ المسلَّمات وتلقينَها للعوامّ والأطفال وتأليبَهم على إخوانهم وأسلافهم من أصحاب الرأي المخالف، عبرَ الإعلام الرسمي وغير الرسمي، وحتى عبر المقررات المدرسية. وهذا مما يضطرُّ المرءَ إلى الكلام في غير تخَصُّصه ومجاله.

فالدعايةُ، كما يقول كاتب الاجتماع الأمريكي إريك هوفر، لا تخدع الناس، لكنها تساعدهم على خِداع أنفسهم.

ستتعرض هذه الورقة للموضوع، بحول الله تعلى، عبر ثلاثة محاور وخاتمة ووثائق مُلحَقة، مع مدخل تمهيديٍّ يتحدث في جزئه الأول عن الأساليب المتّبعة اليوم في تخليد المقاومة الموريتانية وأبطالها؛ وفي الجزء الثاني عن نازلةِ الاستعمار وتعقيداتها، مع طرح بعض التساؤلات الواردة إلى الأذهان.

 سيتم الحديث في المحور الأول عن حالة التسَيُّب التي سبَقت الاحتلال الفرنسي، وما عرفته تلك الحِقبة من فظائع الظُّلم والاقتتال الدائم والفوضى؛

ثم تخلُص الورقة في الجزء الثاني من هذا المحور إلى الحديث عن الخلفية الاجتماعية والشخصية للشيخ سيديَ بابَه واجتهادِه، والمكانةِ الاجتماعية والسياسية والعلمية والدينية التي ورثها، وجعلت من المستبعَد إلى حدٍّ كبير أن يكون قد اتخذ قرارا أو موقفا من هذا النوع لأغراض دُنيوية أو شخصية؛

وفي الجزء الثالث من هذا المحور، تتطرّق الورقة باختصار شديد لمذاهب الشيخ سيديَ بابَه الفقهية والعَقَدية والسلوكية والسلطانية، وكيف أدت تلك المذاهبُ غيرُ المعهودة في البلاد إلى خلق عداوات وخصومات مازالت بعضُ رواسبها موجودة في الأوساط الدينية والعلمية.

أما الجزء الرابع والأخير من هذا المحور، فهو مُخصَّصٌ للحديث عن مشروع الشيخ سيديَ الكبير وابنِه الشيخ سيدي محمد الجهادي ودعوتِهما الإصلاحية، وكيفَ استفاد الشيخ سيديَ الحفيدُ من تلك التجربة ورأى ما لاقَتْه من صعوبات وعراقيل ذاتية وموضوعية.

في المحور الثاني، يتم الكلام بشيء من التفصيل عن الأسُس الشرعية والواقعية التي بنى عليها الشيخ سيديَ بابَه موقفه: كضرورة نصب الإمام؛ وحكْم التعامل مع الكافر المتغلّب الذي لا يتعرّض لدين المسلمين، بالإضافة إلى أحكام الجهاد والهجرة بالدين وحُكمِ المعاملة مع النصارى المستعمرين، وكيف كانت علاقة الشيخ سيديَ بهم؟ وكيف كان الفرنسيون ينظرون إليه، مع تقديم بعض النماذج؟

ثم تخلُص الورقة في محور ثالث إلى مآلات الأمور والرأي الآخر، وما كانوا يعتمدون عليه وكيف تغيرت نظرة أكثر المقاومين وتراجعوا بعد أن بَدا لهم شيءٌ آخر؟ مع شيء من الكلام عن علاقات شيوخ وأقطاب المقاومة مع النصارى المستعمرين: كالشيخ العلامة ماء العينين وأبنائه العلماء المقاومين، مع بضع النماذج من المراسلات والمعلومات والوثائق ذات الصلة.

وكذلك العلاَّمة سيدي محمد ولد أحمد ولد حَبَتْ ورجوعه عن موقفه الأول بعدما تبين صوابَ المهادنة مع الفرنسيين وانعدام آفاق حقيقية لرأيه الأول.

ثم يلي ذلك كلامٌ عن التجربة الخاصة للعلامة عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم، وكيف استصوبَ الهجرةَ بدينه أولَ الأمر وإرسالَ ذويه للمشاركة في العمليات المسلحة ضد القوات الفرنسية في أَطَارْ، وكيف تراجع بعد ذلك عن رأيه بعدما تبين له حكمٌ شرعيٌّ وواقعيٌّ آخرُ.

وختاما لهذه النماذج، تتعرض الورقة  لتجربة أبناء ما يابى العلماء المهاجرين بدينهم، وما دار بينهم بعد ذهابهم إلى المغرب والمشرق من تغيُّر وجهة نظرهم في الشيخ سيديَ بابَه، مع عرض لنماذج من مراسلاتهم معه، وما صاحب ذلك من تبادُل للمدائح الشعرية والنثرية الرائقة والهدايا.

وفي الجزء الأخير من المحور الرابع، كلام عن العلاقات والاتفاقيات التي كانت تربط المستعمر الأوربيَ بالإمارات الأربع وبعض القبائل الأخرى، قديما وحديثا. مع نماذج أصلية من مراسلات الأمراء مع الفرنسيين، خصوصا أحمدو ولد سيدي اعلي ووالده وسيد احمد بن أحمد عيده وغيرهما. ثم الخاتمة.

الأسلوب المتَّبَع اليوم في تخليد المقاومة وأبطالها:

مع الانفتاح الإعلاميّ الأخير وشعور الإعلام الرسمي بمنافسة الإعلام الحُرِّ له، دخل معه في لعبة التحرر والإثارة والسعي وراء موادّ حوارية وسجالات لا ضابط لها ولا أول ولا آخر... ففقد الإعلام الرسميُّ الاتِّزانَ والتحرّي ولم يدرك الحرية.

وكان لموضوع الاستعمار والمقاومة النصيب الأكبر من ذلك كله، وكأن تاريخ البلد والمجتمع وتراثهما لم يبدَءَا إلا في الأسابيع الأخيرة من سنة 1902م، حيثُ بدأ احتلال البلاد فعليا من قِبل الفرنسيين. ومع ذلك كلِّه يُسمعُ في هذا الموضوع، المحبَّبِ لدى أساتذتنا ومؤرخينا الجدُد، من الطوامّ والتناقضات، بل من السذاجة أحيانا، ما يضحك الثَّكْلى.

لقد بلغ الأمر ببعض المتحمسين للمقاومة و"المسَخَّنين" في حوارات نوفمبر حدَّ تسمية إخوانه من أصحاب المذهب المهادِنِ للمستعمر، بعملاء الاستعمار والخونة، تصريحا أو تعريضا؛ والمصرِّحون أفضل وأكثر أمانة. ولم يعد يَنْجُو من ذلك الأحفادُ والمنحدرون من أوساط اجتماعية معينة ومناطق جغرافية محدّدة. هذا مع العلم أن أكثر علماء البلاد وأمرائها وشيوخ قبائلها ذهبوا ذلك المذهب، خلافا لما يقول مؤرخو نوفمبر.

وفي ذلك يقول علاَّمة التاريخ المدقّقُ محمد بن مولود بن داداه: «(...) أما الشيخ سيدي الخير والشيخ سعد أبيه ابنا الشيخ محمد فاضل، الموجودان بأقصى الطرفين المقابلين من بلاد شنقيطي، فإنهما قد نظرا إلى هذه النازلة من زاوية أخرى مغايرة تماما. فقد رأيا أن الشروط الأساسية لمقاومة فعالة غير متوفّرة، وأن مهادنة الفرنسيين، بالتالي، تعتبر أكثر حكمة. وقد ذهب مَذهبَهما أكثرُ المشايخ والأمراء وشيوخ القبائل»[1].

وكان الشيخ العلامة محمد سالم بن عبدالودود يقول: «لا أعلم أحدا من علماء "القبلة" خالف الشيخ سيديَ بابَه في اجتهاده القائل بمهادنة المستعمر مقابل الضمانات المعروفة، وعدَّد القبائل، الواحدةَ تلو الأخرى، ثم أردف قائلا: فتحميله المسؤوليةَ وحدَه ظلم وإجحاف».

كما بلغ الأمر أيضا بأحد المتطرفين من نُفَاة المقاومة حدَّ الوقوف في مدرّجات الجامعة والقول أمام طلابها إن المقاومة الموريتانية أسطورة لا أساس لها. بل قام أحدهم بتسفيه ما فعله الشريف الشهيد سيدي بن مولاي الزين مِنْ قتْل الحاكم الفرنسي كبولاني، بحجة أن هذا الأخير كان ينوي إقامة دولة شاملة للبيضان!

ازداد الجوُّ سوءا وإحراجا في الأيام الأخيرة، حتى إنَّ عالما اجتماعيا متجرِّدا، من حجم عبدالودود ولد الشيخ، أثناء بَسطه لإحدى النظريات العلمية المعروفة واستشهادِه بمقولة للأنتربولوجي البريطاني إيفانس بيتشارد Evans-Pritchard القاضية بأن وسطا تحكمه القبائل لا يمكن أن نرى فيه سوى الحرب، لم يُفوِّت فرصة تلك المقابلة التلفزيونية ليعبر بسخرية عن تفاهة الشبهة التي قد يكون محلَّها لدى البعض بسبب خلفيته الاجتماعية ومنطقته الجغرافية، قائلا: «قد أكون محلّ شُبهة، لأنني أنتمي لوسط يعتبر مقرَّبا من المستعمر، وموضوعُ المقاومة أصبح مَوْضة في الأيام الأخيرة، لكن نمط الحياة الذي كان سائدا قبل الاستعمار مبنيٌّ على الحروب»[2] .

في أيامنا هذه، وعلى أمواج إحدى الإذاعات الناشئة، كان أستاذٌ يحلّل ويحكُم بأن العلماء الذين أفتوا بمهادنة المستعمر، إنما فعلوا ذلك انتقاما من العرب حمَلَةِ السلاح الذين كانوا يهمشونهم! ألا يحق للموريتانيين أن يسألوه: أيُّ هؤلاء الْمُفْتين كانت تهمشه العرَبُ أو العجمُ؟[3]

وفي أحد البرامج التلفزيونية المخلدة لذكرى الاستقلال وأمجاد المقاومة، كان أحد المتكلمين من ذوي الخيال التاريخي الواسع يَعُدُّ، من بين المجاهدين الشهداء، رجالا قاموا بعمليات سطو كبيرة شهيرة وموثَّقة ومؤلمة، وكان من بين ضحاياها علماءُ نبلاءُ وسادةٌ صُلحاءُ وطُلابُ علم وفقراءُ ومساكين... وليس هذا هو المستشكَل وحده، لاطِّراده في أدبيات نوفمبر، لكنَّ الطامَّة الكبرى هي أن "المجاهدين" المذكورين قد فعلوا فَعَلاتِهم الشنيعةَ هذه قبل دخول الاستعمار الفرنسي بسنوات، بل بعقود!

وبعد بحث شاقٍّ عن رابط يربط الغارَات المذكورة بمجاهدة النصارى، لن تجد أكثر من كونِ أولئك الضحايا سيخضعون هم وأبناؤهم، بعد ذلك بعدَّة سنوات، للاستعمار الأوربي، كغيرهم من سكان بلاد البيضان والسودان وجزيرة العرب والشام والعراقيْن والهند والسند والمغرب والجزائر وتونس...

وقد أحسن، واللهِ، العلاَّمة الشيخُ ماء العينين بنُ الشيخ محمد فاضل حين تراجع عن فتوى أصدرها، وهو في أوج حربه مع القوات الفرنسية المستعمِرة لموريتانيا، تُبيح لبعض القبائل الموالية له أموالَ من لم يهاجر من المسلمين ورضي بالعيش تحت مظلة الاستعمار. إلى أن راسله أخوه الشيخُ سعد أبيه بخطورة فتواه وما سببته من حرج للمسلمين، الذين لا يخرج خضوعهم للاستعمار عن التأوُّل أو عدم الاستطاعة، وكلُّ هذا لا يبيح انتهاك حرماتهم... فتأثر الشيخ ماء العينين بتلك الرسالة ورجع عن فتواه بكل نزاهة، محذِّرا أتباعه من التعرُّض لأموال من لم يهاجر عن الفرنسيين، قائلا: «الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله إلى جماعة الرقيبات، الجماعةِ الراضيةِ الَمرضية، السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته. اغزوا النصارى قبل أن يغزوكم وأخرجوا الخمس من غنائمكم ووقروا دين الله، ولن توقروه بشيء أعظم من توقير من ساكن الكفارَ من المسلمين، فإن لهم العذرَ الشرعيَّ؛ وإياكم أن تأكلوا أموال الناس بالباطل وبنا وباسم الهجرة. والسلام»[4].

وعلى الرغم من فتوى الشيخ ماء العينين هذه وتحذيراته، لم تزل غاراتُ النهب وانتهاك الحرمات والأعراض متواصلة بعد هذه الرسالة وقبلها. أما ما قبل دخول الفرنسيين، فحدث ولا حرجٌ.[5]

أين نحن من أدب الاختلاف الذي كان سائدا بين المهادنين والقاومين؟

على الرغم من تباين وجهات النظر واختلاف الزوايا التي نظر منها كل من الشيخين ماءِ العينين وسيديَ بابَه إلى نازلة الغزو الفرنسي، إلا أن مراسلاتهما كانت مملوءة علما وأدبا واحتراما متبادلا وحَقًّا.

ولما راسل العلامةُ سيدي مُحَمَّد بن أحمَد بن حَبَتْ الغلاَّويُ الشيخَ سيديَ بابَه بموقفه الأول، الموجِبِ للجهاد على أهل هذه البلاد، خاطَبَه الشيخُ سيديَ بابَه قائلا: «لا يخفى عليَّ أنك لم تُرِد بهذا الأمر أكلَ مال ولا اكتسابَ منزلة، ولكنْ أرى أنك لم تمعن النظر في أحوال الزمان والمكان»[6].

وكانت للعلامة عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم المجلسيِّ علاقاتٌ وطيدة وقصةٌ عجيبة مع رسالة الشيخ سيديَ بابَه الموجهةِ إلى الزوايا بشأن المعاملة مع النصارى.

وقد كتب الشيخُ سيديَ بابَه في الأمير بكار ولد اسويد أحمد كلاما عظيما ومدحا كثيرا، على الرغم من اختلاف وجهتي نظرهما في المسألة. أما الأمير أحمد ابن الديد، فهو من الشيخ سيديَ بابَه بمنزلة الابن، وعلاقته الخاصة بأصله وفرعه أشهر من أن تُذكر...

أما علاقة أبناء ما يابى بالشيخ سيديَ بابَه ومراسلاتهم وإنصاف بعضهم بعضا، بل ومدح بعضهم بعضا بالشعر والنثر وطلب الاعتذار وتبادل الهدايا بعدما هاجر أبناء ما يابى إلى المغرب والمشرق ورأوا أحوال الأمة الإسلامية هناك، فإنها عبرة لأصحاب الحق والإنصاف.

لقد خاطبَ العلامةُ محمد حبيب الله بن ما يابى الشيخَ سيديَ بابَ مشيدا بما وُفق إليه من بعد النظر وسداد الرأي وصدق الحجج في تلك النازلة التي حارت فيها عقول العلماء والعقلاء، مذكرا أن فتواه كانت هي الجزاء الأنسب  للتلصص السائد آنذاك وأهله، وأن اجتهاد العلماء الأجلاء الآخرين ليس ملزما لعالم آخر مجتهد مثلهم...

لمَّا ادْلَهَمَّتْ حُرُوبُ الدَّهرِ كنتَ بِهَا
أبقيْتَ عِزَّكَ في دَهْرٍ بهِ بُهِتَتْ
فكنتَ تَدْفَعُ بالمال التِّلادِ ومَا
وَذَا التَّلَصُّصِ جازَيْتَ الجزاءَ عَلَى
وليس مُختارُ حِبْرٍ لازِمًا عَمَلاً
إني أُحَيِّيكَ يا ابْنَ الأكْرَمِينَ على

شَهْمًا شُجاعًا لدى الهيْجاء مُبتَسِمَا
أجِلَّةُ العُقَلاَ مِمَّا لهُمْ دَهِمَا
أبْدَيْتَ من حُجَجٍ بالحقِّ مُتَّسِمَا
طِبْقٍ فَحَكَّمْتَ فيه السيفَ والقَلَمَا
لذي اجتهادٍ رأى بالشَّـرْعِ ما فَهِمَا
شَوْقٍ بكُمْ طالَمَا مِنْهُۥ بَكَيْتُ دَمَا
 

إلى آخر تلك القصيدة الطويلة الرائقة وجوابها والمراسلات الأخرى التي سيأتي ذكرُها وذِكْرُ غيرها بأبسطَ من هذا إن شاء الله تعلى.

فأين نحن اليوم من أدب المساجلة هذا وحسن المعاشرة والإنصاف وتأصيل الحجة؟ أم استعَضْنا عنه بالدعايات السطحية والتعريضات والعبارات المُسِفَّة، وغيرِ ذلك مما لا يخدم مقاومة مَن قاوم من أسلاف هذا المجتمع ولا يخدم موروثَه الحضاريَّ المشترك ولا يفيده في مستقبله المظلِم.

الكلُّ اجتهد رأيه وقدِموا جميعا إلى ربهم؛ والمرجو منه سبحانه أن يكونوا مأجورين كلُّهم، لأن المجتهد له أجران إن أصاب، وأجر واحد إن أخطأ، كما في الحديث الصحيح.

لقد كان الشيخ سيديَ بابَه يحمِّل نفسه مسؤولية تدوين أمجاد وفضائل هذا المجتمع وساداته، بيضانا وسودانا، عربا وزوايا، ولا يتعرَض في شعره ونثره إلا لمحاسن القوم، يستوي في ذلك المخالف منهم والموالف. ولا يضع نفسه أبدا موضِعَ المنافِس لأي عالم أو شيخ أو أمير أو وجيه... ومن قرأ كلامه عن أمراء وشيوخ وأبطال أهل الشوكة وأيّامِهم يدرك ذلك. أما أهل العلم، فقلَّ منهم من لم يمدحه الشيخ سيديَ بابَه شعرا، فرادى أو جماعات، أو هما معا. وكان ذلك تقليدا متّبعا قبله وبعدَه في حضرته.

ولم تزل مكتبته إلى اليوم تحوي كثيرا من الوثائق الأصليَّة الأصيلة المشتمِلة على موادَّ حسَّاسةٍ، قطعية الدلالة والورود، كفيلة بنسف بعض المسلمات والانطباعات السائدة منذ وقت. لكنها لم تخرج يوما إلى النور ولم يُسمح لأيّ أحد بتوظيفها في سجالاته ونقائضه وردوده.

صحيح أن الشيخ سيديَ بابَه كان يقف عند رأيه ويدعمه ويبسط حججه ويرد على الحجج الأخرى، إلا أنه لا ينتقد شخصا بعينه ولا يُخصِّص أبدا، ولا يغمط مخالفا حقَّه ومكانته في العلم والفضل...

يقول الشيخ العلامة محمد فال (ابَّاهْ) بن عبدالله بن محمد فال بن بابه بن أحمد بَيْبَه العلوىُّ في ترجمة علمية كتبها عن الشيخ سيديَ بابَه: «زيادةً على علمه الواسع الغزير وزعامتـه للقبائل المحيطة به واهتمامه بهذا القطر أجمعَ وبُعدِ غَوْرِ عقله وجودةِ رأيه وتبصُّره في الأمور وحزمه وشدة شَكيمته في الحق وسياسته المعتدلة، لا تَهَـوُّرَ ولا تأخُّرَ، إلى أدبٍ لطيفٍ وورعٍ حاجزٍ ونُسـكٍ عربيٍ وتحكيمٍ للسنـة واتباعٍ لها وعرْضِ المعلومات المأخوذاتِ عن الشيوخ الأجـلاء على أدلة الكتاب والسنة والقواعد الشرعية قبولا وردا، وشجاعةٍ على الخروج عن المألوف أو الرأي الموروث إن ظهر له فيه تَحَرُّفٌ أو تَحيزٌ، مع أدب مع الجميـع وإنصاف... كل هذه عوامل تجسدت في الشيخ سيديَ بابَه وانسجمت في سلوكه وتصرفاته بلا تناقض ولا تنافر، فكأنها خصلة واحدة مركبة من خصال يخدم بعضها بعضا»[7].

فأين الحق والإنصاف في طاولات نوفمبر وحواراته المكرورة؟

وإذا كان الهدف الوحيد من كتابة هذه الورقة هو إيصال بعض الحقائق والمعلومات المهجورة إلى الرأي العام، خصوصا الأجيالَ الناشئةَ، مع توخي الأدب التام وإنصاف الجميع والاقتصار على ما كتبوه بأيديهم، أو نُقل عنهم نقلا أمينا موَّثَقا ولم يسُؤهم ولم يعترضوا عليه، دون التقارير السرية الصادرة عن الأجهزة الاستعمارية وكلام المرجفين والمتحاملين والمستشرقين الحاقدين... إلا أنه من المتوقَّع والمنتظر، رغم ذلك كلِّه، أن يتم تحميل هذه الورقة ما لا تحمل.

سِجالٌ عقيمٌ وحربٌ كلامية خاسرة، وجهلٌ بحقائق التاريخ وملابساته... يقول محمد بن مولود بن داداه: «ودعا جهلُ هذه الملابسات في السياسة الدولية بعضَ حملة الأقلام والأقوال إلى اتهام الشيخ سيديّ باب في حدث جرت بوادره والتهيؤ له والعزم عليه قبل ميلاده؛ وأدانَه هؤلاء أن يكون له ضلع في الاحتلال الفرنسي، إغفالاً للواقع وهو أن الفرنسيين كانوا يعتبرون أن أصحاب الشوكة من القبائل المسلحة هم أصحاب السلطة على البلاد، وهم الذين كانوا يعقدون معهم اتفاقيات في القرون التي سبقت احتلالهم. لذلك عقدوا اتفاقا بمقتضاه سلّمت جماعة الترارزة مقاليد أمور بلادهم إلى ممثل السلطة الفرنسية. وكان دور الشيخ سيديّ باب وبصحبته الشيخ سعد بوه بن الشيخ محمد فاضل، دور الشاهد على العقد فقط. هذا ما كان يجب إيضاحه لتقويم الأغـلاط الـشائعة»[8].

بالطبع، يوجد بموريتانيا علماء كُثْر ومثقفون وأساتذة جامعيون من ذوي الاطلاع والموضوعية والرزانة، إلا أن مثل هؤلاء لا يظهرون ولا يكتب إلا لمِاما... وتلك ظاهرة مرَضية أخرى نعاني منها في كتاباتنا، خصوصا المقالاتِ المنشورةَ على الأنترنت، التي لا يكاد يرُوج منها إلا ما يكتبه الهَجَّاؤون المحترفون.

لقد خاض بعضُ أبناء هذه البلاد حروبا ضد القوات الفرنسية، لها أيام وأبطالٌ؛ وإنكار ذلك ظلم وتجاوز لا يُلتفت إليه ولا يمكن تسويغه، حتى ولو اختلفتَ مع بعضهم في نظرتك للأمور، أو كنتَ ترى نقصا في الدافع الديني والوعي الوطني لدى بعض المقاومين، أو أيَّ  شائبة أخرى، كاستهداف قبيلة لقبيلة أو مجموعة لأخرى أو مواصلةٍ لتقاليدَ لُصُوصيَّة ومعيشيَّةٍ سابقة على الاستعمار[9]... كل هذا لا يُسوِّغ لجيلنا من سكان هذه البلاد أن يصف هؤلاء الشجعانَ بما لا يليق. ليس هذا أخلاقيا ولا حضاريا ولا يدخل في تقاليد الأمم. فما دامت المواجهات قد وقعت وكانت موجهة ضد الغزاة المخالفين في الدين والحضارة، وما دام الضحايا قد سقطوا أثناء مواجهاتهم الباسلة مع المستعمر البغيض، فهذا يسمى مقاومة.

إلا أن الحقيقة التاريخية لا تُسَوَّق تسويق البضائع الاستهلَاكية. والتاريخ لا يحتاج إلى مساحيقَ للتجميل، كما كان الملك الراحل الحسن الثاني يقول. وإنما يحتاج التاريخ إلى شيء من الموضوعيّة والنزاهة والهدوء والتأصيل، والتذكيرِ أحيانا بالمعلوم منه بالضرورة.

نازلة الاستعمار وتعقيداتها:

شكَّل الغزو الفرنسي للبلاد نازلة جديدة، لم يوجد قبلها من النوازل ما يمكن لقادة المجتمع أن يقيسوه عليها، مما دفع بعضهم إلى إعمال النظر وبذل الجهد واستعمال أدوات علمية وفكرية غير مسبوقة.

فإلى جانب سلبيات الاستعمار وقبائحه وظلمه وضرائبه وعقوباته، كانت هناك أيضا فظائع معروفة، يقوم بها جبابرةُ الصحراء وحملةُ السلاح من أبناء المجتمع، كإزهاق الأنفس ونهب الأموال يوميا وانتهاك الأعراض وإذلال الناس وفرض الغرامات، إلى غير ذلك من الممارسات المتأصلة التي لا يُرجَى لها زوال ولا يُخشَى لها عِقاب.

ولا يدخل هذا التذكير بالواقع في تسويغ الاستعمار واعتباره الحلَّ الوحيد، وإنما هو توصيف واقعيٌّ عامٌّ للحالة النفسية والاجتماعية والأخلاقية التي اتُّخذت فيها قراراتٌ حاسمةٌ، ما زال الدارسون والأجيال المتعاقبة يحاكمونها؛ والتاريخُ يحكُم عليها. والله يحكم لا معقب لحكمه.

كان العلاّمة المختار ابن ابلول الحاجيُّ شديدَ البغض للمستعمر وما يتصل به، فسُئل يوما أيُّهما أفضل: السيبةُ أم الاستعمار؟ فقال: «هذا سؤال خبيث، تريدني أن أزكّي إحدى القبيحتين»!

لكنَّ الشيخ سيديَ بابَه، وانطلاقا من مسؤولياته ومركزه وزمانه، لم يتردّد في تقَبُّل ودَعْم أخفِّ الضرَرَيْن.

فما الذي دفعه إلى ذلك؟ وفي أيّ ظرف تمَّ؟ وهل كان بين يديه من خيارات أخرى؟ وهل كان من بين تلك الخيارات ما من شأنه أن يُفيد المسلمين ويفيد مشروعا سياسيا واجتماعيا ورسالة دينيةً ما فتئ الرجل وآباؤه يحمّلون أنفسهم المسؤوليته عنها؟

وإذا افترضنا حصول شيء من ذلك وهزمناهم، فهل في الوضعية السابقة على الاستعمار ما يُغْري بإرجاعها والتفَيَّؤِ بظلالِها؟

هل كان التمَوْقُع بأبي تلميت وآوكار استراتيجيا يَسْهُل منه الكَرَّ والفَرُّ ووصولُ المدَد؟ وهل كانت إعادةُ التموْقع والتحرُّكُ شمالا مُتاحَيْن للشيخ سيديَ بابَه ومَن في سِلْكِه؟ وهل كان إلى جانب الشيخ سيديَ بابَه جيشٌ أو قبائلُ ذاتُ شوكة واستعداد ومِراس على الإغارة من بعيد والغزو وجلْب الغنائم؟

هل كان من الممكن، أصلا، صَدُّ القوات الفرنسية الزاحفة من أزواد والحوض والجزائر والسنغال؟ وممّن ستكون التركيبة الأساسية للجيش المدافع؟ أمِن زوايا ذلك الوقت العُزَّل المتعطشين لقوة قاهرة تردع الظلم وتبسُط الأمن؟ أم مِن أهل شوكته المتدابِرِين والمرتبطبن باتفاقيات وروابط اقتصادية وأمنية سابقة مع الفرنسيين؟

مِسكِينةٌ هي المكسيك، لبعدها من الله وقُربِها من الولايات المتحدة الأمريكية! هكذا كان رئيس المكسيك الأسبق وبطلُ حرْبها مع فرنسا بورفيرو دياز (Porfirio Diaz) يعبِّر عن صعوبة موقعه الجغرافي ووضعِه الاستراتيجي وخشونة جارِه.(يتواصل بحول الله)

 

الشيخ سيديَ بابَه وموقفُه من نازلة الاستعمار (الحلقة الثانية)      (حقائق - تساؤلات - تحليلات - تصويبات - وثائق)

د/ أحمد بن هارون ابن الشيخ سيديَ         [email protected]

الحلقة الثانية:

مدخل عام حول السيبة؛
مقدمة حول السيبة للشيخ العلامة إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ؛
من قصص السيبة في المنطقة ومظاهرها؛
نماذج من الحروب والاقتتال الدائم؛
معاناة الدين وأهله أيام السيبة؛
خاتمة.

مدخل عام حول السيبة:

يقول الوزير الباحث، الدكتور إزيد بيه ولد محمد محمود: «إذا كان الشيخ سيدي بابَه معاصرا لفترة التنوير العلمي التي نوَّهنا بها آنفا، فإنه كان معاصرا كذلك لفترة سياسية حالكة كأنها الليالي الحنادس، فالسلبُ والنهب والاقتتال بين القبائل كان شِرعة ومنهاجا لسكان هذه البلاد في الفترة التي عاصرها الشيخ سيديَ بابَه؛ وقد رأى بناظرَيْـه ما انجرَّ عنها من أضرار. وقد رد هذه الوضعية، بثاقب النظر، إلى غياب السلطة المركزية التي بإمكانها أن توفر الأمن والعافية».[10].

إن قِصص الغدر والظلم والبغي وإزهاق أرواح الضعفاء وإذلالِهم أيامَ السيبة كثيرةٌ شنيعة ومعروفةٌ لدى جميع جهاتنا وفئاتنا، ولا فائدة في ذكر كثير من تفاصيلها، لأن توثيقها لا يمكن دون ذكر أسماء الضحايا والجُناة، مما يَنكأ الجراح ويثير  الآلام.

ومن أراد الاطلاع على الحوادث اليومية لتلك العهود، فما عليه إلا أن يراجع حولياتِ ولاتَه والنعمة وتيشيت وتجكجه وكتاب الوسيط ونوازل المداراة عند علماء ذلك الزمان.

والحقُّ أنه لم يبق عالمٌ من علماء هذه البلاد أو مصلحٌ إلا وعبَّر عن اشمئزازه من حالة التسَيُّب المذكورة وأحداثها القبيحة، وأفتى على أساس ذلك، كما فعل العلامة صالح بن عبد الوهاب والعلامة الشيخ ماء العينين وغيرهما.

ومن المعلوم أن الشيخ سيدى المختار الكنتىّ، وابنه الشيخ سيدى محمد الخليفة كانا من أكثر العلماء اهتماما فى هذه البلاد بالسياسة الشرعية، وأحكام الإمامة ونصب الإمام، والتفكير فى الشأن العامّ، وكذلك العالمان الجليلان الشيخ محمد المامى بن البخارى والقاضى محنض بابه بن عبيد الديمانىّ، فإنهما دعوَا إلى نصب الإمام والسعى إلى إقامة نظام عام، تنفذ فيه الحدود، ويقضى فيه على السيبة والحروب. وآثارهما فى ذلك معروفة. وهنالك غيرهم من الفقهاء مما يقصر عنه المقام.

كما أنه قَلَّ من العلماء مَن لم يحاول بطريقته وحسب مركزه وجهده، أن يسعى في معالجة الأمر جزئيا أو كليا، مستعينا في ذلك بأكابر الأمراء ونُبلاء أهل الشوكة وأصحاب الدين والقِيَم من بني حسان، مع بعض المحاولات المتفرقة لنصب إمام وإقامة إمارة إسلامية أو أي سلطة مركزية أخرى لمعالجة الأمر.

يقول الدكتور محمد الحسن ولد اعبيدي: "إن فكرة تنصيب إمام أو إيجاد عَقْدٍ سياسي يلمُّ شتات القبائل ويوفر لها الاستقرار والأمن، لم تَغِب عن ذهن كل فقيه يبحث عن مناخ ملائم للأحكام الشرعية، التي يتوقف تطبيقها على السلطان. لكن هذه الفكرة ظلت تتمنع على التنفيذ وتستحيل، نظرا لإكراهات الواقع وعدم انقياد تشكيلات المجتمع البدوي للدخول في تنظيم موحَّد، لِتنافُر أمزجتها واختلاف مصالحها وتأصُّل فوضوية التعامل فيها."[11].

ومن المحاولات الجادة لإقامة دولة إسلامية في هذا الفضاء، محاولة الإمام ناصر الدين المشهورة التي بدأ الإعداد لها سنة 1082هـ ودخلت مرحلة التنفيذ والمواجهة العسكرية سنة 1086هـ، وقد نتج عن ذلك اندلاع حرب شرببة الشهيرة بين زوايا المنطقة والمغافرة، انتهت بانتصار المغافرة ومقتل الإمام المنَصَّب، ناصر الدين[12].

وعلى الرغم من إضعاف هذه الحرب للزوايا عموما، وزوايا "القبلة" خصوصا، إلا أن محاولات أخرى لإقامة الدين والنظام لم تزل تظهر من حين لآخر، وإن كانت كلُّها جزئية ونظرية.

ولمّا أرادت جماعة فاضلة من شباب إيجيجبه إقامة الحدود والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بالقوة، في منطقة من أكثر مناطق البلاد تسليحا وشوكةً، كتب إليهم الشيخ سيديَ الكبير رسالته المسماة: "الميزان القويم و الصراط المستقيم"، منوها فيها بعلمهم وأهليتهم لذلك ونُبل مقصدهم، ومُنبِّها في نفس الوقت إلى خطورة المهمة على تلك الحضرة الدينية والقلعة العلمية وعلى المسلمين أجمع، قائلا:  «فمن تصدى في هذا الزمان لإقامة الدين والدعاية إلى سبيل المهتدين ثم رام أن يحمل الناس على فعل  المعروف وترك المنكر وأن يغير مناكرهم بيده وإظهار عضده دون إمام تجتمع إليه الكلمة وتَقْوَى به الصَّوْلة ويشتد به ساعدُ الحق وتكون له به على الباطل الدولةُ، فقد تصَدَّى لإثارة فتنة تستباح فيها الحرم وتُراق فيها الدماء، وتُنهب فيها الأموال من غير فائدة ولا عائدة »[13].

لكنْ، ومع نهاية القرن التاسع عشر الميلادي وبداية القرن العشرين، ازداد حكم الإمارات ضعفا وهشاشة وفوضى... يقول الباحث والمؤرخ، الدكتور حماه الله ولد السالم: «كانت الحروب داخل المدن أو في محيطها المرتبط بها ذات نتائج يمكن التغلب عليها، ولذلك ظل المجتمع الأهلي مستمرا بالرغم من تلك الأزمات الداخلية وبرغم الجوائح (قحوط، أوبئة) التي كانت تأتي دوريا، لكن انحطاط الإمارات الكبرى وتزايد الصراعات والحروب في إقليم السودان، مصدر التموين بالحبوب، أدى إلى أزمات هيكلية مست سكان المدن في الصميم وأضعفت من تطور الزوايا الصوفية في البوادي»[14].

لقد أدى انتشار وتكرار حوادث البغى والطغيان وجرائم السيبة، إلى إصدار العلامة سيدي محمد بن سيدي عبدالله ابن الحاج إبراهيم العلويّ فتوى بتكفير بنى حسان! وذلك في نظم له مشهور.

أما ما دون تكفير أهل البغي وقطاع الطرق، كالاقتتال معهم والاحتماء منهم بأي وسيلة، والتحريض عليهم والدعاء عليهم آناء الليل وأطرافَ النهار والاحتيال عليهم بالحق والباطل وتخويفهم بالدَّجل والسحر والاستعانة ببعضهم على بعض، فهذا منتشر في الكتُب والرسائل والأشعار الفصيحة والعامية والحكايات الشعبية...

مقدمة حول السيبة للشيخ العلامة إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ:

يقول في مقدمة بحث له عن السيبة: «لقد شهدت موريتانيا منذ قرون عديدة وآماد بعيدة فوضى طَحونا أتت على الرطب واليابس، ولم يُرقَب فيها إلٌّ ولا ذِمّة. فكانت الحرب قائمة على ساق بين إمارات متناحرة، وقبائلَ متنافرة، ولم يكن أحد يأمَن على نفس ولا عِرْض ولا مال في هذه الصحراء المترامية الأطراف. ويستوي في ذلك العرب والزوايا، فلا تكاد تنجو قبيلة من قبائل الفريقين من أُوَار حرب أو حروب خاضتها مع جارةٍ ذاتِ قربى، أو جارةٍ جُنُبٍ. بل كانت الإمارة الواحدة يغتال بعض أعيانها بعضا، فالابن قد يقتل أباه، والأخ يقتل أخاه... وهلمّ جرّا. حتى إنه من المعروف أن بعض الإمارات لم يمت فيها أمير حتف أنفه، إلا في حالات أندر من الندور. لذلك أطلق على هذه الرقعة "بلاد السيبة"، و"البلاد السائبة" و"المنكِب البرزخىّ... فكانت غابةً يأكل القوىُّ فيها الضعيفَ. وأغلب ما يقع فيها من القتل والنهب وإذلال الضعَفة هو من فعل بنى حسان، والقبائل المسلحة وشبه المسلحة عموما. وربما صدر شيء من ذلك عن بعض الزوايا لمَن دونَهم من الشرائح والطبقات.

ويَعجَب المرء في هذه الحياة "الجاهلية" القُلَّب، من كثرة العلماء وحفظة القرآن والفقهاء والصلحاء والزهّاد والنسّاك والشعراء والمؤلفين، والمحاضر والكتاتيب، والمؤلفات والمخطوطات، وكثرة الحلقات والدروس في فئة الزوايا خصوصا، ومن الصِّلات الحسنة في كثير من الأحيان بين بعض القبائل والأطراف على اختلافها. كما يعجَب من تعمير الزوايا الأرضَ بحفر الآبار وبناء المساجد وتنمية الماشية والزراعة... رغم صعوبة الأوضاع وقساوة الحياة وشدة المعاناة. وكانت قبائل حسّان تستنكف عن تحصيل المال من الأوجه المشروعة، فلا تفتأ تُغِير في كل وجه، وتضرب المغارم والمُكوس، وتتمدح بكسب العيش من المِدفع، كما تتمدح الزوايا بكسبه من القلم. لذلك كان الفقر المدقع وسوء الحال من أهم سمات حملة السلاح في الأغلب. وأما عن قُنّاص البشر من لصوصهم الشعْثِ الغُبر الذين يسكنون القفار وتتقاذفُهم الفلَوات وتلوحُهم الهواجر والسّمائم فحدّث ولا حرج!

حتى إذا نظروا إلى متقلِّصٍ--أهدامُه ذى وفرة شعثاءِ

ولدته أم بئسما جاءت به--وأُبَيُّه راع ونجل رعاء
......

إلى أن يبصروا شعثا كساهم--لباسُ الجوع والخوف اغبرارا

رعاءَ الشاء حقا من رآهم--يقول هم الرعاء وما تمارى [15].

ويضيف الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ قائلا: «بيدَ أنه من الحق والإنصاف أن نقول إن من بين أمراء العرب وأهلِ الشوكة عموما أعيانا وكبراء كانوا يحبون الخير والعدل، ويسعون في رد المظالم، واستنقاذ أموال الزوايا من الأيدي العادية، ويحمون كثيرا من الضعفة، فضلا عما هم عليه من التدين والشهامة والنجدة والنُّبْل والإباء، والصراحة والوضوح، والترفع عن السفاسف والدنايا وحمل الأضغان والأحقاد عبر العصور؛ ويعبر عن هذه القيم محلّيا ب "التمغفير" و"التّْموْجيرْ"؛ وأن هذه الفئة، في الجملة، على ما تتسم به غالبا من غلظة وجفاء، كانت تعظم الصلحاء والعلماء، وتخاف دعواتهم، وتلجأ إليهم عند الملمات التماسا للدعاء والرقية و"البركة"!، وتتقرب إليهم بالهدية ونحوها. وكان أمراء الأقاليم يوَلّون زوايا أرضِهم القضاءَ وإمامة الصلوات وعقودَ النكاح، وكَتْبَ الوثائق والرسائل، والصلاةَ على الجنائز والإشرافَ على دفن الأموات... والواقع أنه لم يكن يصلح لذلك، في تلك العصور، إلا الزوايا. فكانوا يتولون ضرورةً بعض تلك الوظائف من تلقاء أنفسهم. وما تزال العرب ومن في معناهم، على هذه السيرة مع الزوايا وبيوتات العلم والصلاح إلى الآن، إلا ما اختصت به الدولة من تعيين القضاة.

وقد توسع كثير من الزوايا و"الطِّلْبَة" في استغلال هذا الجانب، فأكلوا به أموال أهل الشوكة وغيرهم، واكتسبوا به المنزلة عندهم، واستخدموا لذلك أساليب كثيرة متنوعة من الدجل والشعوذة والمخاريق، وإيهامِ القوم أن عندهم قوة خارقة على الإضرار بالغير، واطلاعا على المغيبات! وتلاقى هذه الدعاوى، في العادة، تصديقا تلقائيا من تلك الأوساط.                                                   

جزى الله أرباب المكاسب إنهم--على الحق والتحقيق من غير ما شكّ

همُ طلبوا الدنيا منَ اَبوابها التي--ترام بها لا بالتحيّل والنسْكِ[16]. انتهى.

من قصص السيبة في المنطقة:

إن من أبشع حوادث السيبة، وليس أبشعَها، الحادثة المشهورة التي وقعت بولاية التررارزة، سنواتٍ قليلةً قبل دخول المستعمر إلى البلاد؛ وقد مرَّ رَكبُ الشيخ سيديَ بابَه بأهلها ساعاتٍ بعد وُقوعها (اتفاقا وقَدَرا). فقد اقتحمت مجموعة من الغزاة منزل أسرة مسالمة منتجعة، مشغولة بتسمين (ابلوحْ) إحدى بناتها المراهقات، فلاحظ اللصوص، وهم في عجلة من أمرهم، سوارين من ذهب في معصميْ تلك الفتاة، فحاولوا انتزاعهما بسرعة فلم يُفلحوا، فما كان منهم إلا أن أخرج أحدهم سكينا فقطع بها يدي الفتاة، فماتت من حينها من شدة النزيف، فأخذ اللصوص الحلي وانطلقوا نحو محطة موالية.

وفى ليلة من ليالي "آمشتيل" الحارقة بسَمومها وحرها، جاءت عصابة إلى أسرة قليلة العدد والمال، ضعيفة الحال من كل وجه، ليس لديها من الماء إلا ما بقى فى القِربة، وقد واروه عن الأعين، مخافة أن يُنتزع منهم بالقوة، فيهلكوا عطشا، والمنهل منهم بعيد، والحال شديد، فسألهم كبير العصابة عن الماء، فأخبره الرجل بأنهم يكادون يهلكون من العطش، وأن ابنهم الوحيد سيمُرُّ عليهم بماء زوالَ الغد. فقام المجرم بتفتيش سريع للخيمة، فعثر على القربة غيرَ بعيد من المرأة، فأخذها وشرب، وناول أصحابه البقية، وأمرهم بالانصراف، واغتصب امرأة ذلك الرجل البائس الأعزل! ثم انصرفوا، صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون.

وذات يوم، كان رجلان يرعيان إبلا لرجلين من أعيان المنطقة. وكان أحدهما راعيا تقليديا محترفا. وأما الآخر فهو رجل من فئة الزوايا غيرُ محترف، وإنما اضطره الفقر إلى رعي الإبل مقابل أجرة يعول بها بناته التسع.

وفجأة جاءهما رجل ملثَّم رثُّ الثياب، يتظاهر بأنه راع ينشُد ضالة إبل، فلما أخبراه بما عندهما انصرف. وعند انصرافه نظر الراعي المحترف إليه، فعلِم أنه من حملة السلاح، وأن لا علاقة له برعْي الإبل، وقرر من حينه الفرار بإبله إلى مكان آمن. لكن مرافقَه المسكين لم يقتنع بظنون صاحبه وإلحاحه على الذهاب، فقرر البقاء بإبله في مرعاها إلى نهاية النهار.

أسرع الرجل المحترفُ إلى المركز  الإدارىّ الفرنسىّ الأقرب، وأخبر بما شاهد، فأرسلوا معه فرقة مسلحة، لكنها لم تجد شيئا في المكان المذكور، فاقتصوا أثر الإبل وصاحبها، فلاحظوا آثار أصابع قدميه تلامس الأرض وهو مشدود إلى الرحل على ظهر بعير؛  وما لبثوا أن عثروا عليه في مكان ما من "آفطوط"، وقد قتله اللصوص خنْقا وربطوه بعمامته السوداء إلى جذع شجرة.

وبأسلوب روائي معبِّر، يقول الكاتب السياسي محمد يحظيه ولد ابريد الليل: «فإذا كنا نريد أن نرى بأعيننا الفوضى العارمة، والسيبةَ التي كنا نسمع عنها في الماضي، والتي عمَّت... عندما انهار النظام القديم قبل استتباب النظام الاستعماري الجديد (...) يجب أن يسمع المرء هذه القصة التي تحطم القلوب، قصة تلك "الخيمة" البدوية المسالمة التي رواها شهود في حكم الحاضرين، ليدرك فظاعة وهمجية نظام السيبة. فقد اعترض قطاع طرق سبيل الشيخ الأب وأمَتِه في طريقهما إلى البئر، في مكان ما بين نُواذيب ومكطع لحجار، وسلبوهما دون كبير عناء عشرة من الإبل هي كل ما تملكه الأسرة، وأسندوا كل واحد منهما واقفا إلى جذع شجرة، ولفُّوا جسديهما من الرأس إلى القدمين برشاء البئر، وبعد فترة طويلة عُثر على عظامهما بيضاء تحت جذعي الشجرتين، والرشَاءُ ما يزال يلفُّ الجذع كجلاد فظ مقيت وصامد بقوة. أما بقية الأسرة: أمٌّ وبناتُها الأربع، فلم يُعثر عليهن قطُّ، ولاشك أنهن ما زِلْن ينتظرن منذ ذاك (حوالي 1930) عودة ذويهم والقطيع الذي هو مصدر رزقهم الوحيد... وقد نتصور بسهولة أن هذه المخلوقات الضعيفة كانت صيداً سهلا لقناص الصحراء الرهيب: العطش، الذي يترصد ويقوم بأعمال الدورية باستمرار لصالح "عزرائيل"، وأن أرواحهن البريئة ما تزال باستمرار، وإلى الأبد، تصيح في آذان قتلتهم»[17] .

وفي هذا الصدد، يقول الشيخُ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ أيضا: «كيف يعدّ من البطولات استياقُ نَعَمٍ كثير جدّا يشكّل ثروة عالم جليل متفنن، ومصدرَ عيشه وعيش طلابه وحيّه، على حين غِرّة، قبل دخول الاستعمار بسنين؟ وهل يعدّ من البطولات إلجاءُ عالم آخر من شكله إلى التظاهر بالمرض وفقدان الذاكرة والعقل، ليَسْلم من دفع قطيع من الإبل لأحد الكبراء من أهل الشوكة؟

(...) أمِن البطولات انتزاعُ أحد أهل الشوكة بقَرةً من مراهق فى طريقه إلى محضرة يأخذ فيها القرآن، وضربُ وتد فى صدره، كما تُضرب أوتاد الخيمة فى القاع، وصَلبُه فى جذع شجرة بفلاة موحشة ليكون "جَزَرَ السباع وكلِّ نَسر  قشعم"؟؟؟!!!

أمن البطولات والجهاد إكراه الحرائر والفتيات على البِغاء، بحجة أن فى ذويهن من هادن النصارى، أو عمل معهم مترجما أو فرّاشا؟ أليس هذا زنا محضا وانتهاكا عظيما لحرمات الله سبحانه؟؟؟ أيزعم هذا النِّكْسُ أنهن سبايا حلائلُ له ولعِصابته كسبايا أوطاس؟ وهبْهن كذلك، ألَا ينظُر هذا المثبور طُهرَ  الحائل ووضع الحامل؟»[18].

والحق أن كل مهتم بتاريخ البلد يتفادى هذا الموضوع لما في ذكر أسماء الأشخاص والقبائل من إضرار وجرح للأجيال الحالية والمستقبلية البريئة من هذا كله. لكن إهمال أطول حقبة من تاريخ البلد لا يُستساغ، والأخطر من ذلك أن يقول مؤرخونا إن السيبة لم تكن يوما من الدهر في هذه الربوع، أو إنها خيالٌ يراد به تسويغ الاستعمار ومهادنته، أو الدفاع عن المهادنين. وربما يجىء اليوم الذى تذكر فيه الأسماء، وتخرج الوثائق المثبتة لذلك ولغيره، دون أن يكون فى الصدور حرج منه.

مظاهر السيبة:

يقول الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ في مقدمته المذكورة آنفا: «قد تجلت ظاهرة السيبة الناجمة عن غياب سلطة مركزية تردع المجرم وتَزَع الظالم، فى مظاهرَ عدة: منها: قطع الطريق وإخافة السبيل، شنُّ الغارات المفاجئة للسلب والنهب، سفك الدم الحرام بغير حق، الهجوم على المنازل والبيوت، ابتزاز الملابس والحُلِىّ، لَزّ الشِّيب فى قَرَنِ، سبْى النساء، الضرب المبرِّح على الوجه والعِلباء، خوض القبائل والإمارات المعاركَ الداميةَ والحروبَ الطاحنة فى مختلِف نواحى البلد، إشاعة البلبلة والفوضى، ترويع الآمنين وإرهاب المسالمين، سبى الأفراد والمجموعات واستعبادهم أو بيعهم بأسواق النِّخاسة فى الداخل والخارج، فرض الإتاوات المجْحِفة بغير حق...إلخ.

يقول الشيخ سيدى محمد بن الشيخ سيدىَ، رحمهما الله تعلى، ينعَى على بعض المجموعات الرضا بهذه الوضعية:

لا حرّ يرضى ما رضيتمْ أنتمُ--من نهب أموال وسفك دماء

وهجوم دور وابتزاز ملابس--وقِران شِيب واستباء نساء

ويقول أيضا فى بعض النواحى:

سكنتها غوغاء تنفكّ فوضى--لم تَمِز بين ليلها والنهار

لقد كثر حديث أهل هذه البلاد فى القرنين الهجريين الماضيين عن "الِمْحاليِّين"، والِهْناتيت، و"آمجابير" و"الِبْرابِر"... وهى عبارة عن عصابات مسلحة تمتهن السرقة والغصب والنهب بأساليبَ قذِرة. ولم يكن يسلَم من غاراتها ونهبها إلا قبيلة ذات بأس ومنَعة، أو من كان من الشخصيات والأُسَرِ عظيمَ المكانة روحيّا فى المجتمع، أو من اجتمع له الأمران معا.

وقد اضطَرّت هذه الأوضاع كثيرا من القبائل والمجموعات إلى الدخول فى أحلاف، أو تقديم مُداراةٍ مقابلَ كف اللصوص أيديَهم عنها، أو عن أتباعها وممتلكاتها. وليس هذا من باب المغارم التى كان يفرضها بنو حسان بالقوة على غيرهم. وإنما يدخل هذا القسم فى باب المداراة والمصالحة عن النفس والمال فى أرضٍ تُحَكِّم شريعة الغاب.

وسرعان ما برزت بشكل أوضح مما كانت عليه الحالُ قديما فئاتٌ اجتماعية مختلفة الوضعية تحْت مسمَّيات متقاربة: "الدّْخيلة، الزَّربة، الزريبة، الِعْيال، التّْلاميدْ، الَاصحاب، الحَيَّه..."، وسرعان ما ظهرت أيضا مصطلحات مثل: " الفداء، والقَبض" و"التَّدَارْبِيت"، و"الحرمة"، و"الغَيْبة فى التلاميدْ"...إلخ. ولا تزال هذه المفاهيم معلومة الدلالة فى مجتمعنا إلى الآن. كما أن مظاهرها ما تزال قائمة أيضا إلى حدّ ما.

وعلى سبيل المثال يمكننى القول هنا إن جدنا الشيخ سيدى الكبير وأبناءه فَدَوا على مدى قرن وأربعة عقود من الزمان أُسَرا ومجموعات وأفرادا من مختلِف شرائح المجتمع لا يعلم عددَهم إلا الله. كما أنهم استنقذوا كثيرا من المماليك من بَراثِن الجلّادين.

ولا يدخل فى هذا، بالطبع، العلماءُ وأعيان القبائل وطلبة العلم ومُحِبُّو الجوار و"المريدون" ونحوُهم. فهذا باب، وذاك آخر.

وقد سافر الشيخ سيدىَ الكبير وابنه الشيخ سيدى محمد وحفيداه الشيخ سيدى بابه والشيخ سيدى المختار، رحمهم الله تعلى، مرات كثيرة فى استنقاذ الأنفس والأموال إلى نواح عديدة من هذه البلاد.

وسنقتصر هنا على قصتين لهما دلالتهما.

أولاهما: أن الشيخ سيّدى محمدا سافر بأمر والده من ضواحى أبى تلميت إلى أن وصل إلى الساقية الحمراء، لاستخلاص إبل قوم من الزوايا، ومكث فى ذلك السفر عاما كاملا، وفى ذلك  يقول:

أحمراء السواقى ما ورائـــــى؟--ألاَن غربت أيها الانتشائى

تخال نصيص فُتل العيس شهرا--يدوم من الصباح إلى المساء

ولا ينأى به ما كــــان دان--ولا يدنو به ما كان نــاء

وقد وصف تلك البلاد وبعضَ سكانها في أشعاره أثناء تلك الرحلة بأوصاف قاسية قد لا نوافقه عليها، وربما كان دافعه إلى ذلك بعد الشُّقّة، وطول مدة السفر، وغربته عن دياره ومرابع صباه، مع ملاحظة أنه كان شابا يومئذ، وأن أهل الشوكة أيضا لا يعدون عيبا أو تنقصا ما يُذكر عنهم من الغارات، لأنه من علامات القوة عندهم[19].

ومعلوم أن بعض المذكورين في هذا الشعر، كقبيلة أولاد الدليم النبلاء، ربطتهم علاقة وثيقة مع الشيخ سيدي الكبير وأسرته وكانوا، بقيادة أحد عظمائهم الزعيم الشهم الشيعه بن منصور، يتحملون له فرسا كل سنة. وقد مر عليهم الشيخ سيدي المختار (ابَّاهْ) بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديَ مقفَله من سفر كان ينوي فيه الحج، قاده إلى تلاميذ الأسرة من أبناء تيدرارين، فأعطوه أولاد الدليم إحدى خيل أمراء آدرار العتاق المعروفة باغْزَالاتْ، كانوا قد أخذوها بالقوة، ومر عليهم بها في أطار في رسن غليظ من الليف، قصد به أحد التلاميذ، وهو أحمد بن النحرير، إغاظة المعنيين لعدم رضاه في ذلك الوقت عنهم، فلم يتعرضوا له بسوء رغم صعوبة تحمل الموقف منهم، فما كان من أهل آدرار إلا أن أرسلوا للشيخ سيدي بابَه طالبين منه استرجاعها، فطلبه لأخيه ونفذ مطلبهم. وكان الشيخ سيديَ بابَه قد وهب لأهل آدرار قبل ذلك حصانا نجيبا من جُرْد اكريكبات المعروفة، أهداها له محمد محمود بن محمد الأمين بن أحمد زيدان الجكني[20].

الثانية: أن ابنه الشيخ سيدي المختار (ابَّاهْ)، سالف الذكر، سافر سفرا بعيدا  لاستنقاذ ستة عشر طفلا من أهل انتيكان، كانوا قد سبتهم قبائل من العرب، وبذل مالا طائلا في ذلك.

وبَدَهيٌ أننا لا نقصد أن هذه الظواهر ـــ أعنى بروز الفئات والمفاهيم المذكورة قريبا ـــ وليدةُ هذين القرنين، بل أومأنا إلى أن لها امتدادا في الماضي، كما أننا لا نقصد بها التقسيم الطبقي التقليدي المعروف. وإنما نلحّ على استفحالها في الظرف المذكور، لا غير. كما أن الحروب التي طار شَرَرُها في هذين القرنين، وغطَّت كامل الرقعة الموريتانية تقريبا، لم يكن خوضها بِدْعا من الأمر، فقد شهدت القرون الخالية حروبا دامية وصراعاتٍ متعددةً، قد نشير إلى بعضها من باب التمثيل لاحقا إن شاء الله تعلى.

إن ظاهرة "الفداء" تعنى فكَّ الرقاب البريئة من أيدي جبابرة الصحراء، وتخليصَ المضطهَدين من نِير العُبودية والاستغلال والاحتقار، ورفعَ مكانتهم في المجتمع قدرَ الإمكان، ودَمْجَهم في وسط جديد يجدون فيه رَوحا من الإنسانية، ويشعُرون فيه بذواتهم، وبشيء من الكرامة. وتقوم مراسيم الفداء وأديباته عادة على: دفع مال لتسريح الرهينة، ونقله إلى بَرّ الأمان، إن لم يكن أفلت من الإسار واستجار بأحد الوجهاء، ودعوةِ جمع غفير من الزوايا وحسان لإشهادهم على الحدث، وتوثيقِه والتوقيعِ عليه من قِبَل الطرفين: المفتدِى والمعتدِى، حسما للنزاع. وتوجد بحوزتنا وفى مكتبتنا من ذلك وثائقُ تكاد تفوت العدّ.

لقد اتخذت ظاهرة السيبة إذنْ أشكالا متعددة، فمن غارات سلب ونهب، إلى حروب طاحنة منظَّمة طويلة النفَس لم تَكَد تسْلَم منها قبيلة ولا مجموعة فيما نعلم.

وقد ينظر شابّ غِرٌّ ممن نشأ في المدن وفتح عينيه على دولة قائمة، ولو على دَخَن، أو مكابرٌ جِلفٌ ممن شدا شيئا من الدرس والبحث، واسْتَهْوَته لُعَاعة الغرب واطّباه بريقُه الزائف، أو آخرُ شبْعانُ متكئٌ على أَريكته، أو دجّال مدلِّس يتجاهل الحقيقة، قد ينظرون إلى ما قلته هنا، فيقابلونه بالإنكار والاستغراب! ولو أنهم سألوا أهل الذكر، أو استنطقوا الوثائق والتاريخ القريب، أو تجرد المكابرون من الهوى، لأدركوا أن ما قلته قَطرة من بحر وذَرّة من رمل. واستباقا لما عساه يصدر من هؤلاء ونحوهم أسرد لك من تصوير جلة العلماء الذين عايشوا السيبة وبَلَوْها ما يقطع الخصام.

يقول الشيخ سيدىَ الكبير رحمه الله تعلى:

وذِهِ البُغَاةُ طَوَائِفًا سُدَّتْ بِهَا--طُرُقُ الرِّفاقِ غُدُوُّهُمْ وَرَوَاحُ

مَا رُفْقَةٌ تَلْقَاهُمُ إِلاَّ غَدَتْ--نَهْبًا وفِيَها مَقْتَلٌ وَجِرَاحُ

ويقول الهادى بن محمدى العلوىّ العالم والشاعر الخنذيذ المعروف، من الشعر العامي:

(مَذَ مِنْ وَخْشِ--فينا يتْمَشَّ

مَاهُ امْخَلِّ شِ--أُلاه امْخَلِّ شَ)!

مَذَ مِنْ عَلاّلْ--مَعْدُودْ افْلِعْيَالْ

إفكِلّ اَنَوَالْ--أسْرَ مِنْ حَنْشَ

ما خَلَّ سِرْوَالْ--أُلاَ خَلّ فَشّ)!

 قال صاحب الوسيط في ترجمته له قبيل إنشاد هذا الشعر: "وكان الظلمة من قبائل حسّان يخافون من لسانه، لأنه كان يذكر قبائحهم في أزجاله فتحفَظها العامة، وكانوا يتأثرون منها أكثر مما لو كان نظمها بالشعر الحقيقي."(ص72). يعنى الشعر الفصيح[21]. انتهى كلامه؛ وقد أوردته أيضا بطوله لشدة ارتباطه بهذه الحلقة.

كثرة الحروب ودوامُها:

جاء في فتوى للعلامة صالح بن عبد و الوهاب حول الحياة السياسية والاجتماعية في عصره ما نصُّه: «لما كان العمد في هذا البلاد كالخطإ في كف القصاص وإلزام دية لعاقل قاتل العمد وإلزام أولياء المقتول عمدا قبولها لخوف الفتن لتعذر الحق لسيبة البلاد. ويتعين الصلح منها على ما تقرر، فكذلك يتعين الصلح على الهدر في الدماء والأموال لجامع العلة من سيبة البلاد.

وتعذر جريان العمل فيها لما هو مقتضى السياسة التي لا يجوز التعويل على غيرها في هذه البلاد السائبة. كما نص عليه الأئمة وبه جرى عملهم في الأحكام واستقر عليه الفتيا. وإذا كان العمل جرى بها بأن لا قسامةَ ولا قصاصَ ولا هدرَ ، فكذلك جرى فيها بعدم الرد لأموال المتناهبين، كما وقع بين إجمَّانْ وتجكانت،وبين الاغلال وتجكانت، وتجكانت فيما بينهم، وإجمان فيما بينهم، والاغلال فيما بينهم، وفيما وقع بين إجمان وأهل بورده ومن معهم، وبين أهل الطالب مصطفى وأهل أب رده ومن معهم، وبين أهل وادان وأهل شنقيطي، وأهل تيشيت فيما بينهم غير ما مرة، وبين شرفاء ولاتة وشرفاء  النعمة، وفيما وقع بين تندغ وأولاد أبييري وبين إدوعلي وإداب لحسن، وبين كنته فيما بينهم، وفيما وقع بينهم وبين أهل سيدي محمود وغيرهم من العرب والزوايا»[22]

وجاء في رسالة الشيخ سيديَ بابَه المعروفة بـ"تاريخ إدوعيش ومشظوف"، ذِكْرُ نماذج من اقتتال الزوايا بينهم والسيبة التي كانت قائمة، مما لفظُه: «ومع هذا كله فلم يزل الزوايا يُبتـلوْن بفتن مُضـرّة بالدين والدنيا، من أعظمها الحروب الواقعة بينهم قديما وحديثا، كالحرب التي يذكرون[23] بين المجلس وتندغه التي قدم أجداد "تشمشه" البلاد وهي قائمة، وكالحرب التي وقعت بين تاجاكانت في قريتهم تينيكي من أرض آدرار. حدثني آفلواط بن محمد الجاكاني، وهو من أهل العلم والأدب، قبل هذا القرن بيسير أو بعده بيسير، وهو شيخ كُبَّار، أنها كانت على غاية من العمارة بالدين (...) ومنها حـرب بين تاجاكانـت والاغـلال. ومنها حرب تندغه الشرقيين وأولاد أبــيــيــري. ومنها حرب بين إيدغزينبو وتاكنانت. ومنها الحرب بين إيداواعلي "القبله" وإيدابلحسن في زمان محمد الحبيب بن أعمر بن المختار. ومنها حرب بين كنته وتاجاكنت في تكانت، دخلت بين أول حرب كنته وإيداوالحاج وآخرِها.  ومنها حرب بين إيجيجبه وأولاد أبييري في صدر من هذا القرن. ومع إيجيجبه أهل أحمدّو بن سيدي اعلي ومن تبعهم من البراكنة، ومع أولاد أبييــري أولا أحمد وبعض أولاد دمان في بعض الأيام... وجل الترارزة وأميرهم أحمد سالم بن اعلي ساعون في الإصلاح بين الطائفيين لكن على ما أحب أولاد أبييري. ثم لم تنته تلك الحرب حقيقة إلا بمجيء الفرانسة، إلى غير هذا من الحروب الواقعة بين الزوايا مما يتعذر إحصاؤه إجمالاً ولا سيما تفاصيله. وأما أمر "شرببّه" وأمر أولاد أبــيــيـــري وأولاد أبي السباع ونحوها فنوع آخر من الحرب». انتهى كلامه مختصرا[24].

هذا عن حروب الزوايا، أما أهل الشوكة فحروبهم أكثر من أن تُعد أو تُحصى، وقد انتشر فيها قتل الأخ لأخيه، فضلا عن الأقارب الآخرين، فضلا عن الأباعد.

يقول صاحب الوسيط: "إن الحرب فى حسان، أصل معهود بينهم، فتراهم مرة يحارب أحد أقسامهم المتقدمة بعضا، كما وقع بين إدوعيش والترارزة، وبين أحيا من عثمان وإدوعيش، وبين الترارزة والبراكنة، وبين البراكنة وإدوعيش. وقد ينقسم الجنس الواحد منهم إلى قسمين، فيتحارب مع بعضه، كما وقع بين إدوعيش، حيث انقسموا قسمين، وكما وقع بين قبيلتين من قسميهم السابقين كما وقع بين أبناء طلحه واندايات، وغير ذلك من قبائلهم.[25].

وما لم يذكره ابنُ الأمين كثير ومعروف. وقد جاء في كتاب "حوادث السنين"  للعلامة المؤرخ المختار بن حامد ومصادره التى استقى منها  كثير من ذلك. والأمر أكثر من أن يُحصر وأشهر من أن يُذكر.

وتعقيبا على الحروب التي كثرت في هذه البلاد، يقول الشيخ سيدىَ بابه: «والسبب في الحروب الواقعة بين الزوايا قديما وحديثاً سيبة البلاد وعدم اعتناء من فيها من أهل الشوكة وغيرهم باتباع القرآن المجيد في قوله:﴿ وَإِنْ طَآئِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُواْ﴾الآيةَ

ويقول: " كما أن الزوايا لو صاحبهم التوفيق لما كان بينهم من الحروب ما كان، إذ لا مملكة يتجاذبونها ولا منفعة يحاولونها، وعندهم آية﴿ وَمَن يَقتُل مُؤمِنٗا مُّتَعَمِّدٗا﴾ يتلونها. وقد أخرج الشيخان عن أبى بكرة أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار»، فقلت أو قيل: يا رسول الله، هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: "إنه قد أراد قتل صاحبه." لكن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، ولا حول ولا قوة إلا بالله»[26].

معاناة الدين وأهله من السيبة:

لقد كا ن الشيخ سيديَ بابَه، كغيره من علماء البلاد، شديد التأثر بما يعانيه العلم والدين وأهلهما، مذكرا بمكانة الزوايا ودورهم في نشر العلم والدين والعمل بهما معا، مع التنويه بما كان يختص به أكابر الأمراء ونبلاء أهل الشوكة من حماية الزوايا وتقديرهم، حيث يقول: «والزوايا، وإن كانوا محتاجين إلى مزيد من الاستقامة ولا سيما في هذه الأزمنة، فهم مع ذلك حمَلة العلم والدين في هذه البلاد قاطبة قديما وحديثا، لا تنازعهم في ذلك طائفة من طوائفها ولا تقاربهم. والأمر في ذلك أظهر من أن يُظهر وأشهر من أن يُشهر والعيان فيه مغنٍ عن الخبر... والعرب وإن كانت إليهم المملكة والشوكة، فللزوايا المناصب الشرعية كالإمامة العظمى التي اتفق عليها العرب والزوايا قبل "شرببّه" لــناصر الدين، وكإمامة الصلاة والقضاء وتعليم العلم والشهادة والتبرك واللّجإ عند الشدائد... والزوايا عند العرب أكفاء؛ والزوايا لا يريدون لذلك من العرب إلا من تاب وحسُنت حاله».

ثم يخلُص إلى وصف أفاضل حسان وأهل الشوكة وكيف كانت علاقتهم بالزوايا، قائلا: «وأفاضل العرب يجعلون أفاضل الزوايا شيوخا لهم ويقلدونهم في أمورهم يرجون بذلك صلاح أمورهم في العاجل والآجل، ولا يستنكفون منه، بل يرونه فخراً لهم وأجراً وذكرا؛ وقد شاهدوا بركات ذلك وجنوا ثمرات ما هنالك»[27].

وفي ذلك يقول والده الشيخ سيدى محمد بن الشيخ سيديَ في وصف الزوايا عندما يرون جماعة من الأجلاف الظلمة منحملة السلاح الشُّعث الغُبُر:

فَبَيْنَا الحَيُّ خَيَّمَ ذَا طَلاَلٍ--تَبَوَّأَ مِنْ فَسِيحِ اْلأَرْضِ دَارَا

بِسَاحَتِهِ مَحَافِلُ حَافِلاَتٌ--بِأَشْيَاخٍ مُهَذَّبَةٍ طَهَارَى

وَكُلِّ فَتًى يَجُرُّ الذَّيْلَ تِيهًا--وَتَفْتَرُّ الْمِلاَحُ لَهُ افْتِرَارَا

إِلَى نَسَبٍ لَهُمْ بَلَغُوا ادِّعَاءً--بِهِ أَذْوَاءَ حِمْيَرَ أَوْ نِزَارَا

إِلَى أَنْ يُبْصِرُوا شُعْثًا كَسَاهُمْ--لِبَاسُ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ اغْبِرارَا

رِعَاءَ الشَّاءِ حَقًّا مَنْ رَآهُمْ--يَقُولُ هُمُ الرِّعَاءُ وَمَا تَمَارَى

هُنَالِكَ لا تَرى شَيْئًا نفيسًا--وَلاَ مُسْتَحْسَنًا إِلاَّ مُوَارَى

وَلَمْ يَكُ قدر لَمْحُ الطَّرْفِ إِلاَّ--وَقّْدْ سَلَبُوا الْعِمَامَةَ وَالْخِمَارَا

أَجِدَّكُمُ بِذَا يَرْضَى كَرِيمٌ؟ --وَهَلْ حُرٌّ يُطِيقُ لَهُ اصْطِبَارَا؟

ويقول أيضا:

وتَرَى جَمَاعَةَ مُسْلِمِينَ بِمَسْجِدٍ-- شُمَّ الأُنُوفِ أَعِزَّةَ الآباء
وُقُرًا كَأَنَّ الطَّيْرَ فَوْقَ رُؤُوسِهِمْ-- هِمَّاتُهُمْ في النَّجْمِ وَالْجَوْزَاءِ
وإذا تقول لبعضهم: لِم؟ كادَ أن—يَرْمِيكَ بِالنَّسْرَيْنِ والعَوَّاءِ
فَتَخالُ أنَّ الضَّيْمَ فِى أَكْنَافِهِمْ-- مُسْتوْدَعٌ مُسْتَوْدَعَ الْعَنْقَاءِ
حَتَّى إِذَا نَظَرُوا إِلَى مُتَقَلِّصٍ-- أَهْدَامُهُ ذِى وَفْرَةٍ شَعْثَاءِ
وَلَدَتْهُ أُمٌّ بِئسَمَا جَاءَتْ بِهِ-- وَأُبَيُّهُ رَاعٍ وَنَجْلُ رِعَاءِ
قَامُوا إِلَيْهِ مُبَادِرِينَ كَأَنَّمَا-- قَامُوا لِبَعْضِ أَجِلَّةِ الأُمَرَاءِ

وَإِذَا أَشَارَ إِلَيْهِمُ بِمُعَلَّبٍ-- مُتَضَمِّخٍ بِالرَّيْنِ وَالأَصْدَاءِ

أَعْمَى الزِّنَادِ، جِعَابُهُ قَدْ شُقِّقَتْ-- غَلَقَ الْعَنَاكِبُ جَوْفَهُ بِبِنَاءِ
طَفِقُوا يُثِيرُونَ الْعَجَاجَ كَأَنَّمَا-- أَغْرَيْتَ قَسْوَرَةً بِسِرْبِ ظِبَاءِ
فَلَدَى الْقَوِىّ هُمُ ذِئَابُ مَفَازَةٍ-- وَلَدَى الضَّعِيفِ هُمُ أُسُودُ كَرَاءِ
هَيْهَاتَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدٍ-- وَصِحَابِهِ وَقُفَاتِهِ الْكُرَمَاءِ!
لَمْ تُمْسِكُوا مِنْ دِينِهِمْ إِلاَّ الْقَوَا-- عِدَ خَمْسَهَا مَدْوُوفَةً بِرِيَاءِ
وَلَرُبَّمَا مَنَعُوكُمُوهَا عَنْوَةً—حَتَّى افْتَدَيْتُمْ مِنْهُمُ بِفِدَاءِ

خاتمة:

ومع تفشي مظاهر الخوف والرُّعب، وتتابُعِ إخفاق كل محاولة رامية إلى تأسيس إمارة إسلامية أو أي سلطة عادلة أخرى، وبقاءِ الأرض سائبةً كما كانت أو أشدّ، ومع سيطرة الأوروبيين على كبريات وصُغريات الحواضر الإسلامية والإفريقية الأخرى، وبداياتِ دخولِ الفرنسيين إلى البلاد، رأى بعضُ العلماء مِنْ حَمَلَة هَمِّ السلطة المركزية وبناء الدqولة، أن الفرصة مناسبة لإحياء الفكرة من جديد والعملِ من أجل تطبيقها على أرض الواقع، متخذين، من باب الاضطرار وارتكاب أخف الضررين، من المستعمر بديلا مؤقتا للسلطة المنشودة، ومستعينين بهذه القوة الأجنبية المخالفة في الدين، التى لا مفر منها ولا بديل عنها، ولا سبيلَ إلى صَدِّها عن هذا الطَّرَف الضعيف والممزَّق من بلاد الإسلام.

 لقد جاء في رسالة الشيخ سيديَ بابَه الموجَّهة إلى زوايا المنطقة بشأن مهادنة المستعمر ومصالحته على ما يعرضون من حفظ الأنفس والأعراض والأموال ما نصُّه: «ومن المعلوم شِدّةُ الحاجة إلى ذلك، فلعل الله أرسلهم رحمة بعباده ولُطفا، بهم فهو أهلٌ لذلك والمرجو لما هنالك»، ليبدأ بعد ذلك في بسط وتأصيل الأدلة الشرعية المتعلقة بالموضوع، مما سيأتي ذكره مفصلا في الحلقات المقبلة إن شاء الله. (يتواصل إن شاء الله).

 

الشيخ سيديَ بابَه وموقفُه من نازلة الاستعمار (الحلقة الثالثة)      (حقائق - تساؤلات - تحليلات - تصويبات - وثائق)

د/ أحمد بن هارون ابن الشيخ سيديَ         [email protected]

الحلقة الثالثة:

الخلفية الاجتماعية والعائلية للشيخ سيديَ بابَه؛
الخلفية الشخصية والمذهبية؛
استفادة الشيخ سيديَ بابَه من تجربة أبيه وجَدِّه الجهادية؛
خاتمة.

الخلفية الاجتماعية والعائلية للشيخ سيديَ بابَه:

بما أن الرجل كان زعيما لقبيلة من أغنى وأكبر قبائل البيضان، لا تقبل الضَّيْم لأبناء عمومتها من بني حسان الذين عدلت عن نهجهم المتَعارَف عليه تقليديا، وشيخا روحيا لإحدى أعظم وأغنى الإمارات، وجاليةٍ من أكبر جاليات ما وراء النهر، فضلا عن العلاقات الروحية والعلمية والسياسية التي كانت تجمعه وأسلافَه وشقيقَه وقبيلَته بمجمل قادة البيضان والسودان، فإنه من المُستبعَد، إلى حد كبير، أن تكون الدوافع الشخصية والأغراض الدُّنْيويَّة، كالبحث عن المال والشهرة والمكانة، هي التي دفعته لاتخاذ قرار وموقفٍ من هذا النوع.

فالشيخ سيديَ بابَه قد ورث، هو وأخوه الوحيدُ الشيخُ سيدي المختار، البنيةَ الفوقيَّة والتحتيَّة لجدّهما الشيخ سيديَ الكبير الذي تربَّيا في أحضانه. وقد كُتبت في هذا الأخير ورُويت مجلَّداتٌ ودواوينُ منثورةٌ ومنظومة، محلية وأجنبية، قد يكون إيراد فقراتٍ من منثورها مفيدا للقراء العاديين الذين يُقال لهم اليومَ ويُوحَى إليهم أن الشيخ سيديَ بابَه وذويه قد حصَّلوا الثروة والمكانة عن طريق علاقتهم بالنصارى المستعمرين.

من جوامع ما قيل في الشيخ سيديَ بن المختار بن الهيبة، ما كتبه أحمدُ بنُ الأمين الشنقيطيُّ العلويُّ، صاحبُ الوسيط، حيث يقول في ترجمته: «فلَمْ تَزَلْ فضائلُه تبدو حتى أذعنت له الزوايا وحَسَّان وصار مثل الملِك بينهم، فلا يُعقَّبُ أمرُه، وكان أهلا لذلك كرما وحلما وعلما... ولم تزل الدنيا تنهال عليه ويفرقها بين الناس. وكان إذا انقطع الطريق لعدم العمارة حفر فيها الآبار ويبعث المؤن الطائلة لِقِرَى المارين...»[28].

ومثالا على الخلاصات والانطباعات المعاصرة حول الشيخ سيديَ الكبير، يقول الشاعر والسياسيُّ المشهور، أحمدُو ولد عبد القادر: «عاد الشيخ سيديَ من رحلته العلمية الطويلة إلى ذويه في أبي تلميتَ وآوكارْ. وسرْعان ما ارتفعت فوقه هالةُ النصر وأُبَّهةُ العز، وارتفع برجُ مجده بسرعةِ وعفوية القدَر المقدور، وطار صِيتُه في الأصقاع قريبِها وبعيدِها، وانبَهَرَ الناسُ واردينَ وصادرينَ، وأحَسُّوا أن مَرجعيَّةً جديدةً للفضل تَفرِضُ سلطانَها على قلوبهم. واستوى في ذلك الشعراءُ المادِحون، والأمراءُ الحاكمون، والأغنياءُ والفقراء، والعلماءُ والمتعلمون، والمتسلطون وضحايا الظلم. وسرعان ما اتفق الشعراءُ الفطاحلةُ على تسْمِية الشيخ سيديَ بلقب الكمال...»[29].

ويقول الباحث والوزير الدكتور إزيد بيه ولد محمد محمود، في محاضرة له بعنوان: "الشيخ سيديَّ بابَه. الوزنُ الاجتماعي والسياسيُّ وهَمُّ السلطة المركزية": «ترتبط سيرة الرجل كذلك بأبويه ارتباطا وثيقا، اعتبارا للفارق الزمني الوجيز بين الشخصيات الثلاث. فالشيخ سيديَ بابَه ابنٌ لرجلين لعِبا أدوارا سياسية واجتماعية كبيرة، سواء على مستوى القبيلة التي ينتميان إليها، أو على مستوى البلد ككل، أو حتى على مستوى الأقاليم المجاورة. فالشيخ سيديَّ الكبير بما عرف عنه من عُلُوِّ الهمة وسَعَة المعارف، قارعَ الاستعمار الفرنسي عبر جهوده الماثلة في الوثائق التاريخية وعبر مراسلاته، بل إنه، أكثر من ذلك، حاول جمْع كلمة البلاد وتوحيدَ الإمارات في وجه هذا الخطر. وقد عمِل جهْدَ المستطاع من أجل محاربة النزاعات والاقتتال بين قبائل ساكنة هذه البلاد. وكان فاعلا في نشر الثقافة والمعرفة في هذه الربوع. وقد نحا نحوه ابنه الشيخ سيدِي محمد فكان ساعدَه الأيمن وخليفته، وكان فضلا على ذلك عونا له في تحقيق مقاصده آنفة الذكر، غير أن الشيخ سيدِي محمدا لم يُعمّر طويلا بعد والده. وقد كان الشيخ سيدي باب على قياس المهام التي وُكِلت إليه؛ وقد تَصَدَّى لمجمل المشاكل التي كانت مطروحة بحكمةٍ مشهودةٍ وحُنكَة بالغة ونفاذ بصيرة...[30]».

ويقول الشيخ العلامة محمد الحسن ولد الددو:  «وأما المجدد الشيخ سيديَ باب فلا يختلف واصفوه من معاصريه أنه قد زاد في الفضل والكمال على أبيه وجده، وآخذ مثالا على ذلك قول جدي محمذ فال ابن محمد مولود المشهور بالدَّدَوْ:

على أبويه زادَ وأيُّ مَرْءٍ--يُطاوِلُ غيرَه قُنَنَ الجبالِ

فَـــدَعْ خيرَ القرونِ وفَضِّلَنْهُ--على مَنْ بَـعْـــدَ ذاك مِن الرجالِ

وفي البيت الأخير تصويب لقولِ الشاعر المبدع محمذ بن السالم في الشيخ سيديَ الكبير:

حَوَتْ ما دون مرتبة التــنــبي--يداك مــن المــكــــارم والمعــالي

فأنت إذا من الثقلـين طُــرًّا--بمنزلة اليمين من الشمال

وقد اتفق معاصرو الشيخ سيديَّ باب أنهُ بلغ رتبةَ الاجتهاد وأصبح إمامًا عامًّا للمسلمين في غرب إفريقيا عنه يصدرون في أمور دينهم وأمور دنياهم»[31].

وفي مقدمة ترجمة علمية للشيخ سيديَ بابَه نفسِه، كتب الشيخُ العلامة محمد فال (ابَّاهْ) بن عبد الله بن محمد فال بن بابه بن أحمد بَيْبَه العلوىُّ ما نصُّه: «يعتبر الشيخ سيديَ بابَه بنُ الشيخ سيدِي محمد أبرزَ شخصيةٍ ظهرت في أواخر القرن الثالث عشر الهجري وأوائل الرابع "تملأ الدلو إلى عَقْد الكَرَبْ"، صيتا وذِكرا حسنا في مجالات شتى. ويرجع ذلك إلى عدة عوامل: شهرة الشيخ سيديَ الجَدِّ عِلْمًا وعَمَلا وصلاحا وزعامة دينية حكيمة شاملة لجميع نواحي البلاد، بحيث يُعتبر أكبرَ مُصلح بما لكلمة "الإصلاح" من معنى: إصلاحِ ذات البين بين الأمراء فيما بينهم إن تشاجروا وقامت الحرب بينهم على ساق، والإصلاحِ بين القبائل المتناحرة، والإصلاحِ بين الأفراد المتنافرة، وإصلاحِ النفوس ورياضتها لتنقاد لأمر ربها امتثالا واجتنابا، إلى نشر العلم والفتوى في النوازل النازلة والتآليف البديعة والنصائح القيِّمة، إلى دماثة خُلق وتحمُّلِ مشقة عُرفَ بهما في رحلته الطويلة في طلب العلم، إلى نُصرة المظلوم وإعانة المنكوب والصبر على جفاء الجافي ودفعه بالتي هي أحسن، بحيث صار حرَما آمنا يلجأ إليه الخائف ويفرُّ إليه الجاني، متعززا بتقوى الله مكتفيا به عما سواه. ويقال: "من خاف الله خافه كلُّ شيء"، حتى صارت سِمَتُهُ على المواشي أَمانا لها من اللصوص الناهبين، فصار بعض الناس يضعها على مواشيه خوفا عليها. وفي هذا يقول العالم الشاعر أبَّدَّ بن محمود العلوي يخاطب بابَه بن الشيخ سيدِي محمد:

أنسى الورى بُلدانَهُم وغدت لهم--بُلـدانُهُ سَلـْـمَى البلادِ ومَـنـْعِـجَا

مَنْ لم يَخُطَّ الْبَا بلوح خَطَّه-- يُـمْنَى التَّلِـيلِ تحَـصُّـنـًا ممَّا فَجَـا

ولقد أجاد سيدِي عبد الله ولد أحمد دامْ الحسنيُّ في قصيدته التي يمدح بها الشيخ سيديَّ الكبير حيث يقول:

لا يُظهر الضجْرَ من جارٍ أساءَ ولا--من المُرافِقِ يُوهِي صَبْرَ من صَحِبهْ

ولا يضيقُ ذراعًا بالذي صَنَعَتْ-- أيْدي الحوادثِ تَبْـتَـزُّ الفتى سَـلـَبَهْ

وكـمْ ثأًى بَيـنَ مَا حَـيَّـيْنِ أصْلَحَهُ--خَرْزَ الصَّنـَاعِ لمُسْـنِي أُجرةٍ قِرَبَـهْ

إلى قوله:

وطَلْعةُ الوجهِ للعافي تهلِّلُها--تَهَلُّلَ الأم تأتي بنتَها الخَطـَـبَـهْ

وأبوه الشيخ سيدِي محمد العالم العامل الناسك المُخبت والشاعر المُفلق والخليفة الكفءُ. فنشأ الشيخُ سيديَ بابَه في هذا الجو العلمي الديني والشرف الرفيع مهيَّئا لـخـلافـة الأبـويـن، فـكان كما قال زهير بن أبي سُـلْمَى المُزَنِي في هرِم ابن سنان المري:

يطلبُ شأوَ امْرَأيْنِ قَدَّما حَسَناً-- نالاَ الملوك وبَـذَّا هذه السُّـــوَقَـا

هو الجوادُ فإن يلحقْ بشأوهِما--عـلى تكاليفـه فمِثـلـُـهُ لَـحِقَا

أو يسْبِقاه على ما كان من مَهَلٍ--فمِثْلُ ما قَدَّما من صالحٍ سَـبَقـَـا

وقوله في أبيه سنان بن أبي حارثة:

فما كان من خيرٍ أتَــوْهُ فـإنـمَا--توارثَهُ آبـاءُ آبائِهِمْ قَبْلُ

وهلْ يُنْبِـتُ الخَطِّيَ إلاَّ وَشِــيجُهُ--وتُغْرَسُ إلاَّ في مَنَابـِـتِـها النَّخْل؟

لكن الشيخَ سيديَ بابَه لم يكتف بهذا الشرف التالد الموروث، دون الشرف الطارف المكسوب، منشدا حالُه قولَ القائل:

إنَّا وإنْ أحْـسَـابُـنـَا كَــرُمَــتْ-- لَسْـنـا عـلى الأحساب نَتَّكِلُ

نبْني كما كانتْ أوائِلُــنَا-- تَـبْنِي ونَـفْعَـلُ مِـثـْــلَ مَا فعـلوا

بل بنى وفعل مثل ما بنت وفعلت آباؤه، كما قيل في رثائه:

ولم يرضَ إلا أن يَسُـودَ بنفسه--فليس بمجدِ الغير سادَ عِصَـامُ

قدَ اَتْـعَبَ نفسًا بالغـُـدُوِّ لنيْلِهِ--وأسْهـرَ عينـًا والرجالُ نِــــيــامُ

فَفَـاتَــهُـمُ إذ يَـرْكَـنونَ لراحــةٍ--وقَادَ جُموعَ الشِّيبِ وهْو غـُـــلامُ...»[32].

أما الكتابات الأجنبية المهتمة بالمنطقة، بدءا من أواخر القرن التاسع عشر الميلاديّ، فلا يكاد أيٌّ منها يخلو من ذكر للشيخ سيديَ الكبير.

الخلفية المذهبية الخارجة عن المألوف:

رغم كون الشيخ سيديَ الكبير قليل العداوات والخصومات، حتى قيل إنه كان محلّ إجماع في هذه البلاد، ورغمَ كون الشيخ سيديَ الحفيد وارثا لعلاقات جَدِّه كاملة غير منقوصة، بل زادت تلك العلاقة في عهده وتوسعت، إلا أن الشيخ سيديَ بابَه كانت له دعوة تجديدية صريحة إلى الرجوع إلى المنابع الأصلية للدين؛ وقد نجم عن ذلك ظهورُ من يخالفه، قديما وحديثا، ويتعصَّب لما ألِف من متون ومذاهب.

لقد كان أغلب مسلمي هذه البلاد، وما زالوا إلى حد كبير، يروْن أن دينَ الله مقصور على مشهور المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية وطريق الجنيد، فكان أنْ خرج الشيخ سيديَ بابَه عن التقليد والجمود على المألوف، متعرِّضا لمباحث وأبواب ومسائل عقدية وأصولية وفقهية لم تجتمع في شخص واحد قبلَه، ولم تُشكِّل في مجموعها دعوة متكاملة وصريحة عند أحد من العلماء في أرض البيضان، على ما يبدو.

هذا مع رجوعه في فتاواه وكتبه إلى المصادر المباشرة وأمهات الأصول والفروع التي لم تكن متوفرة في الغالب، ومَن نظَرَ فيها من العلماء لا يرجع إليها في عباداته وفتاويه، مكتفين بالمتون والمختصرات المقررة في محاضرنا، والتي لا تخرج في مجملها عن مشهور المذهب الذي كاد أن يكون وحيا في هذا الجزء من بلاد الإسلام. وكان مما فصَّله الشيخ سيديَ بابَه المسائل المتعلقة بالسياسة الشرعية ذات الصلة بموضوع هذه الورقة.

يقول سبطه وتلميذه الشيخُ العلامة المحدثُّ محمدُ بنُ أبي مدينَ: «ولما كان أهل القطر الموريتاني، في المعتقدات: على مذهب أبي الحسن الأشعري الأوسط وهو التأويل؛ وفي الفروع: على رواية ابن القاسم عن مالك في المدونة؛ وفي التصوف: على طريق علي أبي القاسم الجنيد بن محمد؛ ويرون أن الحق منحصر في هذا وهذا وهذا، بَيَّنَ الشيخ، رحمه الله تعالى، أن الأوْلى في المسألة الأُولى...».

إلى آخر تلك المباحث المفصلة تفصيلا والمؤصَّلَة تأصيلا، والتي ليس هذا محلَّها ولا محلَّ تراجم الشيخ وكلام العلماء والشعراء والأدباء فيه، وإنما أشيرَ إليها هنا لفهم مدى تبايُنها مع ما كان يعتقده ويَدينُ اللهَ به أكثرُ علماء البلاد.

ويضيف العلامة المحدث محمد بن أبي مدين: «وكان احترامه للأئمة ولمذاهبهم على حد سواءً، من غير تعصب لإمام معين أو زهد فيه، يثني على الأئمة ويشكر لهم سعيهم ويترحم عليهم، وينظر في أقوالهم نظر منصف، فإن اتفقوا على مسألة بان له دليلهم فيها، أو لم يَبِن له دليل على خلافهم، فذلك هو الضالة المنشودة عنده؛ وإن اختلفوا نظر إلى من معه الدليل فأخذ بقوله سواءً كان واحدا أو اثنين، وإن لم يتبين له الدليل، ورجعت المسألة إلى الرأي البحت والاجتهاد المحض، نظر فإن اتفق ثلاثة من الأئمة الأربعة على قول فيها وخالف الرابعُ، أخذ بقول الثلاثة وجعلهم بمنزلة الدليل، كما أشار إليه في كلامه السابق، وإن صار اثنان منهم إلى قول، واثنان إلى قول، ولم يترجح عنده أحد القولين بمرجِّح ما، ذهب إلى قول مالك ومن معه، فلم يكن يُـــقــــدِّم على قول مالك إلا الدليل أو خلاف الثلاثة له.

وكان يذهب إلى قول من قال من العلماء بتيسر الاجتهاد، ويقول: فلان وفلان وفلان من أهل عصره مجتهدون، لمعرفتهم ما يتوقف عليه الاجتهاد، لكن التوفيق شيء آخر، ويميل إلى قول الحنابلة ومن وافقهم من الشافعية إنه لا ينقطع؛ ويصوِّب قول الجمهور إنه يتجزأ»[33].

ويقول الدكتور حماه الله ولد السالم: «ومع اطلاع الشيخ سيديَ بابَه على أفكار كبار المصلحين، لم يستنسخها حرفيا، بل راعى خصوصيةَ مجتمعه البدويّ، والتزم نوعا من التدرُّج في نقد الطروحات الفكرية التي يصدر عنها فقهاء البلاد. ولم يخرج فكر الشيخ سيديَ بابَه على مبادئ الفكر الإصلاحي الإسلامي الرائج آنذاك، حيث قام بإحياء السنن التي أميتت في محيطه الجغرافي (منطقة القبلة=بلاد الترارزة) مثل: سنة القبض والرفع ولزوم فاتحة الكتاب للمأموم والعمل بالصلاة على الجانب النبوي من خلال تأصيلها من أمهات كتب الحديث، بالإضافة إلى مناداته برفض الشعوذة والدَّجَل وأفكار التواكل والخمول... ويكشف الشيخ سيديَ بابَه في كتابه "إرشاد المقلدين عند اختلاف المجتهدين عن توجه متدرِّج إلى الاجتهاد وبناء النظر الفقهي على أساس متين من الكتاب والسنة»[34].

وفي تعبير طريف وبليغ عن ذلك التباين والتنافر، يقول الإمام العلامة بداه بنُ البوصيري: «ما كنت أسمع اسم هذا الرجل، يعني الشيخ سيديَ بابَه، إلا استشطت غضبا، بسبب آرائه المخالفة لما قرأنا، إلى أن جئت هذه السنين إلى نواكشوط ووجدت شيئا من الكتب وتعلمت القراءة والكتابة (عدْتْ انْكَمْكِي، أو انْدَمْكْي)؛ عندَها أصبحت لا أعُدُّ هذا الرجل إلا مع الأئمة الكبار...»[35].

لقد أرجع الشيخ سيديَ بابَه ضعف المسلمين وتخاذلهم وغلبة غيرهم لهم إلى حيدان الأمة عما كان عليه سلفها الصالح، فاتبع الأمراء الشهوات، وابتدع العلماء والصالحون البِدع، وطلبوا الدنيا بالدين، وبقيت العامة حيارى لا يجدون مرشدا ولا يهتدون سبيلا. فتخلف النصر عنها وظهر عليها مخالفوها فلا ترى شبرا من الأرض منذ حين فتحه المسلمون، ولا تزال ترى إقليما فتحه النصارى. ولا يزال ذلك ما لم تراجِعِ الأمةُ دينَها وتُخلِصِ اتباعَ سنة نبيها عليه الصلاة والسلام...[36].

أيصدر هذا الكلام ممن يعارض الجهاد في سبيل الله؟ لقد كان هذا الشيخ يعي واقعَه وواقعَ وطنه وواقعَ أمته، وكانت تحاصره وتهدده قُوَى وعصابات من كل جهة وعلى كل صعيد، فجاء موقفه نابعا من فقه الضرورة، كما سنرى فيما بعد إن شاء الله تعلى.

استفادة الشيخ سيديَ بابَه من تجربة أبيه وجَدِّه الجهادية والإصلاحية:

رغم وفاة الشيخ سيديَ الكبير قبل دخول الاستعمار الفرنسي إلى موريتانيا بسنوات عديدة، إلا أنه استطاع أن يستشعر الخطر الاستعماري ويستوعبَ أهدافه التوسُّعية، فدعا إمارات البيضان الأربع إلى مؤتمر القمة الشهير الذى نظمه سنة 1856م في مقر إقامته بتندوجه، فحضره ثلاثة من الأمراء بأنفسهم وخيْلهم ورَجْلهم، بينما اعتذر الرابع لمرض أصابه، باعثا وليَّ عهده وخليفتَه فيما بعد.

دعاهم الشيخ سيديَ في المؤتمر إلى توحيد كلمتهم تحت رايةِ واحدٍ منهم يختارونه، وتأسيسِ بيت مالٍ وجيشٍ مشتركيْن؛ واقترح عليهم أن يختاروا أحدهم فيعطوه الإمارة وتبقى في ذريته، أو يجعلوها دُولة بين السلالات الأميرية، إلى غير ذلك من الصيغ التي كُتب لها أن تبقى نظرية.

لقد كان للشيخ سيديَ الكبير، كما كان لشيخيه المختارِيِّين الكُنتيين، طموحٌ سياسيٌّ ونظرةٌ شموليةٌ واسعة، تتجسد في فكرة الدولة وتأسيس نظامِ حكمٍ إسلامي يقيم الكتابَ والميزان. يقول العلامة محمد سالم بن محمد علي بن عبدالودود (عدود): «كاد يكون الشيخ سيديَ أسس دولة هنا: وحَّد بين الناس وأصلح ذوات البين التي كانت فاسدة وراسل الملوك والأمراء وذهب هو بنفسه في هذه المهام وأوفد ابنه الشيخ سيدِي محمَّدْ إلى منطقة لكْرَار»[37].

ويقول الكاتب السياسي الكبير محمد يحظيه ولد ابريد الليل: «ما إن انتصف القرن التاسع عشر حتى بدأت هواجس ونيات الحاكم الفرنسي في السنغال، الجنرال فيدرب Faidherbe واضحة: اقتلاع إقليم الوالو من إمارة الترارزة، وحماية السكان المزارعين على الضفة اليسرى للنهر ضد البيضان. لقد بدا هذا الجنرال توسعيا متغطرسا، فهبَّ الشيخ سيديَ الكبير واقفا في وجهه، مشكِّلا بذلك رمزا وقلبا لرفض احتلالٍ مرتقبٍ منظور. "عندما يصعد الفيل نتوءا صخريا، فإنما ليزداد عظمة" كما يقول المثل البوركينابي. ثقافةُ الرجل الواسعة فتحت عينيه أكثر من رجالات عصره، فحاول تأسيس جبهة للمقاومة بجمعه الأمراءَ الذين تسنَّت لهم فرصة التعبئة في أجَل معقول والتموقع غربَ رأس آكرراي؛ ولكن هيهات! من يستطيع وقتَها أن ينظر بعيدا؟ لقد كان ذلك الطلَبُ أكبر من هؤلاء القادة، ومن تلك العقليات، ومن ظروف ذلك الزمان»[38]. انتهى كلامه.

وقد ورد ذكرُ مؤتمر تندوجه هذا في كثير من الكتابات الأجنبية. من ذلك ما كتبته الباحثة الكبيرة جنفييف ديزيري فيليمين: «كانت مفاجأة الجنرال فيديرب كبيرة عندما علم أن مصالحة قد تمت في أبي تلميت سنة 1856 بين أمراء البراكنة والترارزة وآدرار، معتبرا أن في ذلك نجاحا كبيرا للأمير محمد الحبيب ضد السنغال، بل هو جهادٌ يقوم به الشيخ سيديَ الكبير. والحق أن هذه المصالحة كانت من عمل أكبرِ شخصية في جنوب غربي الصحراء، الشيخِ سيديَ الكبير، الذي ما فتئ منذ عدة أعوام يبذل قصارى جهده من أجل المصالحة بين الأعداء، الذين يكونون في الغالب مقربين منه أو تلامذة له، بوصفه شيخا كبيرا ورأسا للقادرية، وزعيما روحيا وعلميا، في مجتمع فوضوي، في طريقه إلى التفكُّك والتشرذم، فكان هذا الشيخ عامِلَ وحدته الأوحد»[39].

ومن الجدير بالذكر أن الجهاد الذي قام به الأمير الكبير محمد الحبيب ضد الفرنسيين على مدى عقود عديدة، لقي دعما كاملا ومباركة من شيخه الشيخ سيديَ الكبير.

كذلك الأمر بالنسبة لتلميذه الوفي الأمير امْحمد بن محمد بن سيد بن المختار بن ءاغريش المعروف بامْحمدلْسيد، أمير البراكنة. يقول الباحث المؤرخ سيدي أحمد ولد الأمير: «بالرگبة وقعت معركة شديدة من معارك البراكنة في 6 يونيو 1856 وكانت بين أمير البراكنة امحمد بن سيدي ومعه أولاد أحمد ضد خصمه سيدي اعلي بن أحمدّو الطامح إلى الوصول إلى عرش الإمارة، والمتحالف مع الفرنسيين في سينلوي. وقد حضر الشيخ سيديَ الكبير هذه المعركة مناصرا تلميذه الأمير امحمد بن سيدي، وقد انهزم الجيش الفرنسي الزاحف شر هزيمة رغم عدته وعتاده وترك وراءه 23 قتيلا وخمسة عشر جريحا. ومات من جانب الأمير امحمد بن سيدي أفرادٌ أفتى الشيخ سيديَ بمعاملتهم معاملة الشهداء ودفنهم بثيابهم»[40].

وقد كان القائد العامّ لتلك المعركة الأمير امحمد ولد سيدي معززا بجماعة أتت مع الشيخ سيدىَ الكبير من أولاد أبيارى وأولاد أحمد وأفراد من أولاد دامان يقودها البطل المعزوز بن جده الفاضلىّ المكىّ الأبيارىّ الذي استُشهد فى تلك المعركة. وقد عُـثر على بعض قتلى ذلك اليوم بعد عقود من الزمن كما هو لم يتسَنَّهْ، فى قصة مشهورة متداولة.

أثناء مؤتمر تندوجه، وقف الشيخُ سيدي محمد بن الشيخ سيديَ وسط المؤتمرين وأنشد رائيته الشهيرة، التي جسّد فيها طرح والده أمام هذا الجمع الذي يشكل قمّة القمّة آنذاك:

رُوَيْدَكَ إِنَّنِي شَبَّهْتُ دَارَا--على أمثالها تقف المهارى

والتي بلغت مائة وعشرة أبيات، وهى تعتبر ملحمة الجهاد. أضف إلى ذلك أنه صدع فيها بمقارعة اللصوص والظَّلَمَة، قارنا إياهم بالنصارى، بجامع محاربتهم للإسلام... حيث يقول فيها:

حُمَاةَ الدِّينِ إنَّ الدِّيـنَ صَـارَا--أَسِيرًا لِلُّصُـوصِ وَلِلـنَّــصَـــارَى

فَــإِنْ بَـادَرْتُوهُ تَدَارَكُوهُ--وَإِلاَّ يَـسْبِـقِ السَّيْـفُ الْـــبِـدَارَا

إلى أن يقول واصفا حال الزوايا المستسلمين للظلم ومتذمرا من ذلك الوضع، في أبياته التي سبق إيرادها في الحلقة الخاصة بالسيبة، والتي يقول في آخرها:

أَجِدَّكُمُ بِذَا يَرْضَى كَرِيمٌ؟--وَهَلْ حُرٌّ يُطِيقُ لَهُ اصْطِبَارَا؟

ثم طفق يحذر من دخول الروم ومباغتتهم لهم وهم على ما هم عليه من الفوضى والاقتتال:

ورُومٌ عَاَيُنوا فِي الدِّينِ ضُعْفًا--فَرَامُوا كُلَّ مَا رَامُوا اخْتِبَارَا

فَإِنْ أَنْتُمْ سَعَيْتُمْ وَانْتَدَبْتُمْ--بِرَغْمٍ مِنْهُمُ ازْدَجَرُوا ازْدِجَارَا

وَإِنْ أَنْتُمْ تَكَاسَلْتُمْ وَخِمْتُمْ--بِرَغْمٍ مِنْكُمُ ابْتَدَرُوا ابْتِدَارَا

فَأَلْفَوْكُمْ كَمَا يَبْغُونَ فَوْضَى--حَيَارَى لاَ انْتِدَابَ وَلاَ ائْتِمَارَا

إلى آخر ذلك من وصف الأحوال والمآلات والحلول المطلوبة.

يقول الدكتور أحمد محمود ولد الدَّنَبْجَه: «ثم بدأ يعدد الآليات الضرورية لهذا الجهاد المفترَضِ والشروطَ الأساسية له، ثم بدأ في وصف الجيش، ثم بدأ يصف الواقع المزري والاقتتال بين القبائل والإمارات فيما يعرف باللصوص التي لا تخاف البأس ولا العقبى ولا ينجو منها حالٌّ ولا مرتحل... ثم يمضي في نقده اللاذع للمجتمع والزوايا الذين تخلوا عن الأسلحة والدفاع ويناقش هذا الموضوع من وجهة نظر دينيه ودنيوية وأن تركهم السلاح مرفوض دينيا ولا يقبله الشرع ولا المصلحة السياسية والاجتماعية. وقد خلد الشاعر أروع قصيدة خاصة بهذا الموضوع ومطلعها:

مَزَجَ الدُّمُـوعَ بِمُسْبَلاَتِ دِمَاءِ--مُتَلَهِّفًا مُتَنَفِّسَ الصُّعَدَاءِ»[41].

سعى الشيخ سيديَ الكبير إلى إصلاح المجتمع سياسيا وفكريا وأخلاقيا عبر الدعوة إلى الإمامة والتوحُّد، لكن الأمر كان بعيد المنال من جميع النواحي.

أرسل إلى سلطان المغرب يستنجده ويطلب منه السلاح والتموين[42]، وشرع في محاولات محليَّة معروفة لصناعة البارود والذخيرة عند ميمونة السُّعْدى: تامرزكيت وتندوجة، وقد ظلت آثارها ماثلة للعيان إلى وقت قريب. فضلا عن رسالته المشهورة التي واجه بها الحاكم الفرنسي المتجَبِّر فيديرب[43].

خاتمة

شكَّلَ المشروع السياسيُّ الجهاديُّ الذي حاول الشيخُ سيديَ الكبيرُ وابنُه الشيخ سيدي محمد إقامتَه، ووقفت دونه عراقيلُ ذاتية وموضوعية، تجربةً مباشرةً، سيدرك الشيخُ سيديَ الحفيدُ ويتيقَّن من خِلالها، وخِلالِ ما تلاها من أحداثٍ وظروفٍ أكثر سلبيّةً وإضعافا للمسلمين عموما، ومُسْلِمِي هذه البلاد خصوصا، أن البنية التحتية والمادةَ الأُولى لمؤسسةٍ جهاديَّةٍ رصينةٍ في هذه البلاد قد طارت بها عَنْقاءُ مُغْرب!

ثم إن الشيخ سيديَ بابَه كان على اطِّلاع دقيق وصِلة مباشرة بالنهر وما يأتي منه وعبرَه من أخبار وتجارِب سياسية وجهادية أخرى، لاقت كلها الصعوبات والإخفاقات، بل التنكيل الشديد من طرف المستعمر، كتجربة الحاج عمر الفوتي وابنه أحمد شيخو وساموري توري والإمام ما با، وسِيديَ آلْ بوري انْدايْ، سَمِيِّ الشيخ سيديَ الكبير والحفيد المباشر لأحد تلاميذه، وكارانْ قُطْبُو دابي الغيني وغيرهم.

فرأى الشيخ سيديَ بابَه، من خلال ذلك كله، أن شروط الجهاد غير متوفرة لأهل هذه البلاد. فالإمام مفقود منذ عهد المرابطين؛ وبيتُ المال المحتاجُ إليه في كل شيء لا أثر له؛ والقُوى الداخلية مشتَّة ونظامها السياسي في غاية الهشاشة ووسائلها غاية في الضعف؛ وأهلُ العلم والدين عُزَّلٌ؛ وأهل الشوكة، خصوصا إماراتي الضفة، مرتبطون باتفاقيات متينة مع الفرنسيين؛ ولا توجد قوة مسلمة على وجه الأرض يمكن التعويل عليها في صَدِّ النصارى الغزاة وقمع اللصوص والبغاة، مع أن مجاهدة أهل الحرابة من المسلمين أوْلى عند جمهور العلماء من مجاهدة الكفار، هذا مع انتشار الاستعمار في البلاد الإسلامية والعربية والإفريقية قاطبة، ما عدا الحجاز والمغرب الأقصى، الذي كانت القوات الفرنسية قد بدأت تُحضِّر لدخوله من أوسع الأبواب...

ينضاف إلى ذلك كلِّه عدمُ تعرُّض الفرنسيين لدين المسلمين في البلاد التي سبقت سيطرتُهم عليها، وتعهُّدهم بفعل ذلك في هذه البلاد، بل إنهم تعهَّدوا بإعانة المسلمين على إقامة الدين وبناء المساجد وحماية العلماء والقضاة وبسط الأمن... إلى غير ذلك من المعطيات الواقعية التي انطلق منها الشيخُ سيديَ بابَه. لكنْ، ما هي الأسس الشرعية التي بنى عليها فتواه وموقفَه من نازلة الاستعمار الأوربي؟

سيكون ذلك، بحول الله، موضوع الحلقة الموالية من السلسلة. (يتواصل بحول الله).

 

 

الشيخ سيديَ بابَه وموقفُه من نازلة الاستعمار (الحلقة الرابعة)      (حقائق - تساؤلات - تحليلات - تصويبات - وثائق)

د/ أحمد بن هارون ابن الشيخ سيديَ         [email protected]

الحلقة الرابعة:

مدخل عامّ؛
رسالة للشيخ سيديَ بابَه حول الجوانب السياسية والذاتية للموضوع؛
الأسس الشرعية لموقف الشيخ سيديَ بابَه؛

أولا: مسألة نصب الإمام ومعالجة السيبة؛

1- هل كان سلاطين المغرب يشكلون حلا لأزْمَتَي الإمامة والسيبة؟

رسائل الشيخ سيديَ بابَه في ضرورة نصب السلطان ومعالجة السيبة.

مدخل عامّ:

لمَّا أراد الباحث المتمرِّسُ، الدكتور يحيى ولد البراء، تحليلَ رسائل وآراءِ الشيخ سيديَ بابَه الفقهية في محاضرة له بعنوان: "الشيخ سيديَ بابَه بنُ الشيخ سيدي محمد وفِقْهُه (رجعةٌ إلى مسألتَي الاجتهاد والإمامة)"، مهَّدَ لذلك بقوله:

«وهكذا فإنني لمَّا فكرتُ مَلِيًّا في عَرض صورة عن فِقْه هذا العالِم المجتهد، وجَدْتُني أمام فقهٍ جَمٍّ ونظرةٍ للأحكام متميزة، تحتاج إلى من يكون متسلِّحا جسورا منثورَ الكنانة ذا اطِّلاعٍ ودُرْبة؛ وهي أمور لا يدركها إلا قعيدٌ بالعلم وهيهات! فلقد كانت لهذا الرجل، كما كانت لآبائه من قبلُ، انشغالاتٌ وهموم كبيرة تبدو للناظر على أكثر من مستوى. فهو رجلُ سياسةٍ حاذقٌ بتسيير الأمور، بصيرٌ بتدبير الشأن العام، كاد أن يتفرَّد بالأمر والنهي في عموم الإفريقية الغربية؛ وهو مصلح اجتماعي حاول تثبيت الأمن واستتبابه، وسعى إلى توحيد مجموع القبائل المتناحرة في مفهوم أمة واحدة وتحت سلطان مركزي زاجر. وهو علَم من أفراد العلماء المَأْمُونِي الفهْم والنقْل، كاد بما كتَبَه من آثار أن يُمثِّل مرحلة متميزة من تاريخ الفقه في هذه المنطقة. ولا غرابة في ذلك ففضلا عن تكوينه العلمي المتميز، كانت له نوافذُ عدَّة على التراث الإسلامي لشتى المذاهب الفقهية ونشطَ في اقتناء كتبها، حتى لَيُذكَر أنه اجتمعت بين يديه ذاتَ ليلة مائةٌ وأربعةٌ من كتب المذهب الحنفي!»[44]. انتهى الاستشهاد.

وسيبدو، بالفعل، لمن غاص في مذهب الشيخ سيديَ بابَه الذي ذهب إليه في هذه النازلة، أنه لم يأتِ من فراغ ولم يصدُر عن هَوًى أو ارتجال أو شكّ... وإنما كان نابعا من تجربةٍ سياسية موروثٍة، واجتهادٍ دينيٍّ مؤصل، وجانبٍ عظيم من الورع والمسؤولية، وقراءةٍ للواقع، مسلَّحةٍ بحظٍّ وافر من الثقافة والاطِّلاع وسَبْرٍ لمكنونات كثير من المصادر والمراجع، التي لم تكن واسعةَ الانتشار حينَها، خصوصا في هذه البلاد.

وقد يتحتَّم التذكير هنا بأن الشيخ سيديَ بابَه، رغم موافقته على دخول القوات الفرنسية إلى بلاده، فإنه من المعلوم ضرورةً أنه ليس هو المسؤولَ عن دخولها، وأن قرارا من ذلك القبيل ليس بيده، كما أنه لا قِبَلَ له ولا لغيره بصدّها أو حتى تأخير دخولها أو تعجيله.

يُضاف إلى ذلك أن الشيخ سيديَ بابَه ناقش الأمرَ برَوِية، وبصفة مباشرة وغير مباشرة، مع قادة المجتمع وأصحاب الرأي والمشورة من أهله وجيرانه، كما ناقشه مع ممثلي البعثات الاستعمارية، محاولا الحصول منهم على أكبر قدر من الضمانات الدينية والأخلاقية والسياسية والتنموية.

وقد أبان للجميع عن تصوُّر سياسي ومستقبلي واضح للمسألة، وبسط لذلك حججَا شرعية كثيرة، لم يخرج في أيّ منها أو يشُذّ عن إجماع الأمة أو أقوال إمام متّبَع أو مذهب معتبَر، أو تأويل سائغ فى الشرع.

وسيلاحظ القارئ، ابتداءً من هذه الحلقة، زيادةً في المقاطع التحليلية والمقارنات المنهجية المقتضبة، وسيتم التركيز في هذه الأخيرة على تراث شخصين اثنين، يمثل كل منها اتجاهه:

أما الأول فهو الشيخُ سيديَ بابَه، موضوعُ هذه السلسلة، وأبرزُ شخصية مهادنة للاستعمار، في نظَر مؤرخي نوفمبر على الأقل!

والثاني هو الشيخُ ماء العينين وحضْرتُه، وقد تمَّ التركيز عليه لعدة أسباب، من أهمها أنه كان صاحبَ مشروع اجتماعي ورسالةٍ دينيةٍ وطموحٍ سياسي يرقَى إلى إقامة نوع من السلطة والنظام على أكبر رقعة ممكنةٍ من منطقته. والأهم من ذلك كله، أنه كان يمتلك من الأدواتِ والخلفياتِ العلمية والشخصية والأخلاقية ما يؤهله لذلك.

وربما يلاحظ القارئ من خلال رسالة الشيخ سيديَ بابَه حول الجوانب السياسية والذاتية للموضوع، وما يعقبها من كلام الشيخ ماء العينين وابنه الشيخ مربيه ربه، أن مواقف واجتهادات ومعلومات كل من الطرفين: المهادنِ والرافضِ، كانت تتباين أحيانا إلى حد تكفير هذا الطرف للآخر وتفسيقه، أو رفض نشاطه وتسفيهه... لكن تفادِي ذكر الأشخاص بأسمائهم وأعيانهم كان هو الأسلوبَ الغالبَ على الجميع.

رسالة الشيخ سيديَ بابَه حول الجوانب السياسية والذاتية للموضوع:

«بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على محمد وسائر الصالحين. أما بعد، فإنه لا يخفى ما كان في هذه البلاد السودانية والبيضانية أقاصيها وأدانيها منذ أزمنة طويلة، لا يُعلم أولُها، من أنواع الفساد والتقاتل وجَوْر الوُلاَة وحِرابة المتلصِّصِين والسَّرِقة ونحو ذاك من صعوبة المعاش، لعدم الأمن والسُّفن البحرية والبرية، ومِن فساد الدين بالكفر وأنواع الفِسق مما ذُكر وغيره. ولا يخفى ما حدث فيها بسبب دخول الدولة الفرنساوية من أضداد تلك الأمور واستحالتها إلى صلاح.

ولا يخفى أن منازعيها الآن لا يريدون إلا أن لا يزالوا جبَّارين في الأرض كما كانوا هم وآباؤهم. ولا يخفى أن من انضم إليهم من المنتسبين للعلم والصلاح أحدُ رجُلين: إما صاحبُ غرض فاسد، من حُبِّ مَحْمَدَةٍ أو جَلْبِ منفعة عاجلةٍ منْ عَرَضٍ أوْ وَجاهة أو محبَّةٍ لهم لقرابةٍ ونحوها، وإما مغفَّلٌ سمِع اسمَ الجهاد ولم يعلم أن له شروطا وأركانا مفقودة، وأنه الآن إنما هو فتنةٌ من الفِتَن، وأن الوسيلة إذا لم يترتب عليها مقصِدُها لم تُشرع؛ وأننا لو فرضنا أن هذه الدولة الفرنساوية خرجت من هذه البلاد طوعا أو كرها، لَمَا أمكن المُقامُ فيها بعدَها، ولَرَجَعَتْ إلى أعظم الفساد، وأن المتلصصين الذين معه وهو يُفتيهم بحِلِّ دماء المسلمين وأموالهم ويعينهم بيده وسَوادِه ومالِه، إنما ذلك مُرادُهُم، وأنهم ليسوا من الدين في شيء، وأن جهادهم هو الأوْلى، وأنهم إنما يفسدون في الأرض ولا يصلحون، وأن المنتسبين للدين لا قدرةَ لهم على إصلاح الأرض، مع أن الجميع لا قدرةَ له على مقاومة الدولة الفرنساوية إلا ريثما يَضيع ويُضيع غيره من المسلمين؛ وكلُّ هذا واضح للعارف بالأحوال. فالمنازعُ لهذه الدولة الآن ساعٍ في فساد الأرض والمعينُ له بمنزلته. والصوابُ شرعا ورأيا دوامُ نصيحة الدولة وإعانتِها على إصلاح الأرض وحسن طاعتها، إذ لا يخفى ما في خلاف ذلك من الفساد.

والحكمُ يدور مع المصلحة حيث دارت، وتطبيقُ الأحكام على وقائع الأحوال لابد منه، وليس كلُّ أحد يُحسنه. والله تعلى هو الفاعل حقيقةً وكلُّ شيء بقضائه وقدَرِه، لا رادَّ لقضائه ولا معقِّبَ لحكمه.  وهو العليم السميع البصير الحَكَمُ العدْلُ اللطيفُ الخبير القديرُ. ولا حول ولا قوة إلا بالله، والحمد لله رب العالمين. وكتبَ سيديَ بنُ محمد بنِ سيديَ 3 جمادى الأولى عامَ 1326»[45].

وسيعجَب المرءُ حين يقرأ رسائل عديدة وقرائن وشهادات موثقة، كانت بين يديْ الشيخ سيديَ بابَه، وكانت كفيلة بتأكيد كل كلمة مما ذكر في الرسالة أعلاه مِن تَورُّط أفرادٍ ومجموعات وقبائلَ في عمليات من النوع المسْتَبْشَعِ عند الشيخ وغيره من العلماء المهادنين، دون ذكر أو إشارة إلى أي من تلك الأحداث وأولئك المعنِيين. والحمد لله على عدم الحاجة إلى ذكر ذلك اليومَ أيضا!

غيرَ أن هناك حالتين لا بأس بذكرهما، لشهرتهما وكثرة انتشارهما في الشعر والوثائق والمؤلفات الحديثة، ولأن صاحبهما، أكثرَ من ذلك، كان متأوِّلا حسبما يبدو.

تتعلق الأولى بإغارة محمد المامون بن اعلي الشيخ بن محمد تقي الله على محمد بن عبد العزيز بن الشيخ محمد المامي وسوقه إبلَه[46]، فسار هذا الأخير على أثره مع وفد من قومه فلم يرد لهم شيئا منها. وفي ذلك يقول الشاعر محمد بن محمد خوي:

يالطماع أنتومَ ذ المالْ--محمد المامونْ الِّ كـالْ

ݤتوه أنتوم والفصال--ابْلاَ مَالْ أَراهْ اتليْـتُ

ولَّ لا تمشُ ما ينْݤَالْ--عنكم كون أرَاهْ اخليــتُ

هيَ باطْ أمَّتْ محمدْ--ما فيهَ حدْ أتْلَ رَيـْـتُ

نافعْهَ خاطِ محمد--لا جَيْتُ ولَّ ما جَيْــتُ

ولما جاء أحمد ولد الدَّيْدْ، بعد مكاتبته الفرنسيين وتكليفهم إياه بحماية مناطق آوكار، ونزل عند الشيخ محمد بن عبد العزيز بعد لحوقه بالمغيرين واستخلاصه لمنْهوباتهم جرَّاء "غَزِّي" تَكْبَه المعروف الخبر، قال ابن محمد خُويَ أيضا:

ول الديد أكلع شمن المال--أشرع ما كلع بالباطل

وعرفن عن ذ المال احــلال--فوت دهر اعليه إماطل

واعرف ول الديد أن اجمال--محمد ما يغدُ باطـل.

ومعروف أن الشيخ محمد عبد الله بن زيدان بن غالي بن المختار فال البوصادي كان أصدر فتوى بعنوان "تحريم نهب أموال المعاهدين للنصارى"، وقد حققها الدكتور حماه الله ولد السالم، ونشرتها دار الكتب العلمية البيروتية سنة 2013.

كما أورد المؤرخ الطالب اخيار بن الشيخ مامينا رسالة للشيخ أحمد الهيبة بن الشيخ ماء العينين ينهى فيها عن التعرض لأموال محمد بن عبد العزيز بن الشيخ محمد المامي وآل بوحبيني[47].

أما الحادثة الثانية فتتعلق بإغارة محمد المامون نفسه على حضرة أهل الشيخ سعد أبيه عند اجريف وسوْق إبلهم وحَلْي بناتهم، وقد تعقبه الأمير أحمد سالم ولد إبراهيم السالم ورد ما نهبه[48].

ولا شك فيما سبقت الإشارة إليه من أن محمدا المامون هذا، الذي هو أحد أبطال المقاومة المشهورين، كان متأولا لما قام به، وأن أميرَه وابنَ عمه، الشيخَ مربيه ربه بن الشيخ ماء العينين، الذي عيَّنه يوم 5 مايو 1925م قائدا للجهاد في بلاد شنقيطي، كان هو الاخر متأوِّلا لنشاطاته، بوصفه عالما سبَق أن أصدر فتاوى في هذا الصدد[49].

أما تكفيرُ الطرف الآخر وتفسيقُه، دون ذكر للأسماء، فهو مطرد في أدبيات القائلين بحرمة التعامل مع المستعمر والبقاء تحت مظلته، بدءا بسيدي المختار بن أحمد بن الهادي ومحمد الخضر بن ما يابى قبل هجرته، وانتهاءً بالشيخ ماءِ العينين وبعضٍ من أكابر أبنائه العلماء وتلاميذه... مثالُ ذلك قول الشيخ ماء العينين في إحدى رسائله: «واعلم أنه لا يتكلم في هؤلاء الكفرة ولا يتكلم عن المتكلم فيهم إلا مثل من قال تعلى: "ولا تجادل عن الذين يختانون أنفسهم إن الله لا يحب من كان خوانا أثيما" أي مفرطا في الخيانة مصرا عليها منهمكا فيها»[50].

وقول ابنه وخليفته الثاني الشيخ مربيه ربه في "لبانة المجاهدين": «والخوفُ على الأهل والمال لا يبيح ترك الهجرة. ومن رضي بالمقام مع الكافرين، فهو مارق من الدين ومنخرطٌ في سلك الملحدين. ومن هاجر معهم وحصل له ندم لضيق معاش أو عدم انتعاش، فلا رخصة له في الرجوع ولا عذر. ولا يُباح لأحد الدخولُ إلى بلادهم، حيث تجري عليه أحكامهم؛ وهذا أمر معلوم من الدين ضرورةً. ولله درُّ القائل:

ونهجُ سبيلي واضحٌ لمن اهتدى—ولكنها الأهواء عمَّتْ فأعْمَتِ»[51].

وعندما يقف قُرَّاءُ الحلقات القادمة من هذه السلسلة على نماذجَ مما يحويه أرشيف رئاسة الحكومة الإسبانية والمكتبة الوطنية بمدريد من مراسلات وتقارير دالَّة على عمق وحميمية العلاقة التي كانت تربط الأسرة الكريمة بالمملكة الإسبانية، من لدُن ألفونسو XIII إلى الجنرال فرانكو، مرورا بمختلِف الحكام ورؤساء البعثات الاستعمارية الإسبانية، سيظن هؤلاء القُرّاء أن الشيخين وغيرَهما من كبراء الأسرة قد غيَّروا وجهةَ نظرهم في هذه المسألة. والحق أن العلاقة سبَقت الرسائل والفتاوى المذكورة أعلاه وأعقبتها، ليبقى الباحث أمام احتمالين اثنين:

الاحتمال الأول، أن يكون المشايخُ قد قصدوا في فتاواهم الاقتصارَ على نصارى فرنسا، وغابت عنهم مكانةُ إسبانيا التاريخية بين الإمبراطوريات الاستعمارية، وعداوتُها للمسلمين من عهد ألفونسو VI وملوك الطوائف والمرابطين، إلى أن احتلوا الصحراء الغربية عامَ 1884م ولم يخرجوا منها إلا سنة 1975م. وهذا الاحتمال مستبعَدٌ إلى حدٍّ كبير، لأننا لا نتحدث عن مشايخ وعلماء عاديين، وإنما نتحدث أيضا عن قادة سياسيين محنكين، بلغوا بهِمَمِهم وسَعةِ آفاقهم مستوى التعاطي والتعاون مع أمم عربية وإسلامية وأوربية عديدة. بل إنَّ طموحهم وصل حدَّ الاستيلاء على العرش العلوي[52].

أما الاحتمال الثاني، وهو الأقرب إلى الظن، أن تكون السياسية والظروف والسعيُ وراء مصالح المسلمين وأهالي المنطقة هي التي دفعت هؤلاء الأجلاء المأموني الفهم والمسؤلية إلى مهادنة نصارى إسبانيا، كما هادن جُلُّ مشايخ ووجهاء موريتانيا الدولة الفرنسية. وسيأتي ذكر نماذج من ذلك كله في الحلقات المقبلة، إن شاء الله تعلى.

الأسس الشرعية لموقف الشيخ سيديَ بابَه:

يقول في بداية الفتوى المفصَّلة التي كتبها في الموضوع: «أردت في هذه الرسالة التنبيهَ على أمورٍ: منها ما جعل الله في السلطان من المصالح؛ ومنها أنه إذا لم يكن العدلُ إلا بالسلطان المخالف في الدين المتغلِّبِ بشوْكته فالدخولُ في طاعته أوْلَى؛ ومنها أنه لا تجب الهجرةُ عنه عند عدم التعرُّض للدين، كما هو  الواقع، ولا سيما مع عدم الإمكان وعدمِ وجودِ أرضٍ لائقة يُقام فيها الدين كما ينبغي، لا سبيلَ للدول المسيحية عليها، كما هو الواقع؛ ومنها أن إعانةَ بعضِ المخالفين في الدين على بعضهم، أوْ على المحاربين المفسدين في الأرض، لا بأس بها إذا طلبوا ذلك، ولا سيما عند الحاجة إليها»[53].

وسيتم التعرُّضُ لهذه الموضعات وغيرها انطلاقا من أربع رسائل للشيخ سيديَ بابَه، تُعتبر في مجموعها متكاملة ومغطيةً لمُجْمَل المباحث والأسئلة ذاتِ الصِّلة؛ وهي:

رسالته الموجهةُ إلى العلامة سيدي مُحَمَّد بن أحمَد ابن حبت الغلاَّوي؛

ورسالتُه إلى أهل أطارْ وغيرِهم من أهل آدرارْ؛

ورسالتُه إلى أهل السنغال وإفريقية الغربية؛

ورسالتُه في أخبار البلاد البيضانية الصحراوية المغربية (أخبار إمارتي إداوعيش ومشظوف)، بالإضافة إلى مقتطفات من فتواه الطويلة الخاصة بالموضوع، مع الاستعانة بغيرها وقتَ الحاجة.

وسيكون ذلك تحت العناوين الفرعية التالية: مسألةُ نصْب الإمام ومعالجة السيْبة؛ طاعةُ المتغلِّب الكافر الذي لا يتعرّض للدِين؛ موالاةُ الكافر وموادَّتُه؛ مسألة الحِرابة وأوْلوية علاجها في هذه البلاد؛ فصلٌ في أحكام الجهاد؛ فصلٌ في أحكام الهجرة؛ ثم الخاتمة.

أولا: مسألة نصب الإمام ومعالجة التسيُّب:

أورد الشيخ سيديَ بابَه في مقدمة فتواه المفصّلة الخاصة بنازلة الاستعمار مقطعا من "سِرَاج الملوك" لأبي بَكْرٍ الطُّرْطُوشيِّ يقول فيه: «ومثالُ السلطان القاهرِ لرعيته، والرعيةِ بلا سلطان، مثالُ بيتٍ فيه سراج منير وحوله فئامٌ من الخلق يعالجون صنائعهم، فبينما هم كذلك طَفِئ السراج فقبضوا أيديهم للوقت وتعطل جميعُ ما كانوا فيه، فتحرّك الحيوان الشرّيرُ وخشخشَ الهَامُ الخسيسُ، فدبَّتْ العقربُ من مَكْمَنِها وفسَقَت الفأرة من جحرها وخرجت الحيَّةُ من معدِنها وجاء اللّصُّ بحيلته وهاج البرغوثُ مع حقارته، فتعطَّلت المنافعُ واستطارَ فيهم المضَارّ.

 كذلك إذا كان قاهرا لرعيته كانت المنفعة به عامّة، وكانت الدماء في أهلها محقونة والحرُمُ في خُدورهنّ مَصونة والأسواق عامرة والأموال محروسة والحيوان الفاضل ظاهرا والمَرافقُ حاصلةً والحيوانُ الشِّرِّيرُ من أهل الفسوق والدّعارة خاملا. وإذا اختل أمر السلطان دخل الفساد على الجميع.

ولو جُعل ظلمُ الناس حوْلاً في كِفة كان هَرْجُ ساعة أعظم وأرجح من ظلم السلطان حولا؛ وكيف لا وفي زوال السلطان أو ضُعف شوكته سوق أهل الشر ومكسَبُ الأجناد ونَفاقُ أهل العيارة والسُّوقَةِ واللصوصِ والمناهبة. قال الفضيل: "جوْرُ ستين سنة خيرٌ من هَرْج سنة". ولا يتمنى زوالَ السلطان إلا جاهلٌ مغرور أو فاسقٌ يتمنى كلَّ محذور»[54].

لقد تبيَّن الشيخ سيديَ بابَه، على حدِّ قول الدكتور إزيدْ بيهْ، من خلال إعمال النظر في التجارب السياسية لأسلافه، أن محاولات عدة لنصب الإمام قد انتهت إلى الفشل، فلقد تبين أن البلاد منذ عهد المرابطين لم تخضع لسلطان مركزي يجبي الأموال المحتاج إليها في كل شيء ويبسط الأمن والعافية ويحفظ الأموال والأهلين ويعمر الأرض ويفجر العيون لينعم أهلها بالرخاء ويرفلوا في حلل النماء[55]. انتهى الاستشهاد.

هل كان سلاطين المغرب يشكلون حَلاَّ لأزمتيْ

الإمامة والسيبة القائمتيْن في البلاد؟

إن من متطلبات الجهاد التي اتفق الشيخ سيديَ بابَه والشيخُ ماء العينين وغيرُهما على رُكْنيَّتها، وجودُ إمام منَصَّب يبايعه أهل البلاد ويوحِّد كلمتَهم ويحْميهم من التهديد الخارجي والداخلي ويسوسهم بالشرع.

وبالفعل رأى الشيخ ماءُ العينين أن الشرط قد تحقق له بعد اتصاله المباشر بسلاطين المغرب الشرفاء الضاربين في العراقة، وانفتاحِ الباب له على مصراعَيْه لربط علاقة متينة معهم، بلغت حدَّ أخذ السلطانين: مولاي عبد العزيز وملاي عبد الحفيظ نفسيْهما وِردَ القادرية الفاضلية على يد الشيخ ماء العينين!

ومن نَظَرَ في كتاب المؤرخ الطالب اخيار بن الشيخ مامينا بن الشيخ ماء العينين، المسمَّى: "الشيخ ماء العينين (علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوربي)"، خصوصا الصفحة 197 وما تلاها، ورسائلَ السلطان مولاي عبد الحفيظ إلى الشيخ ماء العينين، في الملحقين الحادي عشر والثاني عشر، يدرك مدى عظمة الشيخ ماء العينين وعمقِ العلاقة الروحية والمكانة السامقة التي كان يحظى بها عند سلاطين المغرب[56].

وقد خصَّص المؤرخ الكبير العلامةُ محمد بنُ مولود بنِ داداه إحدى مرافعاته أمام محكمة العدل الدولية سنة 1975 لمسيرة الشيخ ماء العينين، من بيريبافه إلى تيزنيت، وذلك في إطار ردِّه على الوفد المغربي والبرهَنَة على أن الشيخ كان شنقيطيا طيلةَ الثلثين الأولين من حياته، رافضا أن يتم اختزالُه في الثلث الأخير، قائلا:

«خلالَ السنوات التي سبَقت دخولَ الفرنسيِين أرضَ موريتانيا (1890-1900) نرى الشيخ ماءَ العينين يرسم خطوطا أُولى للتقرُّب من المحيط الرسميّ المغربيّ. فقد رأينا أنه ما إن وصل تأثيرُه إلى القبائل التابعة للمغرب، خاصة قبيلةَ تكْنَه، حتى بدأ في عَقد اتصالات دائمة مع مريديه وتلامذته في هذا البلد، وزار السلطانَ مولاي عبد العزيز عدة مرات. ولم يأت من الفراغ ما لاحظه المراقبون الأجانب وقتَها من معاملة السلطان وحاشيته للشيخ معاملة الشخصيات الأجنبية السامية».

ويضيف محمد بن مولود: «على أية حال، كان الشيخ ماء العينين آنذاك الشيخَ الروحيَّ للسلطان، بالمفهوم الطرائقيِّ للكلمة! ولا داعي لتذكير المحكمة بتفاصيل هذه المرحلة، ففي العروض المغربية والكتابات المذكورة أعلاه ما يكفي من ذلك.

كانت تلك المرحلة تحضيريّة للقابل من الأيام والأحداث. فقد شرعت فرنسا، خلال الأسابيع الأخيرة من سنة 1902، في احتلال بلاد شنقيطي. وقد تبنَّى الشيخ موقفا معاديا لذلك وقرَّر مقاومةَ الفرنسيين، بناءً على قناعته الدينية. أما أخواه الشيخُ سيدي الخير والشيخُ سعد أبيه، الموجودان بأقصى الطرفيْن المتقابليْن من بلاد شنقيطي، فإنهما قد نظرا إلى هذه النازلة من زاوية أخرى مغايرةٍ تماما. فقد رأيا أن الشروط الأساسية لمقاومةٍ فعَّالةٍ غيرُ متوفّرة، وأن مهادنةَ الفرنسيين، بالتالي، تعتبر أكثر حكمة. وقد ذهب مَذهبَهما أكثرُ المشايخ والأمراء وشيوخِ القبائل.

أما من حاولوا القيام بنوع من المقاومة، فقد توجهوا إلى المناطق التي لم يتمّ بعدُ احتلالُها، فالتحق بعضُهم بالشيخ ماء المعينين عند السمارة. والكل وجّه نداءَه إلى المغرب، البلدِ المسلمِ المجاورِ الوحيدِ الذي كان وقتَها مَظِنةً لدعم المقاومة ضد الفرنسيين وأداءِ واجب نصرة المسلمين. وكان بعض هؤلاء، ممن ذكرنا في مداخلة سابقة، قد استنصروا بتركيا، بلدٍ آخرَ مسلمٍ ومستقلّ، يُتوخَّى فيه الحَلُّ والمقدرةُ على حماية الإسلام.

قد يجوز لنا، في هذا الوقت بالذات، أن نعتبر أن الشيخ ماءَ العينين أصبح مغربيا»[57]. انتهى الاستشهاد.

أما الشيخ سيدي بابَه، رغم علاقاته وعلاقات سَلَفِه الوثيقة بسلاطين المغرب، إلاَّ أنّ مسافاتٍ جغرافيةً أطول بكثير كانت تفصله معهم، كما كانت للشيخ نظرةٌ أخرى وتجربة مباشرةٌ في هذه المسألة بالذات، مفادُهما أن عظمة سلاطين المغرب وتاريخهم الطويل، لم يَحُل يوما دون وقوع الفوضى والاقتتال فيما وراء "بلاد المخزن"، المسمَّى "بلاد السَّيْبَة". وهذه التسمية معروفة لدى المغرب الرسمي وغير الرسمي، كما أنها مطَّردة في كتابات وتآليف الشناقطة، وفي مقدمتهم الشيخُ ماء العينين.

ومِنْ مظاهر انتشار السيبة فيما وراء "بلاد المخزن"، أن أقرب منطقة من بلاد البيضان إلى مركز القرار ونفوذ الشرفاء العلويين كان مسرحا لكثير من التقاتل والتناهب الدائمين، حتى إن الشيخ ماء العينين، الذي كان حرما آمنا، يهابه البغاة وتوقّره القبائل، لم يسلَم من النهب! بل نُهِبَتْ لِقَاحُه (شَوَائلُه) حسب عبارة المؤرخ عبد الودود بن أحمد مولود بن انتهاهْ الشمسدي[58].

والأهمُّ من هذا وذاك أن المغرب، البلدَ العربيَّ المستعصى تاريخيا على الجيش العثماني؛ والذي كان يشكل، مع الحجاز، الاستثناء العربي الوحيد من دخول الاستعمار، بدأ يفتح أبوابه للغزو الأوربي.

يقول محمد ولد مولود بن داداه: «فاحتلال موريتانيا من قِبَل فرنسا تزامن تماما مع دخول قوات هذه الأخيرة إلى المغرب، ليكتشف من هاجر هناك من الشناقطة أنهم وقعوا، دون علم، في مصيدة كبرى! فالمغرب الذي أصبح خاضعا للضغوط المعروفة، لم يعد مؤهلا لأداء واجب النصرة الذي وُجّه له. أوقف دعمَه للشيخ ماء العينين، بعد أن أُعطي الأوامرَ بإيقاف الأسلحة والتموينات التي كانت تأتيه على شكل سِلع مهرّبة...

أما الشناقطة المهاجرون، فقد رجع بعضهم إلى موريتانيا الفرنسية وبقي البعض في المغرب، بينما توجَّه آخرون إلى المشرق، حيث ما زال أحفاد بعضهم موجودين اليومَ هناك، كالسيد محمد الأمين الشنقيطيّ، وزير أردني سابق وسفير حالي للمملكة الهاشمية لدى العربية السعودية. وقد كان لأحد هؤلاء المهاجِرة الموريتانيين شأنٌ مع لورانس العرب شماليَّ الحجاز، حيث قتله هذا الأخير سنة 1917»[59]. انتهى الاستشهاد.

ولإدراك مستوى التناقض والتبايُن بين المعلومات والأخبار التي كانت ترِد على الشيخين: سيديَ بابَه وماءِ العينين بخصوص الأحداث والتطورات السياسية المتسارعة في المغرب، ما على المرء إلا أن يقرأ الرسالتين التاليتين:

أما الأولى فهي رسالة من الشيخ ماء العينين نفسِه إلى ابنه الشيخ حسَّنَّا، مؤرخةٌ بالسادس والعشرين من محرم عامَ 1426 هـ (سبتمبر 1908م)، يقول فيها: «وبشر نفسك وبشر المسلمين بأن النصارى، ولله الحمد، صاروا منسفلين وعن البلاد منحسرين، لأجل إقامة مولاي عبدالحفيظ للجهاد وتبريحِه به وتحريضِه للمسلمين عليه، فقد بلغنا أنه هزمهم مرارا وأنهم صاروا يطلبون منه الصلح بالمال وهو ممتنع إلا أن يكتبوا له بأيديهم أنه غلبهم ويرسلها له النصارى...!»[60].

أما الرسالة الثانية فهي مؤرخة بالخامس من رجب 1322 هـ (أكتوبر 1904م)، وقد وُجدت بين رسائل عديدة كانت تَرِدُ على الشيخ سيديَ بابَه من خارج البلاد، خصوصا المغرب، لم يذكر صاحبُها اسمَه، ربما اتكالا منه على تميُّز خطه، وقد بَدَا في غاية الاطلاع وحسن البيان وجمال الخط، جاء فيها ما نصُّه:

«وأما ما سألتم عنه من أمر الغرب (المغرب)، فإني تركته، أي أهلَه، على ثلاثة أقسام: فالفلاحون، وهم أهل الحراثة، في غاية الضيعة لما يؤخذ منهم من الأمكاس والضرائب. وأما أهل المدن الكبار فإنهم مستريحون. وأهل الجبال لا يستقر رأيُهم، فتراهم مرَّةً ثائرين على السلطان، ومرَّةً يفتِكُ بهم السلطان فيقطع رؤوسهم ويعلقها في الأسواق ليزدجر بهم الناس. وما سألت عنه من أمر الثائر على السلطان مولاي عبد العزيز، فإنه استبد بقريب من ثلث مُلكه، وقد ملَك من بلاده المشهورة: وجدة وتازة والريف. أما عبد العزيز فإنه خرج بنفسه في محالّه فلم يحصل على طائل، بل اشتد الأمر على جنوده فأكلوا البغال لما لاقوه من الجوع، ثم رجع إلى فاس.

ووقعت مسألة أبدت ضعف السلطان، وهي أن رجلا من أهل الجبال اسمه الرسوليُّ هجَم ليلةً على طنجة فأتى بيتَ نصرانيٍّ من جنسٍ منهم يقال له أَمرِيكْ (أمريكا) فأخذه، فلما وصل الأمر إلى عبد العزيز كرَبَه هذا الحديث فعلِم أنه إن قتله يشتدُّ عليه الأمر، لعِلمه بما سيلقاه من جماعة الأمير، فأرسل إلى الرسوليِّ لخَلاصِه فامتنع أن يردُّه إلا بشروط منها: أن يخرج من حبسه كلُّ مَن كان فيه من قبيلته، وأن يعطيَه عشرةَ آلاف ريالٍ، أيْ أوقية، وأن يجعلَه قائدا، فَفَعَل.

وأما أمرُ النصارى مع الغرب، فإن الفرانس  (الفرنسيين) اتفقوا مع انكليز (الإنجليز) على أن انكليز يستقلِّون بمصرَ، فلا يعارضُهم الفرنسيون إلا ما كان من أمر الشَّرْع (قناة السويس)، وهو نهرٌ حفَرَه الفرنسيون تمُرُّ فيه البَوَابِيرُ (البواخر) وله أموال كثيرة تؤخذ من الحجاج. ثم إن انكليز رفعوا أيديهم عن الغرب، أي الطمع فيه، إلا ما كان من أمر جبل الطارق، وهو جبل بينه وبين طنجة قريبٌ من ساعتين، وهو تحت سلطة انجليز، وقد حصَّنوه بحصون عجيبة.

والفرنسيون بدءوا يقرضون عبد العزيز الأموالَ الكثيرة بِرِبَا النسيئة ليملكوا بلادَه. وقد بلغني قريبا أن أهلَ سُوسْ وأهلَ الحَوْز قاموا عليه الآن ولم أتحقق هذا...

وقبل أن ينتقل صاحب الرسالة إلى أخبار البلاد الأخرى التي يمُرُّ بها أو يسْكُنها، بدأ يردُّ بالتفصيل على سؤال سابق للشيخ سيديَ بابَه عن أمر السُّكنى بالمغرب، معبِّرا له عن جمال الأرض وخصبها وغلاء الأسعار هناك، وأن أغنى الأغنياء عندنا يعدُّ هناك فقيرا معدما...»[61].

وهنا يتضح، دون أي جهد إنشائيٍّ أو نفَسٍ دفاعيٍّ، أن الشيخ سيديَ بابَه، ومن شدة تأثُّره بحالة البغي والظلم السائدة في بلاده آنذاك، كان يفكر بشكل جدِّيٍّ في الرحيل إلى بلد آخر كالمغرب وغيره. وقد قال في إحدى رسائله: «ولولا وخامة تلك الأرض على البيضان لارتَحلْنا إليها منذ سنين ورأيناه أصلحَ لسائر المسلمين»، يعني الأرضَ الإفريقية، التي دبَّ فيها شيءٌ من الأمن والنظام وتيسَّر فيها الحجُّ وسائرُ العبادات بعد دخول الاستعمار إليها، على حدِّ قوْله.

وسَيسْتسِيغُ الباحثُ، من خلال الرسالة المذكورة أعلاه، أن جوابَ الشيخ سيديَ بابَه المشهورَ لمبعوث السلطان المغربي لم يأتِ من فراغ.

فقد كتب الشريفُ مولاي إدريس، ابنُ عمِّ السلطان المغربي ومبعوثُه إلى الشناقطة، رسالةً إلى الشيخ سيديَ بابَه يستحثه فيها على مبايعة السلطان واللحاق بمشروع المواجهة مع الفرنسيين الذي بدأ يتحرّك شمالَ البلاد، مؤكدا له أن السلطان سيحميه ويحمي البلادَ من الأخطار الداخلية والخارجية... فأجابه الشيخ سيديَ بابَه، قائلا: «ومن يحمي السلطان؟»، اطِّلاعا منه على طَرَفٍ ممَّا يجري في المملكة العلوية والبلاد الأخرى المحيطة وعلى موازين القُوى في المنطقة. فما دامت الحواضر العربيةُ والإسلامية الأخرى قد تم غزوُها، كالجزائر وتونس ومصر واليمن والشام والعراق، فإن وصول الغزاة إلى المغرب لن يكون إلا مسألةِ وقت. وهذا ما تم بالفعل، وأُعلن عنه رسميا سنة 1912م.

يقول الشيخ سيديَ بابَه، تعليقا على رسالة مولايْ إدريس المذكورة: «وأما السلطان فلم يَحْمِها هو ولا أَحَدٌ من أسلافه طرْفةَ عيْن من الظلم القائم فيها منذ خُلقتْ؛ ولا دليلَ أقوى من المشاهدة. وهذه الغاراتُ والحروبُ متصلة الآن ليلا نهارا، فأين السلطان؟ وأين؟ واتواتْ وتينْبُكْتُو أقربُ إليهم وأكثرُ ذِكْرا لهم؛ وكذلك سبتة من بلاد المغرب الأقصى والأندلس. كما أن مِصْرَ وتونسَ أقربُ إلى السلطان العثماني وأكثرُ ذِكْرً ا له وأقلُّ سَيْبَة»[62].

أما تجربة الشيخ سيديَ بابَه المباشرة الخاصةُ بهذه المسألة، فهي أن جدَّه الشيخ سيديَ الكبير سبَق أن عوَّل على هذه النقطة بالذات دون جَدْوَى. فقد كتب إلى السلطان سيدي محمد بن عبدالرحمن مستنجدا[63]؛ وذلك في إطار مشروعه المتكلَّم عليه سابقا والمعروف لدى الدارسين المحليين والأجانب، والرامي إلى خلق مؤسسة جهادية وسلطة سياسية وأخلاقية تجمع إمارات البلاد في ما يشبه "كونفدرالية" إسلامية، "تفكُّ الأسرَ أو تَحْـــمي الذِّمَار"! فاعتذر له السلطان ووعده بإرسال ذلك المدد عند أول فرصة.

ومن طرائف التاريخ أن الشيخ سيديَ الكبير كتب للسلطان المغربي يطلب التزويد بالمدافع، يقصد بذلك البنادق، فحسب السلطان أنه يريد المدافع الثقيلة، لأن أهل السلاح كانوا يميزون آنذاك بين المدافع والبنادق، فأجابه السلطان بأن المدافع لا يتوفر لديه الكثير منها في ذلك الوقت. ويُقال: لو أن الشيخ سيديَ طلب من السلطان بنادق بدلَ المدافع لأمده بالكثير منها، نظرا لعلاقة روحية ولقاء مباشر سبق أن جمعه بالسلطان سيدي محمد الرابع وأبيه المولى عبدالرحمن[64].

والشاهد في هذا كله، أن وصول المدد المغربي إلى روابي أبي تلميت في تلك الظروف كان أمرا صعبا لطول المسافة بين فاس وأبي تلميت وما يحول بينهما من عراقيل جيوسياسية معروفة. يُضاف إلى ذلك أن الغاراتِ الكثيرةَ لم تزَل تأتي من ذلك الاتجاه، قبل الاستعمار وبعده، دون أن يكون لشرفاء المغرب أو أي سلطة أخرى في الدنيا تدخُّلٌ فيها أو قدرةٌ على منعها. فمَن بعد سلاطين المغرب يمكن التعويل عليه آنذاك في هذه المهمة؟

رسائل الشيخ سيديَ بابَه في ضرورة نصب السلطان ومعالجة السيبة:

يقول الدكتور يحيى ولد البراء: «لقد عالج الشيخ سيدي بابَه مسألة التسيب وكيف لازمت هذا المجتمع منذ أحقاب حتى قدوم الفرنسيين أيام المد الاستعماري، وبَدْئِهم إدارةَ البلد والإشرافَ عليه. وأشار إلى أن ما قد يحصل من محاولات سلطوية في بعض أجزاء البلد كالإمارات والمشيخات، لم ينْفِ أبدا سِمَةَ السيبة والفوضى عن عمومه. فهذه الإفريقية الغربية، حسب تعبيره، لم تزل منذ قرون كثيرة بلادا سائبة يتقاتل أهلها ويتظالمون ويفقدون مصالح عظيمة ومرافق كثيرة إلى أن غلبت عليها الدولة الفرنساوية فحقنت الدماءَ وحفظت الأموالَ وأصلحت الأحوال. ويشير إلى أن بعض من ضُرب على يده عن ظلم كان يعتاده أو كُلف بشيء من مصالح الأرض التي لم يكن يعرفها ربما تسخَّط من هذا الواقع وغفل عن مصالح هي أعظم في دخول هذه الدولة ونسي مفاسد هي أدهى وأمرُّ كانت حاصلة قبلها»[65]. انتهى الاستشهاد.

وجاء في رسالة الشيخ سيدي بابَه الموجّهَة إلى أهل أطارْ وغيرهم من أهالي آدرارْ: «فإن هذه البلاد الصحراوية منذ قرون في سَيْبة ما كان يُرجَى زواُلها قبل هذا الأمر. ولا يَخفَى ذلكُم. كما لا يخفى أن ما يُتخيَّل في بعض الأوقات من زوال سيبتها غير حقيقي، إذ لا يرتفع به التقاتل والتناهُب والتظالم، وإن كان في بعضها أكثر منه بالنسبة إلى بعضها.  ولا يخفى ما في السيبة من مفاسد، والعيان فيه مُغْنٍ عن البَيان، إلى ما في كلام العلماء والحكماء، مثل قول مالك والثوري: "سلطانٌ جائرٌ ستِّين سنةً خيرٌ من أُمَّةٍ سائبةٍ ساعةً مِن نهار". وأمثاله في سراج الملوك والرهوني وكنون، أولَ بابِ الباغية، منه كفاية»[66].

ويقول في رسالته الموجهة إلى العلامة سيدي محمد بن أحمد بن حبَتْ: «ولا يخفى أن المسلمين في هذا القطر البيضاني الآن أسوأ حالا وأضيع أنفسا ومالا بسبب ذلك من السودان الذين في مِلْكَة هذا الجنس منذ حين. بل لا نسبة بينهم وبينهم. فهؤلاء في عذاب أليم وأولئك في نعيم. مع اتفاقهم على أن دينهم، منذ مَلَكَهُم، لم يزل في زيادة صلاح. فقد كان جلُّهم كفرةً فصار جلُّهم مسلمين. وكانوا يتقاتلون دائما ويتناهبون وينهبون مَن دخَل أراضيَهم من تجَّار المسلمين. فصارت الحالُ بخلاف ذلك كله. وصارت أرضُهم الآن جنةً من جنان الدنيا أمنا وعافية ومعاشا، وتيسَّر الحجُّ وسائرُ العبادات، والأسبابُ فيها غاية. فليس شيءٌ أرفقَ ببيضان هذا القطر ولا أصلحَ لهم من أن يصيروا مثلهم. ولولا وخامةُ تلك الأرض على البيضان لارتحْلنا إليها منذ سنين ورأيناه أصلحَ لسائر المسلمين»[67].

ومصداقا لما جلبه من زيادة نسبة المسلمين في البقاع الإفريقية الغربية بعد دخول المستعمر لها، كان الأستاذ الأمريكي شارل استوارت، المتقاعدُ من كرسي الدراسات الإسلامية بجامعة إيل انوي، كثيرا ما يستغرب تلك المفارقة، مؤكدا أن نسبة المسلمين في تلك الربوع لم تكن آنذاك تتجاوز خمسةً في المائة، فانتشر الإسلام فيها كانتشار النار في الهشيم، رغم كل الجهود التنصيرية التي بذلتها الكنيسة والإدارة والأمن.

ويضيف الشيخ سيديَ بابَه قائلا في هذا المضمار: «وقد علمنا حال المغرب الأوسط المعروف بأرض الجزائر وقد ملكه الفرنسيس منذ نحو سبعين عاما، وحالَ تونس وقد ملكوها منذ نحو ثلاثين سنة، وحالَ اتْوَاتْ وسائرِ التَّكْرُورْ. وقد علمنا حالَ مِصْرَ والهندِ وجَاوَه وهَوْصَة بعد مُلك الإنجليز لهم، فلم يزل الدين قائما في هذه الأصقاع وأهلُه في عافية. وإن قُدِّرَ بعضُ المفاسد، فمفسدةُ السيْبة أو الحرب مع العجز عنها أعظم. ومِنَ القواعد المجمع عليها: وجوبُ ارتكاب أخف الضررين وتركُ أعظم المفسدتين»[68]...(يتواصل بحول الله تعلى)

 

الشيخ سيديَ بابَه وموقفُه من نازلة الاستعمار (الحلقة الخامسة)      (حقائق - تساؤلات - تحليلات - تصويبات - وثائق)

د/ أحمد بن هارون ابن الشيخ سيديَ         [email protected]

الحلقة الخامسة: الأسس الشرعية لموقف الشيخ سيديَ بابَه (تابع).

طاعة المتغلِّب الكافر الذي لا يتعرّض للدِين؛
مسألة الموالاة والمُوادَّة؛
فصلٌ في أحكام الجهاد؛
فصلٌ في أحكام الهجرة؛
مسألة الحرابة وأولوية علاجها في هذه البلاد؛

طاعة الكافر المتغلب الذي لا يتعرّض للمسلمين في دِينهم:

مقدمة:

يقول الإمام العلامة المفسر الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجكنىُّ  الشنقيطيُّ، في جوابه للسائل عن حكم تولية الكفار المحتلين بلاد المسلمين بعض المسلمين على بعض: «وأما إن كان المسلمون الذين تغلَّب عليهم الكفار لا صريخ لهم من المسلمين يستنقذهم بضمهم إليه, فموالاتُهم للكفار بالظاهر دون الباطن لدفع ضررههم جائزة، لنص القرآن العظيم، وهو قوله تعلى "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة"؛ وكذلك توليتهم بعض المسلمين على بعض في الجاري على أصل مذهب مالك ومَن وافقه من أن شرع من قبلنا شرع لنا إن ثبت بشرعنا إلا لدليل يقتضي النسخ. وإيضاح ذلك أن نبي الله يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم وعلى نبينا الصلاة والسلام طلب التولية من ملك مصر وانعقدت له منه وهو كافر كما قال تعلى حكاية عنه "اجعلني على خزائن الارض إني حفيظ عليم"، فلو كانت التولية من يد الكافر المتغلب حراما غير منعقدة لما طلبها هذا النبي الكريم بن الكريم بن الكريم بن الكريم من يد الكافر ولما انعقدت له منه, ويوسف من الرسل الذين ذكرهم الله في سورة الأنعام بقوله: "ومن ذريته داود وسليمان وأيوب ويوسف" الايةَ, وقد أمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم حيث قال له بعد ذكرهم، عليه وعليهم صلاته وسلامه، أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده"، وأمر نبينا صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم أمر لنا لأن الخطاب الخاص بالنبي صلى الله عليه وسلم يتناول الأمة من جهة الحكم، لأنه قدوتهم إلا ما ثبتت فيه الخاصية بالدليل على ما ذهب إليه أكثر المالكية وهو ظاهر قول الإمام مالك»[69] .انتهى كلام الشنقيطي.

وبما أن الموضوع هنا علميٌّ شرعي لا يُلتفت فيه إلا لآراء وترجيحات العلماء المجتهدين، وطويلٌ للغاية، فقد يكون الأنسب فيه هو الاقتصارَ على الأدلة التي قدمها الشيخ سيديَ بابَه، دون أي تعليق عليها أو تعرُّض للأقوال الأخرى المطابقة لها أو المنافية.

وغنيٌّ عن الذكر في هذا الصدد، أن ما جاء في فتاوى ورسائل الشيخ سعد أبيه بن الشيخ محمد فاضل من أدلة متينة كانت كلها تصبُّ في نفس الاتجاه. وقد دارت بين الشيخين: سيديَ بابَه وسعد أبيه مراسلاتٌ وتقاريظ معروفة. والشيخ سعد أبيه هو مَن هو عِلما وفضلا وشهرة ونشرا للتعاليم الإسلامية والأخلاق الراقية جنوبَ الضفة وشمالَها. كما أن فى تلاميذه وتلاميذ تلاميذه من العلماء والفضلاء ما لا يعلمه إلا الله.

ومن التآليف العظيمة والصريحة في هذا الاتجاه أيضا، رسالة طويلة نسبيا للشيخ النعمة بن الشيخ التراد بن الشيخ الحضرمي بن الشيخ محمد فاضل، سماها: "النصيحة لأهل الحوضْ في التحذير من مساعدة من اشتغل في الهرج والفساد والخوضْ وتركِ سياسة دنياهُ وما يليق بالعروضْ" [70]. ويبدو، للأسف، أن كثيرا من الباحثين لا يعلم بوجودها.

آراء الشيخ سيديَ بابَه في طاعة الكافر المتغلب:

جاء في رسالته الموجَّهة إلى العلامة سيدي محمد بن أحمد بن حبَتْ ما نصُّه:

«وقد عُلم ما نَصُّوا عليه من احتمال بعض الضيم للمصلحة أخذا من قضية صلح الحديبية، إذ صالحهم صلى الله عليه وسلم على رد من جاء مسلما وهم يعذبونه ليردوه إلى الكفر نظرا منه صلى الله عليه وسلم إلى مصلحة أعظم. وانظر إلى إرسال إبراهيم عليه الصلاة والسلام بسَارَة إلى الجبَّار. وكلا الأمريْن في صحيح البخاري وقد تكلم عليه الحافظ في فتح الباري؛ ونصوص الفقهاء طافحةٌ بهذا المعنى في عَقد الجزية ونحوه.

وأما أمر الاصبنيول (الإسبان) في الأندلس فحالُ النصارى إذْ ذاك خلاف حالهم الآن، فقد تقرر في قوانينهم المتفقِ عليها بينهم منذ حين عدمُ التعَرُّض لأحد من أهل الأديان، كائنا من كان، وأن من تعرّض لصاحب دين من المسلمين أو غيرهم يُعاقب عقوبة شديدة. وقد شاهدنا مصداق ذلك؛ وقد رأينا من أسلم من الفرنسيين وغيرهم في انْدَرْ وانْدَكَار لا يعرضون له بقليل ولا كثير، بل يكادون تكون النصرانية وسائر الملل عند جمهورهم الآن سواء. بل عوْنُهُم على إظهار شعائر الإسلام ببناء المساجد وإقامة الأئمة فيها والمؤذنين والقضاة والمدرسين وإجراءُ أرزاقهم من بيت مالهم كلَّ حين أمر مشهور. وغير مستحيل على الله تعلى وقدرته أن يؤيد دينه بالمخالفين أو يقودهم إلى الدخول فيه، كما فعل بالديلم والسلجوقيين وبني عثمان. والله على كل شيء قدير»[71].

ويقول في رسالته الموجهة إلى أهل السنغال وغيرهم من أهل إفريقية الغربية:

«أما بعد، فإني أوصيكم بتقوى الله العظيم واتباع سنة نبيه محمد عليه وعلى آله الصلاة والتسليم، وبطاعة هذه الدولة الفرنساوية ونصيحتها، فقد أصلح الله تعلى بها البلاد ورحم العباد وحسم الفساد بعدما تطاول قرونا وافْتَنَّ فُنونا. واعلموا أن هذه أمور يغلط فيها كثير من الناس ويعتريه فيها التباس ووسواس. منها أن طاعة الأمراء خاص بالمسلمين منهم، وذلك إنما هو في حالة عدم التغلُّب. وأما عند التغلُّب فتجب طاعة مَن تغلَّب كائنا مَن كان، كما في البناني أولَ بابِ الباغية، وشرحِ سعد الدين لمقاصده في الكلام على شروط الإمام وغيرهما. وانظروا إلى قوله تعلى: "إلا أن تتقوا منهم تقاة" وإلى قوله تعلى: "إلا من أُكره وقلبه مطمئن بالإيمان"، وإلى ما في صحيح البخاري أيضا من إرسال خليل الله عليه الصلاة والسلام بأهله إلى الملك فعصمها الله تعلى منه. والمدار على المصلحة فما كان أصلح فهو المطلوب شرعا»[72].

ويقول الشيخ سيديَ بابَه أيضا في فتواه المفصَّلَة حول مهادنة المستعمر: «وأما الأمر الثاني، فقد قال يوسف عليه الصلاة والسلام: "اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الأَرْضِ إني حٌفِيظٌ عليمٌ"، قال البيضاويُّ: "وفيه دليلٌ على جواز طلب التوْلية وإظهارِ أنه مستعدٌّ لها والتولِّي من يد الكافر إذا عُلم أنه لا سبيل إلى إقامة الحق وسياسةِ الخلق إلا بالاستظهار به. انتهى. وقال النسَفِيُّ: "قالوا: وفيه دليل على أنه يجوز أن يتولى الإنسانُ عَمالةً من يد سلطان جائر، وقد كان السلف يتولون القضاء من جهة الظلَمة. وإذا عَلِمَ النبيُّ أو العالِمُ أنه لا سبيل إلى الحكم بأمر الله ودفْع الظلم إلا بتمكين الملِك الكافرِ أو الفاسقِ، فله أن يستظهر به. انتهى. قال الجوهريُّ: "استظهر به، أي استعان به". انتهى. وفي فتح الباري، في باب رَزْق الحاكم والعاملين عليها، من كتاب الأحكام، أن العَمالة، بفتح العين، هي نفس العمل؛ وبضمها، أجرةُ العمل، والميمُ مخفّفة. انتهى. ويشهد لما قاله البيضاوي والنسفيُّ من جواز الاستظهار بالكافر عند الحاجة إليه، ما ذكروه في جواز  الاستعانة بالكافر عند الحاجة إليه، كما في كتاب الأم للشافعي، وشرحِ النوويِّ على صحيح مسلم، والمنهاجِ وشروحِه، والإقناع وشرحه، وشرح الموّاق على مختصر خليل، وفي شرح المقاصد. وأما إذا لم يوجد من قريش من يصلح لذلك، أو لم يقتدر على نصبه لاستيلاء أهل الباطل وشوكة الظَّلَمَة وأرْبابِ الضلالة، فلا كلامَ في جواز تقلُّد القضاء وتنفيذِ الأحكام وإقامة الحدود وجميع ما يتعلق بالإمام من كل ذي شوكة. كما إذا كان الإمام القرشي فاسقا أو جائرا أو جاهلا، فضلا عن أن يكون مجتهدا. وبالجملة، مبْنَى ما ذُكِر في باب الإمامة على الاختيار والاقتدار. وأما عند العجز والاضطرار واستيلاء الظَّلَمَة والكُفَّار والفُجّار وتسلُّط الجباربرة الأشرار، فقد صارت الرياسةُ الدنيويَّةُ تَغَلُّبيَّةً وبُنيت عليها الأحكامُ الدينيةُ المَنوطةُ بالأحكام ضرورةً، ولم يُعْبَأْ بعدم العلم والعدالة وسائر الشرائط. انتهى المرادُ منه.

وفي الأبيِّ على مسلم، في الكلام على حديث عبادةَ بنِ الصامت رضي الله تعلى عنه: "دَعَانَا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَبَايَعْنَاهُ، فَكَانَ فِيمَا أَخَذَ عَلَيْنَا: أَنْ بَايَعَنَا عَلَى السَّمْعِ وَالطَّاعَةِ فِي مَنْشَطِنَا وَمَكْرَهِنَا وَعُسْرِنَا وَيُسْرِنَا وَأَثَرَةٍ عَلَيْنَا وَأَنْ لَا نُنَازِعَ الْأَمْرَ أَهْلَهُ"، قَالَ: "إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا عِنْدَكُمْ مِنَ اللهِ فِيهِ بُرْهَانٌ".

قوله: "إِلَّا أَنْ تَرَوْا كُفْرًا بَوَاحًا"(عياض) هو في رواية الأشياخ: "بَوَاحًا"بالواو. وعند ابن أبي جعفر: "بَرَاحًا" بالراء. وهما بمعنى باح الشيءُ وبَرَحَ إذا ظهر واشتهر. فالمعنى إلا أن يكون كفرا ظاهرا مشتهرا.

وقال ثابت: رواه النَّسائيُّ بَوَاحًا بالواو، ورواه غيره براحا بالراء، هما معا بفتح الباء. عياض: لا خلاف أنه يجب على المسلمين عزل الإمام إذا فسق بكفر وكذلك إذا ترك إقامة الصلاة والدعاءَ إليها أو غيَّر شيئا من أصول الشرع. وكذلك عند الجمهور المبتدعُ.

وقال بعض البصريين: " تنعقد للمبتدع ابتداء وتُستدام، لأنه متأول. وقد يُحتجُّ في المبتدع بالحديث لأنه ظاهر فيما لا تأويل فيه.

وإذا خلعه الناس نصبوا إماما عدلا أو واليا إن أمكنهم ذلك. وإن لم يتفق ذلك إلا مع طائفة وحرب، وجَبَ القيام بذلك على الكافر ولا يجب على المبتدع؛ وهذا إذا تخيلوا القدرة عليه، وإن تحققوا العجز عنه لم يجب القيام عليه. ويجب على المسلم الهجرة من أرضه إلى غيرها. انتهى كلام الأبي. والمقصود منه في هذا المقام: "وإن تحققوا العجز عنه لم يجب القيام عليه". وأما الهجرة فسيأتي الكلام عليها. وقد تقدم كلام البيضاوي والنسفي.

وفي شرح ميارة للامية الزقَّاق: (تنبيه) وإنما يجب قيامهم على الكافر منهم والفاسق على أحد القولين، إذا تَخيَّل المسلمون أن القوة لهم، وإن تحققوا العجز لم يجب القيام على الأول، ويحرُم على الثاني. ويجب على المسلم الهجرة من أرضه إلى غيرها. انتهى المرادُ منه هنا. وانظر بقيته، إن شئت، ونحوه في ابن زكري على النصيحة الكافية.

وفي البناني: "واعلم أن الإمامة تثبُت بأحد أمور ثلاثة: إما بيعة أهل الحل والعَقد. وإما بعهد الإمام الذي قبْله له. وإما بتغلُّبه على الناس؛ وحينئذ فلا يُشترط، لأن من اشتدت وطأتُه وجبت طاعتُه.

وأهل الحل والعقد من اجتمع فيه ثلاث صفات: العدالةُ والعلمُ بشروط الإمامة والرأي.

وشروطُ الإمامة ثلاثة: كونُه مستجمعا لشروط القضاء. وكونُه قرشيا. وكونُه ذا نجدة وكفاية في المعضِلات ونزولِ الدواهي والمُلمَّات. انظر ق[73]. انتهى. ونحوه في التداوي على لامية الزقَّاق»[74].

مسألة الموالاة والمُوادَّة:

يقول الشيخ سيديَ بابَه في فتواه المذكورة آنفا: «في تفسير الطبري، في تأويل قوله تعلى: "ومن يتولَّهم منكم فإنه منهم": "القول في تأويل قوله عز ذكره: "وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ". قال أبو جعفر: يعني تعالى ذكره بقوله:"ومن يتولهم منكم فإنه منهم"، ومن يتولَّ اليهود والنصارى دون المؤمنين، فإنه منهم. يقول: فإن من تولاهم ونصرَهم على المؤمنين، فهو من أهل دينهم وملتهم، فإنه لا يتولى متولٍّ أحدًا إلا وهو به وبدينه وما هو عليه راضٍ. وإذا رضيه ورضي دينَه، فقد عادى ما خالفه وسَخِطه، وصار حكُمه حُكمَه". انتهى المرادُ منه. وفي كلامه أيضا في تفسير قوله تعلى: "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين" نحوٌ من هذا.

وفي البخاري عن أسماء بنت أبي بكر، رضي الله عنهما، قالت: "أَتَتْنِي أُمِّي رَاغِبَةً فِي عَهْدِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَسَأَلْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَأَصِلُهَا؟ قَالَ: "نَعَمْ". قَالَ ابْنُ عُيَيْنَةَ: "فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَلَى فِيهَا: "لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ".

قال القسطلاني: "وهي رخصة من الله تعلى في صلة الذين لم يعادوا المؤمنين ولم يقاتلوهم، وقيل إن هذا كان في أوّل الإسلام عند الموادعة وترك الأمر بالقتال، ثم نسخ بآية "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم". وقيل: المراد بذلك النساء والصبيان لأنهم ممن لا يقاتل فأذن الله في برّهم، وقال أكثر أهل التأويل: هي محكمة، واحتجوا بحديث أسماء، بل قيل إنها نزلت كما ذكر هنا عن سفيان، وفي مسند أبي داود الطيالسي عن عامر بن عبد الله بن الزبير عن أبيه أن أبا بكر الصديق طلّق امرأته قتيلة في الجاهلية وهي أم أسماء بنت أبي بكر فقدمت عليهم في المدة التي كانت فيها المهادنة بين رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وبين كفار قريش فأهدت إلى أسماء بنت أبي بكر قرطًا وأشياء، فكرهت أن تقبل منها حتى أتت النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذكرت ذلك له، فأنزل الله تعلى: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم..." الآية. انتهى.

وفي البيضاوي: "لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ"، أي لا ينهاكم عن مَبرَّة هؤلاء، لأن قوله: "أَنْ تَبَرُّوهُمْ" بدلٌ من الَّذِينَ. وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ وتفضوا إليهم بالقسط أي العدل. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ: العادلين. روي أن قتيلة بنت عبد العزى قدمت مشركة على بنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا، فلم تقبلها ولم تأذن لها بالدخول فنزلت "إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ": كمشركي مكة، فإن بعضهم سعوا في إخراج المؤمنين وبعضَهم أعانوا المخرجين. "أَنْ تَوَلَّوْهُمْ": بدلٌ من الَّذِينَ بدل الاشتمال. "وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ": لوضعهم الولاية في غير موضعها. انتهى.

وفي النسَفِيِّ: "لاَّ ينهاكم الله عَنِ الذين لَمْ يقاتلوكم فِى الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مّن دياركم أَن تَبَرُّوهُمْ": تكرموهم وتحسنوا إليهم قولاً وفعلاً. ومحل أن تبروهم جر على البدل من الذين لَمْ يقاتلوكم، وهو بدل اشتمال، والتقدير عن بر الذين "وَتُقْسِطُواْ إِلَيْهِمْ": وتقضوا إليهم بالقسط ولا تظلموهم. وإذا نهى عن الظلم في حق المشرك، فكيف في حق المسلم "إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين". "إنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ". "أن تولوهم": هو بدل من الذين قاتلوكم، لا ينهاكم عن مبرة هؤلاء وإنما ينهاكم عن تولي هؤلاء. "وَمَن يَتَوَلَّهُمْ": منكم "فَأُوْلَئِكَ هم الظالمون": حيث وضعوا التولي فى غير موضعه. انتهى.

وفي الطبري: "القول في تأويل قوله تعلى: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ". يقول تعالى ذكره: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ": من أهل مكة، "وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ". يقول: وتعدلوا فيهم بإحسانكم إليهم، وبرّكم بهم.

واختلف أهل التأويل في الذين عُنُوا بهذه الآية، فقال بعضهم: عُني بها: الذين كانوا آمنوا بمكة ولم يهاجروا، فأذن الله للمؤمنين ببرّهم والإحسان إليهم.

ذكر من قال ذلك: حدثنا محمد بن عمرو، قال: حدثنا أَبو عاصم، قال: ثنا عيسى؛ وحدثني الحارث، قال: ثنا الحسن، قال: حدثنا ورقاء، جميعًا، عن ابن أَبي نجيح، عن مجاهد، في قوله: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) أن تستغفروا لهم، (أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ)؛ قال: وهم الذين آمنوا بمكة ولم يهاجروا. وقال آخرون: عني بها من غير أهل مكة من لم يهاجر.

ذكر من قال ذلك: حدثني محمد بن إبراهيم الأنماطيّ، قال: حدثنا هارون بن معروف، قال: حدثنا بشر بن السريّ، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن عمه عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: نزلت في أسماء بنت أبي بكر، وكانت لها أمّ فى الجاهلية يقال لها قتَيلة ابنة عبد العُزّى، فأتتها بهدايا وصناب وأقط وسَمْن، فقالت: لا أقبل لك هدية، ولا تدخلي عليّ حتى يأذن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم فذكرت ذلك عائشة لرسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم، فأنزل الله (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ) ... إلى قوله: (الْمُقْسِطِينَ) .

قال: حدثنا إبراهيم بن الحجاج، قال: حدثنا عبد الله بن المبارك، قال: حدثنا مصعب بن ثابت، عن عامر بن عبد الله بن الزبير، عن أبيه، قال: قَدِمَتْ قُتَيلة بنت عبد العُزّى بن سعد من بني مالك بن حِسْل على ابنتها أسماء بنت أبي بكر، فذكر نحوه.

وقال آخرون: بل عُنِي بها من مشركي مكة من لم يقاتل المؤمنين، ولم يخرجوهم من ديارهم؛ قال: ونسخ الله ذلك بعدُ بالأمر بقتالهم.

ذكر من قال ذلك: حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: قال ابن زيد: وسألته عن قول الله عزّ وجلّ: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ)... الآية، فقال: هذا قد نسخ، نَسَخَه، القتال، أمروا أن يرجعوا إليهم بالسيوف، ويجاهدوهم بها، يضربونهم، وضرب الله لهم أجلَ أربعة أشهر، إما المذابحة، وإما الإسلام.

حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: حدثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ)... الآية، قال: نسختها (فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ) .

وأوْلى الأقوال في ذلك بالصواب قول من قال: عُنِي بذلك: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، من جميع أصناف الملل والأديان أن تبرُّوهم وتصلوهم، وتقسطوا إليهم، إن الله عزّ وجلّ عمّ بقوله: (الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ) جميع من كان ذلك صفته، فلم يخصصْ به بعضًا دون بعض، ولا معنى لقول من قال: ذلك منسوخ، لأن برّ المؤمن من أهل الحرب ممن بينه وبينه قرابة نسب، أو ممن لا قرابة بينه وبينه ولا نسب غير محرّم ولا منهيّ عنه إذا لم يكن في ذلك دلالة له، أو لأهل الحرب على عورة لأهل الإسلام، أو تقوية لهم بكُراع أو سلاح. قد بين صحة ما قلنا في ذلك، الخبر الذي ذكرناه عن ابن الزبيرفي قصة أسماء وأمها.

وقوله: (إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) يقول: إن الله يحبّ المنصفين الذين ينصفون الناس، ويعطونهم الحقّ والعدل من أنفسهم، فيبَرّون مَن برّهم، ويُحْسنون إلى من أحسن إليهم". انتهى.

وفي البخاري، في حديث صلح الحديبية: "وكانوا، يعني خزاعة، عيْبَةَ نُصْحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم في تِهامة. قال في فتح الباري: "زاد ابنُ إسحاق في روايته: "وكانت خزاعةُ عيْبَةَ نُصْحِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، مسلمُها ومشركُها، لا يُخفون عليه شيئا كان بمكة. وكان الأصل في موالاة خزاعة للنبي صلى الله عليه وسلم أن بني هاشم كانوا تحالفوا مع خزاعة فاستمروا على ذلك في الإسلام. وفيه جواز استنصاح بعض المعاهدين وأهل الذمة إذا دلت القرائن على نصحهم وشهدت التجربة بإيثارهم أهلَ الإسلام على غيرهم، ولو كانوا من أهل دينهم.

ويُستفاد منه جوازُ استنصاح بعض ملوك العدوِّ استظهارا على غيرهم، ولا يُعدُّ ذلك من موالاة الكفار ولا موادّة أعداء الله، بل من قبيل استخدامهم وتقليلِ شوكة جمعهم وإنكاء بعضهم ببعض. ولا يلزم من ذلك الاستعانة بالمشركين على الإطلاق.

قوله: "وكانوا عيْبَةَ نُصْح": العيبة، بفتح المهملة وسكون التحتانية، بعدها موحدة: ما توضع فيه الثياب لنصحها، أيْ أنهم موضع النصح له والأمانة على سره. ونُصح بضم النون، وحكى ابن التِّين فتحها، كأنه شبَّه الصدرَ، الذي هو مستودع السر ، بالعيْية التي هي مستودع الثياب. انتهى بتصرف.

وفي كتاب الهِبة من صحيح البخاري، باب قبول هدية المشركين، ذَكَر فيه أحاديث، وفيه أيضا بابُ الهدية للمشركين وقول الله تعلى: "لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ"،ذَكَر فيه حديثين. وفي البخاري: باب قوله: "إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء" ذكر فيه حديث وفاة أبي طالب، قال في فتح الباري: "لم تختلف النقَلَة في أنها نزلت في أبي طالب، واختلفوا في المراد بمتعلِّق "أحببتَ"، فقيل: المرادُ أحببت هدايتَه. وقيل: أحببتَه هو لقرابته منك. انتهى.

وفي الطبري: "القول في تأويل قوله تعالى: "إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ". يقول تعلى ذكره لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ" يا محمد "لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ": هدايته. "وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ": أن يهديه من خلقه، بتوفيقه للإيمان به وبرسوله. ولو قيل: معناه: إنك لا تهدي من أحببته لقرابته منك، ولكن الله يهدي من يشاء، كان مذهبا. "وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ": يقول جل ثناؤه: والله أعلم من سبق له في علمه أنه يهتدي للرشاد، ذلك الذي يهديه الله فيسدده ويوفقه.

وذكر أن هذه الآية نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل امتناع أبي طالب عمه من إجابته، إذ دعاه إلى الإيمان بالله، إلى ما دعاه إليه من ذلك. انتهى المراد منه. انظر بقية كلامه إن شئت.

وفي تفسير البغوي: "قوله تعالى: "إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ": أي أحببتَ هدايتَه لقرابته. ومثله في تفسير الخازن.

وفي ابن ناجي على الرسالة في الكلام على دعاء القنوت: ونترك من يكفُرك: أي لا نحب دينَه، ولا يُعترض على هذا بإباحة نكاح الكتابية، لكوننا إذا تزوجناها مِلنا إليها، لأن النكاح من باب المعاملات.والمرادُ هنا، كما تقدم، إنما هو بُغضُ الدين. وحكايةُ البهلول بن راشد المذكورةُ في المدارك وغيرها، إنما خرج ذلك منه على طريق الورع، ولولا الإطالة لذكرناها. انتهى. قال في مفيد العباد: نص عليه ابن ناجي أيضا في كتابه معالم الإيمان على رجال القيروان. ونصه بعد أن ذكر حكاية البهلول بن راشد، ذكر أنه رد فيها على نصراني هدية من زيت أهداها له، فقال له الرسول: ولم ترد عليه هديتَه؟ قال ذكرت قول الله: "لا تجد قوما يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادون من حاد الله ورسوله"، فخشيت أن آكل من زيت النصراني فأجد له مودة في قلبي، فأكون ممن وادَّ من حادَّ الله ورسوله على غرض من الدنيا يسير.

قلت وهذا من البهلول على طريق الورع، لأن الموادة في الآية إنما هي الموادَّةُ في الدين. وأما الموادّة في المعاملة في الدنيا فغيرُ داخلة في الآية. ويدلُّكَ على هذا إباحة نكاح الكتابية، ولا شك أننا إذا تزوجناها مِلنا إليها ووادَدْناها.

انتهى كلامه في معالم الإيمان.

وفي تفسير الفخر الرازي، عند قول الله تعلى: "ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمَسَّكم النار"، قال المحققون: الركون المنهي عنه هو الرضا بما عليه الظَّلَمَةُ من الظلم وتحسينُ تلك الطريقة وتزيينُها عندهم وعند غيرهم ومشاركتهم في شيء من تلك الأبواب. فأما مداخلتهم لرفع ضرر واجتلاب منفعة عاجلة، فغير داخل في الركون. انتهى»[75].

في أحكام الجهاد:

يقول الشيخ سيدي بابَه: «بسم الله الرحمن الرحيم. من سيديَ بن محمد إلى السيد الفاضل ابن سلالة السادة الأفاضل، الأخ سيدي محمد بن أحمد بن حبَتْ، رحم الله تعلى السلف وبارك في الخلف. آمين. سلام عليكم ورحمة الله تعلى وبركاته. فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو. أما بعد، فقد رأيت كتابك الكريم وخطابك الوسيم. وإني أرى أنه لا يخفى عليك عدم القدرة على الجهاد من كل وجه. ولا يخفى عليك أن الجهاد وسيلة مقصِدها إعلاء كلمة الله تعلى؛ وأن الوسيلة إذا لم يترتب عليها مقصِدها لم تشرع؛ وأن هذه المسألة تخفى كثيرا على أهل الفقه. ولا يخفى على الناظر عدم قدرة سكان البلد على الجهاد من كل وجه.

فإذا تُحقق أو ظُن عدم اتحاد الكلمة على السلطان القاهر وعدمُ بيت المال وعدمُ السلاح المماثل وعدمُ العدد المكافئ وعدمُ الصنائع المقاومة ونحوُ ذلك من سائر أسباب القوة، فقد تُحقق أو ظُن أن الثمرة إنما هي خلاف مقصِد الجهاد. وبذلك تصير دماء المسلمين وأموالهم وحريمهم ضائعة في غير ثمرة تجنى. فيصير الجهاد مضرة خالصة فيكون فتنة من الفتن. هذا إضافة إلى أن أهل الفساد يجعلونه ذريعة لاستئصال شأفة المسلمين. والعيانُ مُغْنٍ في ذلك عن البيان والوصفُ فيه قاصرٌ عن البيان»[76].

ويقول في رسالته الموجهة إلى أهل أطار وغيرهم من أهل آدرارْ: «ومن تأمل أواخر تاريخ الاستقصاء وأمثاله من تواريخ أهل العصر واعتنى بمعرفة أحوال الزمان في البلاد القريبة والبعيدة علم أن العافية مع الإفرنج الآن هي المتعينة، والموافقة معهم هي الطريقة البيِّنة شرعا ورأيا»[77].

ويقول في آخر رسالته الموجهة إلى أهل السنغال وإفريقية الغربية: «وأما اللصوص المحاربون، فجهادُهم أَوْلَى وشَهيدُهم أفضلُ! كما في المنتقى، ونقله ابن فرْحون في تبصرته»[78].

في أحكام الهجرة:

يقول الشيخ سيديَ بابَه في رسالته الموجهة إلى أهل السنغال وغيرهم من إفريقية الغربية: «ومنها أن وجوب الهجرة، إنما هو عند التعرض للدين، مع القدرة عليها، كما في فتح الباري، في باب هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى المدينة قبل كتاب المغازي، وفي باب وجوب النّفير من كتاب الجهاد. ونص الإمام الشافعيُّ في الأمِّ على ذلك. وقد قال الله تعلى: "إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا".

هذا وأكثر بلاد الإسلام الآن والمعتبِر منها للدين والدنيا تحت إِيَالة الأمم المسيحية، أين المَفَرُّ؟ ولا مفرَّ لهارب، ولنا البسيطتان: الثَّرا والماءُ! على أن البلاد التي في حماية الأمم المسيحية اليوم هي التي يمكن فيها صلاح دين أو معيشة. ولا عبرة ببقائها سائبة قاحلة مغمورة باللصوص المحاربين، لا تامنُ فيها نفس المسلم ولا مالُه، ولا يتيسّر له فيها عِلمٌ ولا عمَلٌ، ولا يُنَبِّئُكَ مثلُ خبير»[79].

ويقول في رسالته إلى العلامة سيدي مُحَمَّد بن أحمَد بن حبَتْ: «فالهجرة لا تجب عند عدم التعرض للدين كما هو الواقع، ولا سيَّما مع عدم الإمكان، وعدم وجود أرض لائقة يُقام فيها الدين كما ينبغي لا سبيل للدول المسيحية عليها كما هو الواقع»[80].

ويقول في جوابه للسائل: هل ينبغي للمسلمين أن يجاهدوا النصارى: «وكما أن أهل هذه البلاد معذورون في ترك جهادهم بل مُتعين عليهم تركه، فهم أيضا معذورون في عدم الهجرة عن أرضهم التي دخلها عليهم النصارى لأجل الضعف عنها من كلهم أو جلهم حسبما يعلمه العارف بالأحوال، ولعدم أرض لائقة بهم أمنا ومعاشا يُهاجرون إليها كما لا يخفى أيضا»[81].

وجاء أيضا في فتوى  الشيخ سيديَ بابَه المفصَّلة حول نازلة الاستعمار ما يلي:

«في صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يومَ الفتح: " لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهادٌ ونية، وإذا استُنفرتم فانفروا". قال في فتح الباري: "قوله: لا هجرة بعد الفتح: أي فتح مكة". قال الخطابيُّ وغيره: كانت الهجرة فرضا في أول الإسلام على من أسلم، لقلة المسلمين في المدينة وحاجتهم إلى الاجتماع. فلما فتح الله مكة ودخل الناس في دين الله أفواجا سقط فرضُ الهجرة إلى المدينة، وبقي فرضُ الجهاد والنية على من قام به أو نزل به عدوٌّ. انتهى.

وكانت الحكمة أيضا في وجوب الهجرة على من أسلم، ليسلم من أذى ذويه وأذى من يوذيه من الكفار، فإنهم كانوا يعذبون من أسلم منهم إلى أن يرجع عن دينه. وفيهم نزلت: "إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض واسعةً فتهاجروا فيها..." الآيَةَ. وهذه الهجرة باقية الحُكم فيمن أسلم في دار الكفر وقدر على الخروج منها. وقد روى النَّسائيُّ من طريق بَهْزِ بنِ حكيم بن معاوية عن أبيه عن جده مرفوعا: "لا يقبل الله من مشرك عملا بعدما أسلم أو يفارق المشركين". ولأبي داوود من حديث سمُرة مرفوعا: "أنا بريء من كل مسلم يقيم بين أظهُر المشركين"، وهذا محمولٌ على من لم يأمن على دينه. وسيأتي مزيدٌ لذلك في أبواب الهجرة من أول كتاب المغازي، إن شاء الله تعلى. انتهى.

وفي صحيح البخاري عن عائشة، رضي الله تعلى عنها: "قالت لا هجرة اليوم، كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلى الله تعلى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم مخافةَ أن يُفْتَنَ عليه. فأما اليوم فقد أظهر الله الإسلام، واليومَ يعبد ربه حيث شاء، ولكنْ جهادٌ ونِيَّةٌ".

قال في فتح الباري: "قوله لا هجرة اليوم، أيْ بعد الفتح. قوله: "كان المؤمنون يفر أحدهم بدينه إلخ". أشارت عائشة إلى بيان مشروعية الهجرة وأن سببها خوف الفتنة، والحكم يدور مع علته، فمقتضاه أن من قدر على عبادة الله في أي موضع اتفق لم تجب عليه الهجرة منه، وإلا وجبت، ومن ثم قال الماوردي: إذا قدر على إظهار الدين في بلد من بلاد الكفر فقد صارت البلد به دار إسلام، فالإقامة فيها أفضل من الرحلة منها لما يترجى من دخول غيره في الإسلام". انتهى المراد منه.

وفي كتاب الأم للشافعي، قال الشافعيُّ رحمه الله تعلى: "وَلَمَّا فَرَضَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْجِهَادَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَجَاهَدَ الْمُشْرِكِينَ بَعْدَ إذْ كَانَ أَبَاحَهُ وَأَثْخَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي أَهْلِ مَكَّةَ وَرَأَوْا كَثْرَةَ مَنْ دَخَلَ فِي دِينِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ اشْتَدُّوا عَلَى مَنْ أَسْلَمَ مِنْهُمْ فَفَتَنُوهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، أَوْ مَنْ فَتَنُوا مِنْهُمْ فَعَذَرَ اللَّهُ مَنْ لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْهِجْرَةِ مِنْ الْمَفْتُونِينَ فَقَالَ: "إِلا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ"، وَبَعَثَ إلَيْهِمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ لَكُمْ مَخْرَجًا وَفَرَضَ عَلَى مَنْ قَدَرَ عَلَى الْهِجْرَةِ الْخُرُوجَ إذَا كَانَ مِمَّنْ يُفْتَنُ عَنْ دِينِهِ، وَلَا يَمْتَنِع"، فَقَالَ فِي رَجُلٍ مِنْهُمْ تُوُفِّيَ تَخَلَّفَ عَنْ الْهِجْرَةِ فَلَمْ يُهَاجِرْ: "الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ..." الْآيَةَ. وَأَبَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عُذْرَ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَقَالَ: "إِلا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً"  إلَى "رَحِيمًا ". قَالَ الشَّافِعِيُّ، رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَلَى: "وَيُقَالُ: "عَسَى" مِنْ اللَّهِ وَاجِبَةٌ.

قَالَ الشَّافِعِيُّ: "وَدَلَّتْ سُنَّةُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ فَرْضَ الْهِجْرَةِ عَلَى مَنْ أَطَاقَهَا إنَّمَا هُوَ عَلَى مَنْ فُتِنَ عَنْ دِينِهِ بِالْبَلَدِ الَّذِي يُسْلِمُ بِهَا؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَذِنَ لِقَوْمٍ بِمَكَّةَ أَنْ يُقِيمُوا بِهَا بَعْدَ إسْلَامِهِمْ، مِنْهُمْ الْعَبَّاسُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ وَغَيْرُهُ، إذْ لَمْ يَخَافُوا الْفِتْنَةَ. وَكَانَ يَأْمُرُ جُيُوشَهُ أَنْ يَقُولُوا لِمَنْ أَسْلَمَ إنْ هَاجَرْتُمْ فَلَكُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَإِنْ أَقَمْتُمْ فَأَنْتُمْ كَالأَعْرَابٍ وَلَيْسَ يُخَيِّرُهُمْ إلَّا فِيمَا يَحِلُّ لَهُمْ». انتهى.

وانظر شروح المنهاج عند قوله: "والمسلم بدار كفر، إن أمكنَه إظهارُ دينه استُحبَّ له الهجرةُ وإلا وجبتْ إن أطاقها"، مثلَ نهاية المحتاج ومغني المحتاج وشرح المحلَّى وحاشيته للقليوبي، ولا بد»[82].

مسألة الحرابة وأولوية علاجها في هذه البلاد:

زيادة على الأحكام العامة المتعلقة بحالة السيبة[83] التي دامت قرونا، دون أن يُرْجَى لها زوال، هناك مسألة متفرِّعةٌ عن ذلك، تعتبر في غاية الأهمية والدلالة، وهي اتخاذ السيبة طابعَ الحرب على الإسلام في أحيان كثيرة.

فالذين يقومون بعمليات القتل والنهب وانتهاك الأعراض لا يخلون من أحد أمرين: إما أن يكونوا كفارا، أو يكونوا مسلمين.

أما الاولى فقد صرح بها العلامة سيدي محمد بن سيدي عبدالله ابن الحاج إبراهيم العلويّ، حين أصدر فتوى بذلك في نظم له مشهور[84].

وهناك من لم يصرح بذلك، لكنه اقترب من ذلك إلى حد كبير، مثل الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديَ، الذي صرح بأن هؤلاء اللصوص لا يهابون حتى حرم المسجد بعملياتهم القذرة:

وتَرَى جَمَاعَةَ مُسْلِمِينَ بِمَسْجِدٍ--شُمَّ الأُنُوفِ أَعِزَّةَ الآباء...إلخ الأبيات.

كما يصفهم بأنهم يمنعون المسلمين من أداء فريضة الصلاة قائلا:

هَيْهَاتَ هَذَا مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدٍ-- وَصِحَابِهِ وَقُفَاتِهِ الْكُرَمَاءِ!
لَمْ تُمْسِكُوا مِنْ دِينِهِمْ إِلاَّ الْقَوَا--عِدَ خَمْسَهَا مَدْوُوفَةً بِرِيَاءِ
وَلَرُبَّمَا مَنَعُوكُمُوهَا عَنْوَةً—حَتَّى افْتَدَيْتُمْ مِنْهُمُ بِفِدَاءِ... إلخ.

ومن الأسباب المباشرة الشائعة لحرب شرببة، أن المسمى "بَبَّه" امتنع عن أداء فريضة الزكاة. وغير ذلك كثير. (يتواصل بحول الله).

 

الشيخ سيديَ بابَه وموقفُه من نازلة الاستعمار (الحلقة السادسة)      (حقائق - تساؤلات - تحليلات - تصويبات - وثائق)

د/ أحمد بن هارون ابن الشيخ سيديَ         [email protected]

الحلقة السادسة

تعقيبا على فتاوى الشيخ سيديَ بابَه الواردة في الحلقة الخامسة من هذه السلسلة، وتوضيحا لها، سيتمُّ في الجزء الأول من هذه الحلقة السادسة عرضٌ مختصر لكلام العلماء، خصوصا السادةَ المالكيةَ والعلماءَ الشناقطة، حول مسألتين أساسيتين، أوردهما الشيخ سيديَ بابَه في فتاواه المذكورة، بشيء من الاختصار:

تتعلق الأولى بحكم الاستعانة بالكفار على المحاربين في بلد لا سلطان فيه، وأولوية جهاد المحاربين على جهاد الكفار؛ بينما تتعلق الثانية بحكم العاجز عن الجهاد؛ وهل من فرق في ذلك بين جهاد الدفع وجهاد الطلب؟ وذلك عبر العناوين التالية:

مقدمة؛
أوْلوية جهاد المحاربين وحكم الاستعانة بالكفار عليهم فى بلد لا سلطان فيه:

من كلام علماء المالكية في المسألة؛
من فتاوى علماء البلاد في المسألة؛

مسألة العجز عن الجهاد؛
الفرق بين جهاد الدفع وجهاد الطلب عند العجز؛
ذكرُ بعض مَن وافق الشيخ سيدىَ بابه فى فتواه وموقفه المذكوريْن؛
عرض فتوى الشيخ سيديَ بابَه على أقوال العلماء؛

مقدمة:

مِن المسَلّم به أن الاِستعانة بالكفار على المسلمين، إن كانت مظاهَرةً لهم على دين الإسلام، أو نُصرة وتقوية لهم على أهله، أو موالاة لهم، أو بغضا للإسلام والمسلمين ونِواء لهم، أو عونا لهم على دولة إسلامية تقيم الشرع للإطاحة بها، أو على مجتمع مسلم آمن أو فرد مسلم، لإلحاق الضرر  أو الأذى به، فهي رِدَّةٌ وكُفرٌ بالنص والإجماع. والنصوص من الكتاب والسنة فى هذا الأصل أكثر من أن تُحصر، وكتُب العلماء طافحة بنقل الإجماع على ذلك، فلا نزاع فيه إذَنْ. ويستوى فى ذلك العونُ بالنفس والمال والرأى والدَّلالة والإخبار.

لكن الظاهر من أقوال أهل العلم أن الاستعانة بالكفار للقضاء على الفوضى وردِّ عدوان أهل الحِرابة الذين يعيثون فى الأرض فسادا، ولا حيلة فيهم إلا بالاستعانة بالكفار المحتلين للبلد، المتغلبين عليه بالقوة، إذ لا دولة ولا سلطة ولا إمام للمسلمين، ولا منَعة ولا قوة لجماعتهم المشتتة المتنازعة فى أرض بدوية مترامية الأطراف يجوبها المحاربون، مع العجز التام عن قتال الكفار من كل وجه، وشدة ما يلاقيه أهل الدين والعلم والمستضعَفون من أذى المفسدين في الأرض المسلَّحين، فهي جائزة، وخصوصا عند الاضطرار.

والكلام هنا إنما هو في أهل الحرابة، دون البغاة والخوارج، إذ لا دولة في البلد حتى يُخرج عليها، ولا إمام، ولا بيْعة ولا سلطان.

ومن هنا رأى الشيخ سيديَ بابه أن قتال المحاربين أوْلى من قتال النصارى المحتلين المعجوز عن مواجهتهم بالقوة. فمحاربو اليوم هم محاربو أمس، ولا فرق. ومعلوم أنهم لم يكونوا ينتظرون فتوى ليوقِعوا بمن قدَروا عليه، بل هم على ما كانوا عليه من الاستمرار فى الظلم والبغى، واستمراء القتل والنهب.

وقد أفتى بذلك علماء قبله من أهل هذه البلاد وغيرها. وتكلم الفقهاء في هذه المسألة كلاما يطول جلبُه. والخلاف قائم بينهم في أيّ الفريقين أوْلى بأن يُجاهَد أوَّل؛ والمسألةُ ترجع إلى اجتهاد العلماء العارفين بحقيقة الحال.

من أقوال السادة المالكية في أوْلوية جهاد المحاربين

وحكم الاستعانة بالكفار عليهم في بلد لا سلطان فيه:

يقول الشيخ خليل فى مختصره: «المحارب قاطع الطريق لمنع سلوك، أَوْ أخذِ مَالِ مُسْلِمٍ أَوْ غَيْرِهِ، عَلَى وَجْهٍ يَتَعَذَّرُ مَعَهُ الْغَوْثُ، وَإِن انْفَرَدَ بِمَدِينَةٍ، كَمُسْقِى السَّيْكُرَانِ لِذَلِكَ، وَمُخَادِعِ الصَّبِىّ أَوْ غَيْرِهِ لِيَأْخُذَ مَا مَعَهُ، وَالدَّاخِلِ فِى لَيْلٍ أَوْ نَهَارٍ فِى زُقَاقٍ أَوْ دَار قَاتلَ لِيَأْخُذَ المال، فَيُقَاتَلُ بَعْدَ الْمُنَاشَدَةِ إنْ أَمْكَنَ، ثُمَّ يُصْلَبُ فيقتل، أو ينفى الحر: كالزنا، والقتل، أَوْ تُقْطَعُ يَمِينُهُ وَرِجْلُهُ الْيُسْرَى وِلَاءً. وَبِالْقَتْلِ يَجِبُ قَتْلُهُ وَلَوْ بِكَافِرٍ، أَوْ بِإِعَانَةٍ وَلَوْ جاء تائبا. وليس للولىّ العفو...إلخ».

قال فى مِنَح الجليل: «ابْنُ عَرَفَةَ: فِى الْعُتْبِيَّةِ وَالْمَوَّازِيَّةِ: مَنْ خَرَجَ لِقَطْعِ السَّبِيلِ لِغَيْرِ مَالٍ فَهُوَ مُحَارِبٌ، كَقَوْلِهِ: لَا أَدَعُ هَؤُلَاءِ يَخْرُجُونَ إلَى الشَّامِ أَوْ إلَى مِصْرَ أَوْ إلَى مَكَّةَ، وَكَذَلِكَ مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَى النَّاسِ وَأَخَافَهُمْ مِنْ غَيْرِ عَدَاوَةٍ وَلَا نَائِرَةٍ». (9/336).

وفيه: «ابْنُ عَرَفَةَ الشَّيْخُ عَن الْمَوَّازِيَّةِ: وَقَتْلُ الْغِيلَةِ: مِن الْمُحَارَبَةِ، أَنْ يَغْتَالَ رَجُلًا أَوْ صَبِيًّا فَيَخْدَعَهُ حَتَّى يُدْخِلَهُ مَوْضِعًا فَيَأْخُذَ مَا مَعَهُ فَهُوَ مُحَارِبٌ».

وفيه: «الْمُحَارِبُ مَنْ حَمَلَ السِّلَاحَ عَلَى النَّاسِ عَلَى غَيْرِ نَائِرَةٍ أَوْ عَدَاوَةٍ، أَوْ قَطَعَ طَرِيقًا، أَوْ أَخَاف الْمُسْلِمِينَ».

ومن مِنَح الجليل أيضا: «وَفِيهَا، يعنى المدونة، جِهَادُ الْمُحَارِبِينَ جِهَادٌ. ابْنُ شَعْبَانَ: جِهَادُهُمْ أَفْضَلُ مِنْ جِهَادِ الْكُفَّارِ، وَلِابْنِ رُشْدٍ مِنْ نَوَازِلِ أَصْبَغَ: جِهَادُ الْمُحَارِبِينَ جِهَادٌ عِنْدَ الْإِمَامِ مَالِكٍ وَأَصْحَابِهِ رَضِى اللَّهُ تَعَلَى عَنْهُمْ. أَشْهَبُ عَنْهُ: مِنْ أَفْضَلِ الْجِهَادِ وَأَعْظَمِهِ أَجْرًا، وَقَالَ مَالِكٌ رَضِى اللَّهُ تَعَلَى عَنْهُ، فِى أَعْرَابٍ قَطَعُوا الطَّرِيقَ: جِهَادُهُمْ أَحَبُّ إلَىّ مِنْ جِهَادِ الرُّومِ. قَالَ فِى الْمُدَوَّنَةِ: حُكْمُ الْمُحَارِبِ فِيمَا أَخَذَ مِن الْمَالِ مِنْ قَلِيلٍ أَوْ كَثِيرٍ سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ رُبُعِ دِينَارٍ، بَلْ يَثْبُتُ حُكْمُهَا بِمُجَرَّدِ الْإِخَافَةِ، وَإِنْ لَمْ يَأْخُذْ شَيْئًا. بَلْ بِمُجَرَّدِ الْخُرُوجِ لِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ تَحْصُلْ إخَافَةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ».(9/340).

قال العلامة الدردير فى الشرح الكبير: «وَالْحَاصِلُ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ فِى تَقْدِيمِ أَحَدِهِمَا عَلَى الْآخَرِ وأفْضَلِيَّتِهِ عَلَيْهِ خِلَافِيَّةٌ. وَالنَّظَرُ ارْتِكَابُ أَخَفِّ الضَّرَرَيْنِ. فَإِنْ اسْتَوَيَا قُوتِلَ الْكُفَّارُ». (2/173). ونقل أفضلية قتال المحاربين على قتال المشركين عن ابن عبدالسلام: (1/173). ونقلها الشيخ سيديَ بابه عن ابن فرحون فى تبصرته، وعن البنانىّ.

نماذج من فتاوى علماء البلاد في الحرابة:

1- فتوى للعلامة البحرِ الشيخ سيِّدى المختار الكنتىّ، يجيب بها السائل عن حكم الأموال المأخوذة من أيدى المحاربين واللصوص، وهل بين اللص والمحارب فرق؟ وعلى كونهما متغايريْن، ما لمن استنقذ شيئا من أيديهم؟ وما الفرق بين المال الميئوس منه والمرجو؟ فجاء فى هذه الفتوى، بعد كلام طويل فى المسائل المستفتَى عنها، ما محلُّ الغرض منه:

«وكان ابن شعبان يرجّح هذا المأخذ، ويجعل من سبيل الفساد أخذَ مال من هو  فى سواد الإسلام بالباطل، أو تخويفَ أهل الإسلام، كبعض قبائل البربرية، فجعلهم كالكفرة، متمسكا بقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من حمل السلاح علينا"، وقولِه: "سبُّ المؤمن فسق وقتلُه كفر". فأطنب فى ذلك حتى أباح استرقاقهم، حتى إنهم لا يخلُون من أمرين: إما أن يكونوا قد أسلموا قديما ثم ارتدوا أو تزندقوا، فيكونون كالقرامطة أو بنى عبيد الذين اتفقت علماء عصرهم على وجوب قتلهم، وجواز استرقاقهم لابتداعهم وانتهاكهم الحرمات وتضييعهم الأحكامَ، مع تقلُّبهم، حتى أراح الله منهم بالجُدرىّ المفرط والسَّنة المستأصِلة لشَأْفتهم. ولا يكونون أسوأ حالا من هذه القبائل المتجردة لنهب الأموال وسفك الدماء وتضييع الفرائض ورفضِ الأحكام الشرعية، شاهدين على أنفسهم بالكفر. فيقولون للمسلمين في المحاورة: أنتم مسلمون تفعلون وتفعلون. ويقولون: نحن لا نضرّ المسلمين، وإن قدروا على مسلم يبيعونه للنصارى، وهم مع ذلك ينطقون بالشهادتين!.

وكان ابن بشير يُجرى في أمرهم من الأحكام ما يُجرى على الحَرْبيّين، حتى قيل: لا خلاف أن جهادهم أفضل من جهاد الروم بدارهم.  وأما إذا دهمونا فى أرضنا فجهادهم أفضل، لأن العدو المتصل أكثر ضررا من العدو المنفصل. وقد  يأمَن المسلم المسافر فى أرض الروم على دمه وماله أكثر منه فى بلاد تلك القبائل الطاغية الرافضة للإسلام. بل السفر إلى أرضهم حرام، للتغرير بالنفس والمال من غير عظيم فائدة، ولمِا يراه عندهم من المناكر التى يجب تغييرها... إلخ»[85].

2- فتوى للعلامة محمد أحمد بن سيدي إبراهيم بن أحمد رمظان الغلاويّ يقول فيها: «أمور يعلم الواقف عليها حكمَ المحاربين من وجوب قتْلٍ وعدمِه، وهل يُغْرَمون ما أخذوه؟ وهل لجماعة المسلمين قتالُهم إن عُدِم الإمام ونائبُه معا؟ وهل يجوز العفو عنهم؟ وهل تسقط حقوق الآدميين من سقوط القَوَد من مكافئ وقيمة مالٍ وديَة ذمِّىٍّ؟ وهل تثبت الحِرابة بالسماع؟

فالجواب عن الأول: أن قتال المحاربين واجب كقتال المشركين، لقوله تعلى: "إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله"... الآيةَ. واستووا فى الرخصة مِن تقسيم الناسِ طائفتين حالَةَ القتال. قال شراح خليل فى قوله: "ورخّص لقتال جائر": أى مأذونا فيه واجبا ، كقتال المشركين والمحاربين والبغاة القاصدين الدمَ.

واختُلِف أيهما مقدمٌ؟ فقيل بتقديم أهل الشرك، لأن فسادهم لا يعادله فساد. وعلى هذا درج خليل بقوله: "وإن خاف محاربا". وقيل بتقديم الآخَر، لقول مالك فى أَعرابٍ قطعوا الطريق وأخافوا السبيل: "جهادُهم أحبُّ إلىَّ من جهاد الروم". وقال بمثل ما قال ]مالك[ ابنُ شعبان. لكنْ محل الخلاف بينهما وبين الغير إذا لم يكونوا أشدَّ ضررا، كقاعدة "إذا التقى الضرران نُفىَ أصغرُهما". ورفعُ الضرر عن المسلمين فرضُ كفاية.

وفى المدونة: "جهادُ المحاربين جهاد". إلى أن يقول: "المسألة الثالثة: أن جماعة المسلمين تقوم مقام الإمام ونائبه عند عدمهما. ذكروه عند قوله فى فصل التيمم: وعَطش مُحترَم معه". ونصوا أنها تقوم مقامه ولو  فى الحدود.

المسألة الرابعة: هى أنه لا يجوز للولىِّ، أىْ ولىّ القتيل، وأحرى الإمام، العفوُ، لأنه حقٌّ لله تعلى، ولا يجوز لمخلوق إسقاطُه... إلى أن قال: المسألة السادسة أن الحرابة تثبت بالسماع الفاشى، نص خليل عليه فيما يثبُت به في باب الحرابة، قال آخرَها:  ولو شهد أنه المشهور بها ثَبتتْ".

ثم عرّ ف الحرابة على نحو مما تقدم نقله من شراح خليل. ثم قال: "فإذا علمتَ وتأملت ما مَرَّ لِي، اعلَمْ وتأمَّل أن من أفتى وحَكَم بإباحة مال المسلمين المعصومين، للمحاربين المغتالين بالدوام، على مَرِّ الليالى والأيام، فهو زائغ عن الهُدى وقريبٌ من الردة، لأنه إما جاهلٌ، والقضاءُ عليه حرامٌ، ويجب عليه امتثالُ قوله تعلى: "ولا تقفُ ما ليس لك به علمٌ... إلى أن قال: "وأما قول خليل آخرَ الدماء: (وإن تأوَّلوا)، فهو ليس بحُجة لمن احتج به. لأن التأويل هنا أن يَظن كل فريق جوازَ قتال الآخر لفساد دينه، كقتال علىٍّ، كرَّم الله وجهَه، للخوارج فهَدَرٌ فيما أتوا عليه من الأموال والدماء فى القتال. ولا يَحِلُّ من مالهم إلا أخذُ ما يُقاتَل به، ويُردُّ إذا استُغنىَ عنه، لأنه فى غير المحاربين، لأنهم لا تأويلَ لهم فى دماء المسلمين، لعدم عذرهم، ووجوب التوبة عليهم فيسقطَ قتالُهم. وقال فى الباغية: "ولم يضمَن متأوِّلٌ أتلف مالا أو نفسا". قال شارحُه محنض بابه الديمانىُّ: "إلا الخوارج إذا تابوا ورجعوا، وُضعت الدماءُ عنهم، ويُؤخذ منهم ما وُجد بأيديهم من المال بعينه، وأما ما استهلَكوا لم يُتْبعوا به، ولو كانوا أغنياء، لأنهم متأوِّلون بخلاف المحاربين.

وقد علِمتَ من هذا أن المحاربين ليسوا كغيرهم. وعدمُ ضمان المتأوِّلين إنما هو ترغيبٌ فى الرجوع إلى الحق. ولذلك أهدرت الصحابةُ الدماء التى كانت فى حروبهم. أما غير المتأول، وهو الباغى الخارجُ عِنادا، فيؤُخذ بالقصاص فى النفس ورَدِّ المال»[86]. انتهى نص الفتوى.

ومراده بالباغى الخارج عنادا: المحارب، لا البغاة الخارجون على الإمام تأولا. كما لا يخفى.

مسألة العجز عن الجهاد:

لا خلاف بين جميع علماء المسلمين أن العجْز عن الواجب مسقط لوجوبه، أيا كان ذلك الواجب، لقوله تعلى: "لايكلف الله نفسا إلا وسعها"، وقوله صلى الله عليه وسلم: فيما صحّ عنه:"اكلفوا من العمل ما تطيقون". فالله عز وجل لا يكلف الأمة إلا بما تستطيع، ولا يحمّلها إلا ما تطيق. وحكم الواحد كحكم الجميع، فكل من عجَز عن واجب عجزا حقيقيا سقط عنه، كالأعمى والمريض والأعرج، يسقط عنهم الجهاد بالنصّ، وكفاقد الماء أو من يضرّ به استعماله يسقط عنه الوضوء والغسل، وكالقيام في الصلاة يسقط بالعجز عنه، بل يسقط الجلوس كذلك... إلخ. وهو باب لا ينحصر.

وفى سياق الجهاد بالذات يقول الله تعلى: "لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ".                                                     

قال القرطبيُّ في تفسيره عند هذا الموضع: «قَوْلُهُ تَعَلَى: "لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ" الْآيَةَ، أَصْلٌ فِى سُقُوطُ التَّكْلِيفِ عن العاجز، فكل من عجَز عن شيء سَقَطَ عَنْهُ، فَتَارَةً إِلَى بَدَلٍ هُوَ فِعْلٌ، وَتَارَةً إِلَى بَدَلٍ هُوَ غُرْمٌ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَجْزِ مِن جِهَةِ الْقُوَّةِ أَوِ الْعَجْزِ مِنْ جِهَةِ الْمَالِ». اهـ

وفى شرح الخرشيّ على خليل، فى الجهاد: «قَالَ فِى الْجَوَاهِرِ: وَيمْنَعُ مِنْ وُجُوبِهِ بِالْعَجْزِ الْحِسِّىّ وَبِالْمَوَانِعِ الشَّرْعِيَّةِ، فَلَا يُخَاطَبُ مَرِيضٌ وَلَا صَبِىٌّ وَلَا مَجْنُونٌ وَلَا أَعْمى وَلَا أَعْرَجُ وَلَا أُنْثَى، وَلَا عَاجِزٌ عَمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهِ مِنْ شِرَاءِ سِلَاحٍ وَمَا يَرْكَبُهُ وَمَا يُنْفِقُهُ فِى ذَهَابِهِ وَإِيَابِهِ». (3/111).

ومن نافلة الكلام، أن فضل الجهاد فى سبيل الله لا يختلف عليه مسلمان، وأنه ذروة سنام الإسلام، وأن الله تعلى فضل المجاهدين على القاعدين، وأن الشهداء عند الله عز وجل فى المنزلة الرفيعة، لهم أجرهم ونورهم... ومن المعلوم أيضا أن جهاد الدفع فرض على الأعيان، وأنه لا يُشترط فيه شيء من شروط جهاد الطلب، فمن هجم عليهم العدو الكافر تعين عليهم الدفع عن أنفسهم، إن قدَروا، وأنهم إن عجَزوا تعيَّن على من يليهم من المسلمين نُصرتُهم إن استطاعوا أيضا، وأن للمسلمين عند العجز عقدَ الهدنة والصلح مع الكفار، وأن ذلك لا يكون إلا لمصلحة الإسلام والمسلمين، فهو جائز عند الحاجة، من ضعف  وعدم ناصر  وصريخ...

حكم جهاد الدفع فى وضعية البلاد لذلك العهد:

إن قيل إن أهل هذه البلاد هجم عليهم العدو الكافر، أفلَا يكون واجبا عليهم أن يتصدَّوْا له، ويجاهدوه جهادَ الدفع الذي لا يُشترط فيه شيء من شروط جهاد الطلب؟

فالجواب أن هذا هو  واجبهم إجماعا، لو كانوا قادرين على دفع الاحتلال بالقوة، وكذا لو لم يكونوا متقاتلين متحاربين فيما بينهم، مختلفي الأهواء ومضطربي الأحوال، بلا سلطان ولا  أمير يوحِّد كلمتهم - ففاقدُ الشيء لا يعطيه - وإن كان كثير من العلماء لا يشترطون الإمام لجهاد الدفع. بل فى اشتراطه لجهاد الطلب نزاع معروف.

لقد دخل الفرنسيون البلاد وكثير من الحروب القبلية ما زال قائما، فضلا عن آثارها المدمرة التي أنهكت القبائل والإمارات والمجموعات والأسر الأميرية حتى أصبح كثير من العلماء والأعيان يبحثون عن مخلّص يخلّص البلاد والعباد من هذه الويلات، وينقذها من هذه الطامات.

وقد أُثِر عن الشيخ سيديَ بابه نفسِه أنه كان يسأل الله ليلا ونهارا أن يتيح لهذه البلاد قوة توقف نزيف الدماء بين أهلها، وأنه بعد مجيء الفرنسيين ندم على أنه لم يكن يقول فى دعائه: "قوة مسلمة". والحق أن قوة مسلمة مؤهَّلة للقيام بتلك المهمة لم تكن بالموجودة بَداهةً في ذلك الوقت! وقديما أقسم والدُه قبل دخول الاستعمار بدهر، وهو من أكبر دعاة الجهاد: إن الموت ودفع الإتاوة والجزية... خير مما يلقاه أهل الدين الحنفاء من ذلة وهوان:

لا الموتُ خيرٌ والإتاوةُ والجِزَى--من مِثْلِ ذَا مِن ذِلَّةِ الحُنَفَاءِ!

قال الإمام محمد بن أبى زيد القيروانيُّ في "النوادر والزيادات": «قيل لسحنون: فلو نزل العدو بسوسة أينفِر إليهم أهل سفاقس والمنستير، وهم يخافون أن يخالفهم العدو إلى مواضعهم؟ قال: إن خافوا ذلك حذراً،  بغير معاينة مراكبَ ولا خبر، فلهم النفير. وإن اشتد خوفهم مثل أن تنزل لهم مراكب وشبه ذلك فليقيموا بموضعهم». (3/19-20).

وشرحا لقول خليل بن إسحق المالكىّ فى مختصره: «وَتَعَيَّنَ بِفَجْءِ الْعَدُوّ، وَإِنْ عَلَى امْرَأَةٍ، وَعَلَى مَن بقُربهم إن عجَزوا، وبتعيين الإمام. وَسَقَطَ بِمَرَضٍ وَصِبًا وَجُنُونٍ وَعَمًى وَعَرَجٍ، وَأُنُوثَةٍ، وعجْز عن محتاج له...إلخ»،

قال المواق فى التاج والإكليل: «(وتعيَّن بفَجء العدو): ابن عرفة: قد يَعرِض لفرض الكفاية ما يوجبه على الأعيان.

التلقين: قد يتعين في بعض الأوقات على من يفجؤهم العدو.

سحنون: إن نزل أمر يُحتاج فيه إلى الجميع كان عليهم فرضا، وينفر من بصفاقس لغوث سوسة، إن لم يَخَفْ على أهله لرؤية سفن، أو خبر عنها.

(وإن على امرأة): من النوادر: يَخرُج لمتعيِّنه مُطِيقُه ولو كان صبيا أو امرأة.

أبو عمر: يتعين على كل أحد إن حل العدو بدار الإسلام محاربا لهم، فيخرج إليه أهل تلك الدار خفافا وثقالا شبانا وشيوخا، ولا يتخلف أحد يقدر على الخروج من مقاتل أو مُكتَرٍ. وإن عجَز أهل تلك البلاد عن القيام بعدوهم كان على من جاورهم أن يخرجوا على حسب ما لزم أهل تلك البلدة.

وقال ابن بشير: إذا نزل قوم من العدوّ بأحد من المسلمين وكانت فيهم قوة على مدافعتهم فإنه يتعين عليهم المدافعة. فإن عجَزوا تعيَّن على مَن قرُب منهم نُصْرتُهم»ـ (3/348).

وقال أبو الحسن علىّ بن محمد اللخمىّ فى التبصرة: «وقد يتعين الجهاد بأن ينزل العدو بقوم، وبهم قوة على قتالهم، فيجب على من نزل بهم القتالُ، ولا يجوز لهم التركُ ويُلقوا بأيديهم. ويجب على من لم ينزل به العدوّ، إذا كان من نزل بهم غير قادرين على قتالهم، وكان متى نفَر إليهم هؤلاء استنفروهم إلا أن يكون على بُعْد متى نفَروا إليهم لم يدركوهم إلا بعد فُصولهم عنهم...». (3/1341/ط قطر1432ه).

وقال فى الشرح الكبير: «وَتَعَيَّنَ عَلَى مَن بِمَكَانٍ مُقَارِبٍ لَهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوا مَعَهُمْ إنْ عَجَزَ مَنْ فَجَأَهُمْ الْعَدُوُّ عَن الدَّفْعِ عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَمَحَلُّ التَّعَيّنِ عَلَى مَن بِقُرْبِهِمْ إنْ لَمْ يَخْشَوْا عَلَى نِسَائِهِمْ وَبُيُوتِهِمْ مِنْ عَدُوٍّ بِتَشَاغُلِهِم بِمُعَاوَنَةِ مَنْ فَجَأَهُمْ الْعَدُوُّ، وَإِلَّا تَرَكُوا إعَانَتَهُمْ». (2/175).

فترى هؤلاء الأئمة لم يوجبوا القتال على من دهمهم العدو وهم عاجزون عن قتاله، لأن القدرة شرط في ذلك، وفي كل أمر مشروع، كما تقدم. ولكن يتعين في هذه الحال على من يليهم من المسلمين أن ينصروهم إن استطاعوا أيضا. فإن كان يلحق هؤلاء ضرر في نسائهم وبيوتهم، إن نصروا من دهمهم العدو، سقط عنهم، كما قال الدردير هنا في الشرح الكبير.

والواقع أن البلاد المجاورة لموريتانيا محتلة حينذاك، وما لم يُحتل منها بالفعل فهو كالمحتل، وكذا البلاد الإسلامية البعيدة منها.

وفي الحال العادية يجب على من عجزوا عن دفع العدو عن أنفسهم أن ينصرهم من يليهم، كما سبق، فإنْ عجَز أولئك تعيَّن على من يليهم، وهكذا إلى آخر مسلم قادر فى مشرق أو مغرب. فإن فرّطوا أثم الجميع؛ وهذا مما لا شك فيه. ولكن كان لكل بلد يومئذ شأن يغنيه. فالكلام هنا في واقعة معينة محددة بزمانها ومكانها وسائر ملابساتها... لا عن الحكم العام الأصليّ الذى  لا نزاع فيه.

ومن قام بواجب النصرة مخلصا لله تعلى قاصدا إعلاء كلمته وإعزاز دينه وإقامة خلافة إسلامية فى أرضه فهو المجاهد المأجور حقا.

والذى خشيه الشيخ سيدىَ بابه، ليس الجهاد المعجوز عنه فحسبُ، وإنما هو اتخاذ أهل الحرابة والسيبة - الذين استمرءوا القتل والنهب منذ قرون في هذه الأرض السائبة - الجهادَ ذريعة إلى استئصال شأفة المسلمين، بقتلِ من شاءوا وسبي من شاءوا واستباحة أموال من شاءوا، باسم الجهاد، كما صرح بذلك فى رسائله، خصوصا رسالتَه الواردةَ في مقدمة الحلقة الرابعة من هذه السلسلة.

وفعلا حصل من ذلك ما حصل، للأسف.

كما كان على اطلاع واسع على أحوال المسلمين في كثير من الأصقاع، مدركا عجز المسلمين آنذاك عن نصرة بلاده. وهذا ما أدركه بعض من هاجروا واطلعوا على الأحوال ممن كانوا قد خالفوه من قبل، فرجعوا إلى قوله.

فما أفتى به الشيخ سيديَ بابَه من المهادنة وترْكِ الدفع المعجوز عنه آنذاك ليس من الموالاة في شيء، وهو عين ما أفتى به الفقهاء المذكورون أعلاه. وقد أفتى به بعض من جاء بعده كالشيخ محمد الأمين الجكنىّ المشهور بالشيخ آبه ولد اخطورْ، كما سبق إراده في إحدى الحلقة الخامسة، ولعل في إعادة إيراده هنا فائدة للقارئ.

يقول الإمام العلامة المفسر الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار الجكنىُّ  الشنقيطيُّ، في جوابه للسائل عن حكم تولية الكفار المحتلين بلاد المسلمين بعض المسلمين على بعض: «وأما إن كان المسلمون الذين تغلَّب عليهم الكفار لا صريخ لهم من المسلمين يستنقذهم بضمهم إليه, فموالاتُهم للكفار بالظاهر دون الباطن لدفع ضررههم جائزة، لنص القرآن العظيم، وهو قوله تعلى "لا يتخذ المؤمنون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ومن يفعل ذلك فليس من الله في شئ إلا أن تتقوا منهم تقاة"؛ وكذلك توليتهم بعض المسلمين على بعض في الجاري على أصل مذهب مالك ومَن وافقه من أن شرع من قبلنا شرع لنا إن ثبت بشرعنا إلا لدليل يقتضي النسخ... إلخ»[87].

ذِكْرُ  بعض مَن وافق الشيخ سيديَ بابه في فتواه:

هذه قائمة ببعض قادة الزوايا والأفارقة الذين هادنوا الفرنسيين، على غرار ما قام به الشيخ سيديَ بابَه والشيخُ سعد أبيه:

الشيخ سيدي المختار بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديَ، سيدي محمد بن الداه ابن داداه، شيخنا بن داداه، الشيخ سيدي محمد بن الشيخ أحمدُّ بن سليمان، أبو مدين بن الشيخ أحمدُّ بن سليمان، المرابط بن أحمد زيدان الجكني، عبد الرحمن بن محمذ فال بن متالي، امحمد بن أحمد يوره، سيدي الخير بن الشيخ محمد فاضل، ابنا أخويه الشيخ التراد  والشيخ النعمة، يحظيه بن عبد الودود، أحمد بن ألفق (الفقيه) قاضي تجكانت، الداه بن ازياد الجكني، الشيخ الغزوانِي البوصادي، الطالب محمد ابن اخليفه العلوي، أحمد بن محمدن بن حمدى رئيس إدوالحاج، محمذن بن محمد فال ابن العاقل قاضي المذرذره، سنَّاد بن محمدن الديماني، المهابه بن الطالب إميجن الجملي، محمذن فال بن أحمدّ فال التندغي، سيدي محمد رئيس كنتة، محمد محمود الملقب ديده بن محمد محمود بن لمرابط حبيب الله بن القاضي الإجيجبي، قاضي البراكنة، الناجي بن الشيخ محمد فال رئيس إديلك، محمد بويه بن الطالب أبو بكر بن أحمد المصطفى رئيس أهل ولاته، دنان بن أحمد محمد رئيس إديلبه، جماعة أهل ولاته، حسبما كتَب باسمها سيدي محمد بن عثمان، مقدم في الطريقة التيجانية، اكيك بن عالَ، الشريف الولاتي، سيدي محمد بن بولبات الولاتي، محمد الأمين بن عبد الله الولاتي، عمر بن باب بن ألفا أبي بكر دري الحاجي التينمكتي، سعيد بن خداد بن عبد الرحمن البيوط التينبكتي، الشيخ بن سيدي بن بابه التينبكتي، الحاج مالك سي، أحمد مختار ساخو قاضي بوكي، محمد صار تامسير، الحاج أحمد البكري اديالو، الشيخ حال كي التيجاني، الشيخ بقى الله مامادو التيجاني، الشيخ خودجا ادياتارا التيجاني، الشيخ مامادو مورا التيجاني، الشيخ مامادو سيسى القادري، الشيخ أبو كان، الحاج عبد الله انياس...

وفي فترة وجيزة، انضم لهذه القائمة من الزوايا وحسان من لا يعلم عددهم إلا الله، ثم بعد ذلك انضم الجميع للقائمة وخضع للفرنسيين، إلا قليلا ممَّن كان يشعر بأن بينه وبينهم أمرا أخطر من أن يُصطلح عليه، أو مَن طلب مصالحتهم ورفضوها.

وجدير بالذكر أن جميع علماء منطقة "القبلة" الذين عُرضت عليهم فتوى الشيخ سيديَ بابه المذكورة قد سلموها أيضا. وكان الشيخ العلامة محمد سالم ابن عبد الودود (عدود) يقول إنه لا يعلم أحدا من علماء أرض "القبلة" عارض الشيخ سيديَ بابه في موقفه من قضية الاستعمار.

وكان أبناء ما يابى الجكنيون العلماء الأجلاء: الشيخ محمد حبيب الله، الشيخ محمد الخضر، الشيخ محمد العاقب. قد خالفوا الشيخ سيديَ بابه أولَ الأمر، وأفتوا بوجوب الهجرة، وهاجروا بالفعل، ثم راسلوا الشيخ شعرا ونثرا معلنين تصويبهم لرأيه وموقفه، وأنه عين النصيحة للإسلام والمسلمين. وذلك بعد أن عاينوا أحوال العالم الإسلاميّ شرقا وغربا، على ما تقدمت الإشارة إليه.

وكذلك كان الشيخان الجليلان: سيدي محمد ابن حبت الغلاوىّ، الذي خالفه باديَ الرأي، ثم وافقه وصوَّبَ رأيه إثر رسالة وجهها إليه الشيخ سيديَ بابه عارضا فيها خلاصة أدلته. وكذلك العلامة الفقيه عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم المجلسيّ، الذي لم يوافق الشيخ على المهادنة في البداية، لكنه بعد السفر إلى بعض المناطق الشمالية واطلاعه على بعض الأحوال عدل عن موقفه، واستصوب موقف الشيخ سيدىَ بابه.

ونفس الموقف تبناه الشيخ أحمدُّ بمْبا البكي بعد أن كان أبعد ما يكون بالنسبة له، مما أدى بالفرنسيين لتغريبه في الغابون ووضعه في فترة لاحقة رهن الإقامة الجبرية لدى الشيخ سيديَ بابه. والقائمة تطول، كما سيأتي مفصَّلا في محله، إن شاء الله تعلى.

عرض فتوى الشيخ سيديَ بابَه على أقوال العلماء:

كلُّ ما ذهب إليه الشيخُ سيديَ بابه في فتواه بمهادنة الكفار، تهدئةً للأوضاع، وبحثا عن حدّ أدنى من الأمن، وقولِه إن قتال المحاربين أوْلى، إنما كان من باب ارتكاب أخف الضررين، كما نص عليه فى رسائله السالفة الذكر. وتقدير ذلك راجع إلى الاجتهاد والنظر المصلحىّ، كما رأينا.

ومهما يكن من أمر فهناك بعض الملحوظات الواردة حول هذه النقطة بالذات:

أن والدَه الشيخ سيدي محمدا حشر هؤلاء المحاربين مع النصارى، أو الروم، فى خانة واحدة، بجامع أَسْر الدين وتكبيله ومنْع قيام دولته، وأنه أوجب قتالهم بالدرجة نفسها التى أوجب بها قتالَ النصارى. ولا شك أن محاربَ الدين كافر بإجماع:

ولوْ في المسلمين اليومَ حُرٌّ--يَفُكُّ الأَسْرَ أوْ يَحْمِي الذِّمَارَا

لَفَكُّوا دينَهم وحَمَوْه لَمَّا--أرادَ الكافرون به الصَّغَارَا

حُمَاةَ الدين إنَّ الدين صارا--أسيرا للصوص وللنصارى                          

فإنْ بادرتموه تداركوه--وإلا يسبقِ السيفُ البِدَارَا... إلخ

ويقول أيضا إن هؤلاء المحاربين لا يخافون قوةً عند أهل الإسلام ترْدعُهم في الدنيا، ولا يخافون العقبى، فلا سلطان يزَعُهم في العاجل، ولا هم مشفقون من الآجل، وأن ضررهم استطار فعمّ المقيم والمسافر والشّيبَ العاكفين في المساجد والعُونَ والعَذارى من النسوان في البيوت والمَجامع:

لصوصٌ لا تخاف البأس منكم--ولا العُقبَى فترضَى أن تُدارى

ولا ينجو مقيمٌ من أذاهمْ--ولا ابنُ تَنَائِفَ اتخذ السِّفارا

ولا شِيبٌ عكوفٌ في المصلَّى--ولا عُونُ النساء ولا العَذارى...

وما ذكره هنا من انتهاكهم حرمات المساجد صوّره أيضا فى همزيته، وأضاف إليه ترويع المصلين فيها بشهر السلاح في وجوههم، وحملهم على الفرار منها، بل ومنعهم من الصلاة أحيانا حتى يفتدوا منهم بفداء:

وترى جماعة مسلمين بمسجد--شُمَّ الأنوف أعزةَ الآباء

إلى أن يقول:

وَلَرُبَّمَا مَنَعُوكُمُوهَا عَنْوَةً--حَتَّى افْتَدَيْتُمْ مِنْهُمُ بِفِدَاءِ

2- أن تصرفات العصابات المذكورة، عند كثير من العلماء، تعدّ استحلالا للمحرم، لأنها تصرفات متوارثة عبر الأجيال يورثها الأب لابنه، وتنشأ عليها الأسَر، ويتربى عليها الأطفال، ويمجدها القوم، ويعتزون بها، وتقوم عليها حياتهم من كل وجه، حتى أصبحت كالعادات الجارية، فتدخل فى باب استحلال المحرمات القطعية بلا شبهة، فيكفر مرتكبها بذلك. وقد ذهب إلى هذا الرأى بعض الزوايا تصريحا أو تلميحا.

3- أن العلامة سيدي محمد بن سيدى عبد الله بن الحاج إبراهيم العلوىّ حَكَم بكفر تلك الطائفة، فى نظم له شهير.

4- أن حرب شرببه، التي هي أعظم حرب وقعت بين الزوايا وحسان، كانت ذاتَ طابع ديني.

5- أن جميع محاولات القضاء على السيبة قد أخفقت، وأنه لم يُجْدِ فى أصحابها وعظ ولا نُصح، فإما أن يقبل المرء الهوان والجزية، وإما أن يُسفَك دمه وتُسبَى نساؤه وتُنْهب أمواله!

6- أن طائفة من علماء البلد وغيرهم رأت أن قتالهم أولى من قتال الكفار.

وعلى كل حال، فهذه الطائفة المذكورة لا تخرج عن احتمالين:

إما أن يكونوا كفارا حسب ما يرى بعض العلماء  فى ذلك العصر، والجمهور على جواز الاستعانة على قتالهم بكفار مثلهم.

وإما أن يكونوا محاربين، ولم يوجَد مَن يكبَح جِماحَهم ويوقِفُ ضررَهم عن المسلمين، وأهلُ البلد السائب فى حالة ضعف وتفكك، بلا جماعة متحدة الكلمة ولا إمام، مع تعذر الهجرة وعدم الناصر والصريخ من المسلمين، فالاستعانة عليهم بالكفار  عند جماعة كبيرة من العلماء جائزة أيضا للضرورة.

وفى أفضلية تقديم قتالهم على قتال المشركين نزاع بين العلماء، وكثير منهم على أن قتال المحاربين أوْلى. كما تقدم.

فكانت الاستعانة عليهم بالعدو المخالف في الدين على كلا التقديرين، للضرورة، قولا له مستنده الشرعىّ، فضلا عن أن يكون خارقا للإجماع. وما كان كذلك لم يسُغ الإنكار على من أفتى به من المجتهدين، كما هو معلوم. وفي ذلك يقول العلامة محمد حبيب الله بن ما يابى مخاطبا الشيخَ سيديَ بابَه ومصوِّبا رأيه من قصيدة له طويلة فى مدحه بعد ما هاجر:

وليس مُختارُ حبْرٍ لازِمًا عَمَلاً--لِذى اجْتهادٍ رأَى بالشرْع ما فَهِمَا.

بل ذهبت طائفة من العلماء إلى جواز الاستعانة بالكفار على البغاة المتأولين، فى حال الاضطرار أيضا، بشروط وضوابط. والفرق بين الباغية والمحاربين معروف. ولكن ليس الكلام هنا عن تلك الفئة الباغية التى تخرج على السلطان بتأوُّل، إذ لا سلطان فى البلد أصلا حتى يُخرج عليه بتأول أو بغيره. وإنما الكلامُ عن خصوص أهل الحرابة الذين يعيثون فى الأرض فسادا بغية تحصيل المال الحرام كيفما اتفق، ويسفكون الدم الحرام لأتفه الأسباب، بل لغير سبب أحيانا كثيرة، وينتهكون الأعراض، لأن الحرابة هى التكييف الفقهيّ الصحيح للمشكلة المزمنة التي كانت تعصف بالبلد في تلك العهود. وهي منطلق الشيخ سيديَ بابه في فتاواه المتعلقة بالاستعمار، ومناط الأحكام التي أصدرها بهذا الخصوص. وقد خاطبه أيضا الشيخُ محمد حبيب الله بن ما يابى الجكنىُّ، مشيرا إلى عين هذه المسألة، قائلا قبل البيت أعلاه:

وذَا التَّلَصُّصِ جازيْتَ الجزاءَ على--طِبْقٍ،فحَكَّمْتَ فيه السيفَ والقَلَمَا. (يتواصل بحول الله).

 

الشيخ سيديَ بابَه وموقفُه من نازلة الاستعمار (الحلقة السابعة)      (حقائق - تساؤلات - تحليلات - تصويبات - وثائق)

د/ أحمد بن هارون ابن الشيخ سيديَ         [email protected]

الحلقة السابعة

ختاما للمحاور الخاصة بالشيخ سيديَ بابه وموقفه، وتمهيدا للحديث عن الموقف الآخر المناوئ للفرنسيين، مرورا بمَن ذهَبَ أولَ الأمر إلى وجوب الجهاد ثم رأى بعدُ خلافَ ذلك، سيتم الحديث في هذه الحلقة عن بعض الجوانب العَمَلية لموقف الشيخ سيديَ بابَه؛ مع العلم أن هذه الحلقة تكاد في حجمها تضاهي مجموع الحلقتين السالفتيْن، وذلك تعويضا عما كان من توقيف السلسلة أسبوعا كاملا لأسباب صحية.

مقدمة؛
نماذج من شفاعات الشيخ سيديَ بابَه لدى الفرنسيين؛
البعد الأمنيُّ في فتاوى الشيخ سيديَ بابَه وعلاقتِه بالفرنسيين؛
رحلة الشيخ سيديَ بابَه إلى آدرارْ سنة 1909؛
افرانسيس دي شاسي وثروة آل الشيخ سيديَ؛
الشيخ سيديَ بابَه وحملة تكانت سنة 1905؛
الشيخ سيديَ بابَه في الكتابات الفرنسية؛
خاتمة.

كان الشيخ سيديَ بابَه، وغيرُه من القادة المهادنين، يروْن أنهم قد حصَلوا من المستعمر على ضمانات أساسية، تُشكِّل في مجموعها أمانا من الهواجس التي ظلت تساور المجتمع بعلمائه وقادته ودهمائه. بل رأى البعض أن في تلك الضمانات قيمةً مضافةً تمَسُّ حياة المجتمع الدينية والأمنية والمعيشية، ما كان ليحققها بنفسه في المنظور القريب.

وكغيره من قادة المهادنة والإصلاح، كان الشيخ سيديَ بابَه يركِّز على المسألة الدينية وعدمِ التدخل للناس في معتقداتهم وشعائرهم وأقضيتهم المحلّية، مع الالتزام باحترام تقاليد وعادات المجتمع وإكرامِ مشايخه وقادته وممثليه وقبولِ شفاعاتهم. ولما سأله المفاوض الفرنسي عن ذويه وعياله ليعامِلوهم معاملة تفْضيلية، أجابهم جوابَه المشهور: «عيالي هم المسلمون: كلُّ من يقول: لا إله إلا الله، محمدٌ رسول الله». وفي ذلك يقول القاضي القارئ العلامة محمدُ بن محمذن فال الأبياريُّ الأجهسيُّ في إحدى فخرياته:

هل تذكرون معي جوابَ رئيسنا--للحاكم المستعمرِ المَمْقُوتِ

إذْ قال: قَوْمي المسلمون جميعُهمْ--مِنْ غير تمييزٍ ولا تَفْويتِ

وستُبيِّن مراسلات الشيخ سيديَ بابَه مع الفرنسيين جانبا كبيرا من ذلك الاهتمام.

غيرَ أنَّ الشيخ سيديَ بابَه كان يتوقَّفُ ويُلِحُّ، أكثرَ من غيره، على المسألة الأمنية، التي يقول في أكثر رسائله إنه لا صلاحَ لدِينٍ أو دُنيا بدونها، كقوله في رسالته إلى أهل آدرارْ: «هذا وأكثر بلاد الإسلام الآن، والمعتبر منها للدين والدنيا تحت إِيَالة الأمم المسيحية، أين المَفَرُّ، ولا مَفَرَّ لهَارب، ولنا البسيطتان: الثَّرى والماءُ؟! على أن البلاد التي في حماية الأمم المسيحية اليوم هي التي يمكن فيها صلاح دين أو معيشة. ولا عبرة ببقائها سائبة قاحلة معمورة باللصوص المحاربين، لا تأمنُ فيها نفس المسلم ولا مالُه، ولا يتيسّر له فيها عِلمٌ ولا عمَلٌ، ولا يُنَبِّئُكَ مثلُ خبير»[88].

ومن اللافت في هذا المعنى والجديرِ بالذكر، أن أحمدَ بن الأمين العلويَّ، صاحبَ الوسيط، كتَب من المشرق رسالة إلى ابن عمه القاضي العلامة السالك بن بابَه بنِ أحمد بيبه العلويِّ يقول فيها: «أما مَكَّةُ فإن القاطنين بها يتضرعون إلى الله بأنْ يُمَلِّك عليهم النصارى!! لما نالهم من ظلم الشريف. وختَم رسالته قائلا: وأما مصر فإنها تحت حكم الإنجليز، وأهلُها في غاية الراحة والأمن، إلا أن الشريعة فيها تُركت سُدى»[89].

نماذج من شفاعات الشيخ سيديَ بابَه لدى الفرنسيين:

أولُ رسالة كتبها الشيخُ سيديَ بابَه إلى السلطات الاستعمارية الفرنسية كانت مخصَّصة لطلب إطلاق سراح الشيخِ العالم الزاهدِ أحمدُّو بَمْبَا البَكِّي السنغالي، أو إرساله إليه في أبي تلميت وضواحيه، إن كان لابد من تقييد حريته وتغريبه، ليبقى بين يديه وفى ضيافته مُعزَّزًا. وقد غرَّبوه من قبلُ إلى الغابون زهاء سبع سنوات.[90]

ثم انضاف إلى الشيخ أحمدُّو بَمْبَا بعد ذلك كثيرٌ من أهل العلم والرئاسة والعامة. وهذه بعض الأمثلة المشهورة:

1- الشيخ محمد بن عبدالعزيز بن الشيخ محمد المامي، وقصته في ذلك، كما ذكرها العلامة المؤرخُ هارون بن الشيخ سيديَ في الجزء المتعلق بأهل بارك الله من موسوعته التاريخية المسماة: "كتاب الأخبار"، هي كالتالي، مع تصرُّف بسيط:

«قام الفرنسيون مرةً بسَجْن أحد نبلاء قبيلة إديشلي لم يوصل إليهم ما قبض من العشر، فكسر السجنَ ودخل على محمد بن عبدالعزيز، فأرسل الفرنسيون أحد أعوانهم ليأتيهم به، فمنعه محمد بن عبدالعزيز وقال له: ارجع إلى الحاكم وقل له كم يطلب من المال عند هذا الرجل لنقضيَه له؟ فاشتد غضبه وأرسل رسولا آخر من الأسافل ليأتيه بمحمد بن عبدالعزيز نفسه، فلم يتجاسر الرسول على إبلاغ ذلك إليه وقال له إنه يريد الرجل، فكتب محمد بن عبدالعزيز رسالة إلى حاكم أطارْ، مضمونها أن الفرنسيين لم يجدوا أهل بارك الله في أرضهم يُظلَمون فيردوا عنهم، أو يَظلِمون فيردعوهم، وأنه ليس من عادتهم إسلامُ دخيلهم. فازداد غضب الحاكم واشتدَّ وراسل رئيسَه يستشيره في الإيقاع بهذا الرجل الفاضل ابن الأفاضل. لكن محمد بن المختار (والدَ همام افَّالْ)، وهو إذ ذاك ترجمان للفرنسين، وكان في زيارة لآدرارْ مع مودا، نائبِ والي موريتانيا، فعلِم ابن المختار بعزم الفرنسيين على تغريب محمد بن عبدالعزيز، فأسَرَّ للشيخ سيديَ بذلك. فسار هذا الأخير صباحا إلى حاكم أبي تلميت ليجد معه مودا، ولم يزَل به حتى ألغى طلبَ حاكم أطارْ ومزَّق أوراق إدانة محمد بن عبدالعزيز. وبعد مدة أتى حاكمَ أطارْ الأمرُ بترك القضية، فحزن وعاب رئيسَه ونسَبه لقلة العقل»[91].

2- الأمير سيد احمد بن أحمد ابن عيدة، الذي توجد مراسلات عديدة ودية بينه وبين الشيخ سيديَ بابَه، سيأتي بعضها في المحور المخصص للأمير وإمارته. يقول الضابط الفرنسي المترجم بول مارتي: «بعد اعتقاله وسَجنه بداكار... بدأ الأمير الشابُّ يتألم من وضعه ومستقبله الغامض، فبذل الشيخُ سيديَ جهودا لدعمه معنويا وماديا. فكان، مدفوعا بالحس الواقعي، من أوائل الذين نصحوا بإعادته على إمارة آدرار»[92].

3- الأمير اعلي محمود ولد بورْسغ، وهو محمد محمود بن أحمد محمود بن المختار بن امحيميد، صديق الشيخ سيديَ بابَه، الذي سعى بنجاح إلى استرجاعه لرئاسته وبنادقه وخيْله. وقد ذكر هارون بن الشيخ سيديَ في تقييداته الموَّثَّقة أن الشيخَ سيديَ بابَه استبقاه ووَفْدَه تسْعَ ليال ليكرمهم ويجالس كبراءهم، وأن اعلي محمود أهدى الشيخَ فرَسَيْن عتيقتين تسمَّى إحداهما "باجْريْبَ" ورؤوسا من الإبل، معتذرا عن ذلك ومستقلا له، ومؤكدا في الوقت نفسِه، أنهم لم يعطوه لشيخ قبْلَه ولا شريف. وقد بعث له بعد ذهابه إلى الحوض رسالة يقول فيها "إني مبايعٌ لك على السمع والطاعة بما جاء به صاحب الشفاعة". وكتب له في رسالة أخرى أنْ يَعُدَّه "تلميذا طائعا موافقا وصاحبَ غيب حافظا مطابقا".[93]

وأورد بول مارتي، في كتابه حول قبائل الحوض، أن الشيخ سيديَ بابه طلب من الفرنسيين تزويد مشظوف بما يحتاجون من البنادق المتطورة للدفاع عن أنفسهم ففعلوا.[94]

4- الشيخ ولد عبدوكه، من أعيان مشظوف وأبطالهم، وقد حكم عليه الفرنسيون يوم 6 نوفمبر 1916 بالسجن عشْرَ سنوات مع أبيه محمد وأخيه الزوين، فنقلوا إلى مدينة لاكوتا بساحل العاج، حيث توفي محمد والزوين يومي 2 و 12 فبراير 1918، ثم حُوِّل الشيخ إلى سجن بجزيرة كوريه قرب داكار، ليعلم به الشيخُ سيديَ بابَه عن طريق تلميذ له من حراس السجن يُسمَّى Jeans Thiam (صَنك تام)، كان مسيحيا ثم أسلم على يده. فسعى الشيخُ سيديَ بابَه لدى السلطات الفرنسية لإطلاق سراح ابن عبدوكَه، لكنهم قبلوا، بعد لأْي، أن يذهب سنة 1920 إلى أبي تلميت ليقضي بقية مأموريته مُعزَّزا ومكرّما في ضيافة الشيخُ سيديَ بابَه.

5- بيرام ولد اهميمد، أحد رؤساء أولاد أحمد، وقد كان ممن عاهد الفرنسيين وقاد بعض جيوشهم المحلية، إلا أنهم سجنوه سنة 1907 في كولخ إثر مساعدته بكارْ بن احمياده، أمير أولاد نغماشْ على الهرب، فكان تدخُّل الشيخ سيديَ بابَه هو الذي أدى سنة 1908 إلى تخفيف عقوبته.[95]

6- بنْيوكْ بن أحمد بنانْ، من رؤساء أولاد طلحة.

7- محمد التسليمي الغيني، من ذرية كرنْ قُطُبُو (عبد القادر كرن قُطُبُو، تلميذ الشيخ سيديَ)، وكان مسجونا في نُواذيبو.

8- سيديا بن أحمد بن المختار بن قطرب، الأديب، وقد جلا عن الفرنسيين فأخذوه وسجنوه في نواحي تيمبكتو. وقد بعث من هناك قطعا من الشعر  رائقة إلى اعلِي محمود بن لمحيميد المتقدم الذكر[96].

9- عبد الله بن أحمد سالم بن اجكَّان التاشدبيتي، الذي سجنه الفرنسيون في أبي تلميت يوم 12 يوليو 1912.

10- السيد بن المختار بن الطالب وأحمد محمود بن محمد عبدالله بن آكَّه الأبياريان، (من أبناء عمومة الشيخ سيديَ بابَه)، وقد سجنهما الفرنسيون في المغرب، سبتمبر 1912، فعلم الشيخ سيديَ بابَه بذلك وسعى في إطلاق سراحهما ففعلوا.

إضافة إلى مجموعات قبلية كثيرة، ضاقت بها بعض ضائقات التعامل مع الوافد الاستعماري، كما وقع لقبيلة إدكَجْمَلّه من حبس رجالهم في مكان مشمس وأخذ أموالهم بجريرة ماجَرِيَاتِهم مع جيرانهم التركزيين، فقدم في ذلك القاضي العلاّمةُ المهابه بنُ الطالب إميجن، وهو إذ ذاك شابٌّ يطلب العلم في المحضرة، فأنشد الشيخَ سيديَ بابه داليتَه المشهورة، ومطلعها:

مَغْناكِ مَهْدَدُ هَدَّ رُكْنَ تَجَلـُّـدي--حاكِي الوِشامِ منَ آيِهِ المتبدد

في قصة مروية مشهورة، نال إثرَها رجالُ القبيلة خلاصهم وردَّ اعتبارهم وأموالهم.

وقد وفد إلى الشيخ سيديَ بابَه مرةً وفدٌ من أربعين رجلا من شرفاء قبيلة الرقيبات، برئاسة محمد ولد الخليل، إرادةَ إطلاق سراح ما يربو على العشرين من أبناء القبيلة، الذين أسَرَهُم الفرنسيون عند تيشيت. يقول شيخ القصر (لكصر) السابق صيْلة ولد اعبيدة الرقيبي، وقد رافق الوفدَ نيابة عن والده المريض، ولما يتجاوز عمره وقتَها صوما أو صومين: «مكثنا شهرا كاملا في أقصى ما يكون من الإكرام ننتظر الجواب، حتى جاء الخبر ذاتَ صباح بأن الفرنسيين قد قبلوا وساطةَ الشيخ سيديَ بابَه وأطلقوا أَسْرانا جميعا. فودعناه وتزودنا بأحسن الزاد ورجعنا... إلى آخر تلك التفاصيل الشائقة.

وفي الصدد نفسِه، استشفعَ الكثير من المجموعات عند الشيخ سيديَ بابه لرَدِّ مظالم "السيْفات" (Les chefs)، وهم نواب الدولة الفرنسية على القبائل والمجموعات، وقد سامَ كثيرٌ منهم الناسَ خسفا واستغلوا مراكزهم أبشع استغلال. فساعد الشيخ سيديَ بابَه المستشفعين جهدَه وفرَّج الله على يديه كروب الكثيرين منهم، حسب عبارة ابنه العلامةِ المؤرخ هارون، الذي وثَّق كثيرا من ذلك في مَحالِّه.[97]

وبعد وفاة الشيخ سيديَ بابَه بقليل، جاء المستعمر بالشريف القارئ افَّاهْ ولد الشيخ المهدي التنواجيوي ليسجنوه في أبي تلميت، فطلب منهم الشيخ سيدي المختار بن الشيخ سيديَ أن يقبلوا إقامته معه بضمان منه فقبلوا، ليمكث معه عدة سنين معزَّزا مكرَّما.

والحاصلُ، أن الفتاوى الشرعية والمواقف السياسية التي اتخذها الشيخُ سيديَ بابَه وكثيرٌ من المشايخ والأمراء والوجهاء المهادنين، والعلاقاتِ المحترمةَ التي كانت تربط أغلبَهم بالفرنسيين، استطاعت، إلى حد كبير، أن تحُدَّ من سلبيات وقبائح المستعمر البغيض، وأن خلقا كثيرا من الأقارب والأباعد والمهادنين والمقاومين استفاد من تلك العلاقات، كما هو مُدوَّنٌ في الكتابات المحلية والأجنبية والشعرِ الفصيح والحساني، وحُكِيَ في قصص وروايات مُسْنَدة وغير مُسْنَدة وحتى في الأساطير! مما يضيق به المقام. إلا أنه لا يُستساغُ إهمالُنا له ونحن نتناول تلك الحقبة من تاريخنا ونقوِّم مواقف أهلها ونوزِّع عليهم صكوك الإدانة والغفران.

حدّثني الأستاذ الحاج بنُ المصطفى بنِ الشيخ محمدُّو بنِ تَابَّا الحسَنيُّ، أن جدَّه الشيخَ مُحمدُّو ابنَ تَابَّا، كان يقول له ولغيره: «إن ردَّ الشيخ سيديَ بابَه الظلمَ عن نفسِ مسلمٍ  أو عِرضِه أو مالِه، يوما واحدًا، خيرٌ له من عبادة الدهر!».

ويقول الشيخ العلامة المحدث محمد بن أبي مدين، في ترجمة جَدِّه الشيخ سيديَ بابَه: «فهدأت الأحوال بحسْم موادِّ القتال وحفظِ الأموال، وبكثرة وسائل النقل للكتب العلمية والبضائع الغالية من الأقطار النائية، وبتيسُّر الحج إلى بيت الله الحرام بعد أن كان في قطرنا هذا كالمتعَذِّر لِعِظَم المشقة وبُعْد الشّقة (...) فليس يعلم إلا اللهُ تعلى ما حصل بوجاهته عند تلك الدولة من مصالح المسلمين العامة والخاصة، بل صرَّح لهم عند عقد الصلح، حين سألوه عن عياله ليحترموه، بأنه كُلُّ مَن يدين بدين الإسلام. ولم يقبل لهم راتبا ولم يعلِّق لهم وِساما، ولم يقبل لأحد من عياله الخاص أن يتعلم لغتهم، مع شدة حرصهم على قبوله تلك الأمورَ. بل لما حصل مرادُه، وهو أمْنُ البلاد والعباد، تفرَّغ لعبادة ربه ونشْر ِسُنةِ نبيه صلى الله عليه وسلم آناءَ الليل وأطراف النهار، يُطعم الجائع ويسقى الظمآن، ويفُكُّ العاني ويكسو العُريان، ويخلِّص الأسير ويهدي الحيران، قائما للمظلوم مَقامَ عمَر بنِ عبدالعزيز بنِ مروانْ، ولأهل القرآن مَقامَ أُبيٍّ وعثمانْ، ولأهل الحديث مَقامَ أحمدَ والشيخينِ وسفيانْ، ولأهل الفقه مَقامَ مالكٍ والشافعيِّ والنُّعْمانْ، ولأهل اللغة مَقامَ القاموس واللسانْ، ولأهل النحو مَقامَ ابن مالكٍ وأبي حَيَّانْ، ولأهل العَروض والبيانِ مَقامَ الخليل وصاحبِ عقود الجُمانْ».[98]

البعد الأمنيُّ في فتاوى الشيخ سيديَ بابَه وعلاقته بالفرنسيين:

يتبيَّن من خلال آثار الشيخ سيديَ بابَه المكتوبة والمَروية أن أهمَّ هاجس عنده، بعد الهاجس الديني، هو تحقيقُ الأمن وقمعُ الظلم واجتثاثُ جرثومته والقضاءُ على معادن التلصص والحِرابة بشكل متجذِّر وقابل للاستمرار. فكان يرى أن مجيء هذه القوة الأجنبية الكافرة، رغم النفور التلقائي والمبدئي منها، مِنَّةٌ من الله تعلى وفرصةٌ ينبغي استغلالُها لنَشْر "العافية" وحماية الدين والأنفس والأموال في سائر مناطق البلاد.

فما الفائدة من احتلال الحوض والترارزة والبراكنة وبسط الأمن فيها دون باقي مناطق البلاد؟ وكيف يتأتّى تأمينُ المناطق الأولى دون وقف الغارات القادمة من المناطق الأخرى؟

بلْ ما الفائدةُ أصْلا في فتوى شرعية تبيح التعاون مع المستعمر قصدَ حماية الدين والأنفس والأموال، دون أن يبذل صاحبها جهدا ملموسا في سبيل إنجاح ذلك المشروع وحمايته؟ خصوصا إذا ما علمنا أن الفتاوى الموجبة لمقاومة فرنسا ومن هادَنَها، وما حصل عليه المقاومون في خضم ذلك من أسلحة فرنسية وإسبانية وألمانية وعثمانية... كل ذلك سمح بانتهاز بعض المحاربين القدماء الفرصةَ لمواصلة وتطوير مغامراتٍ رهيبة، لم تعُد نتائجها مادية فحسب، وإنما أضيف إليها رصيد معنويٌّ هامّ، يسمى الجهاد والشهادةَ في سبيل الله.

ولا يعني هذا من قريب أو بعيد الإنكارَ أو التشكيكَ في وجود مسلمين قائمين بالجهاد آنذاك مخلصين لله... لكن الإنصاف والموضوعية يستدعيان التذكير بوجود الصنف الآخر الذي لن يغيب عن أذهان الموريتانيين طالَ الزمان أو قصُر. وأخطاءُ وانحرافاتُ القطبين: المقاومِ والمهادنِ ودخولُ الانتهازيين في كل منهما، كثيرةٌ لا تُحصى ولا تُعد.

وتمكن الإشارةُ هنا إلى أن الشيخ سيديَ بابَه، وبعد اتخاذه لموقفه المهادن للفرنسيين، توَصَّلَ، على ما يبدو، برسائل أرسلها بعضُ أهل الطيش والكفاءات القيادية المحدودة، يهدِّدونه فيها بتحالف هذه الإمارات وتلك القبائل ضده، وحشدِ الحشود للهجوم عليه وعلى حضرته وقبيلته من ثلاث جهات وقتْلِ ونهْبِ كُلِّ ما هنالك.

ثم توالت تلك الضغوط والتهديداتُ وازدادت جِدِّيَّةً بعد رفضِ الشيخِ لمراجعة موقفه مع موجة المراجعات التي أعقبت موتَ كبولاني ووصولَ مولاي إدريس إلى مناطق الشمال مع بعض الأسلحة، وإشاعة تَخَلِّى فرنسا عن حملة تكانت - آدرارْ، التي نشرها تُجَّار الرقيق وأسَرُ الهجْن في سانلوي، الذين تراجعت أرباحُهم بسبب ضبط الأمن والحد من الفوضى في الربوع الموريتانية... إلا أن ذلك لم يغيِّر من موقف الشيخ سيديَ بابَه وأسلوبه التقليديِّ ونظرتِه المستقبلية للمسألة، والعملِ على إقناع هؤلاء وغيرهم بالعدول عن حرب محسومة ومضِرّة بهم وبالمسلمين - حسبما يراه هو - مع الإلحاح على ضرورة الرفق بالجميع قدْرَ المستطاع، خصوصا أهلَ المسالمة والديانة منهم... وسيتبن ذلك من خلال ما يتسع له المَقام من مراسلاته ونشاطاته اللاحقة.

رحلة الشيخ سيديَ بابَه إلى آدرارْ سنة 1909:

جاء في كتابي "الأخبار" لهرون بن الشيخ سيدى، و "نيل الأوطار" لعبد الودود بن انتهاه السمسدىّ أن القوات الفرنسية دخلت أطارْ في ذي الحجة من سنة 1326هـ، وأن الشيخ سيديَ بابَه سار إلى هناك في آخر جمادى الأولى سنة 1327، مما يتفق تقريبا مع التأريخات الميلادية الواردة في الكتابات الفرنسية، حيث يذكر غورو، على سبيل المثال، أن الشيخ سيديَ بابَه دخل مدينةَ أطارْ يوم 3 يونيو 1909، وأن القوات الفرنسية دخلت المدينةَ نفسَها يومَ 9 يناير 1909[99]، خلافا لما يذكره بعض مؤرخي نوفمبر من أن الشيخ سيديَ بابَه ذهب إلى أطارْ لدَلاَلة غورو والحاميةِ الفرنسيةِ التي يُخشى عليها أن تضلَّ الطريق!! وقد خصص له أهالي آدرارْ استقبالا حاشدا وحارا[100]. وكان لذلك السفر ثلاثةُ أسباب حقيقية وجدِّية:

السبب الأول: إرسال أهالي آدرارْ عدةَ رسائل إلى الشيخ سيديَ بابَه يسقدمونه فيها. وكان من بينهم مَن يُسْفر عن رغبته في مهادنة الفرنسيين، على غرار ما فعله سكان الحوض سنةَ 1893[101] والترارزة والبراكنة سنةَ 1902 وتكانت سنةَ 1905، مع عدم قدرة هؤلاء المراسلين على إعلان رغبتهم في المكاتبة خوفا من مواجهة إخوانهم المقاومين المتمركزين آنذاك في آدرار وما وراءه.

فقد جاء في مقدمة رسالة الشيخ سيديَ بابَه إلى أهل آدرارْ ما يلي: «مِن سيديَ بن محمد إلى جماعة الإخوان أهلِ أطارْ وغيرِهم من أهل آدرارْ، سلام عليكم. أما بعد، فقد رأيت الكُتب التي أرسلها بعضُكم، وإني قادم إليكم، إن شاء الله تعلى، وساعٍ في نصيحتكم ومصالحكم بقدر الطاقة، مع أني كنت كذلكم. واعلموا أنكم لم تُرْجَ لكم العافية والعِمارة إلا في هذا الزمان، والمصلحةُ تأتي كرها، فقومٌ يُقادون إلى الجنة بالسلاسل. فإن هذه البلاد الصحراوية منذ قرون في سيبة ما كان يُرجى زوالها قبل هذا الأمر، ولا يخفى ذلكم. كما لا يخفى أن ما يُتخيَّل في بعض الأوقات من زوال سيبتها غير حقيقي، إذ لا يرتفع به التقاتل والتناهُب والتظالم، وإن كان في بعضها أكثر منه بالنسبة إلى بعضها»[102].

والسبب الثاني لرحلة الشيخ سيديَ بابَه إلى آدرارْ  أنَّ قائد الحملة الفرنسية، العقيد غورو، أرسل إليه يستقدمه، هو الآخر، سعيا منه إلى خدمة مشروعه المسمى إحلال السلم في آدرارْ (La pacification de l’Adrar)، الذي يلتقي نوعا ما مع ما يسعى إليه الشيخُ سيديَ بابَه والقبائلُ الراغبةُ في تحقيق قدر من الأمن عن طريق مهادنة الفرنسيين.

يقول المؤرخ الأطاريُّ عبدالودود بن انتهاهْ الشمسديُّ: "وفي عام 1326 دخل العسكر الفرنسي آدرار، في الخامس عشر من ذي الحجةْ، فوجدوا الناس في أعلى ما يكون من السيْبة والقلق، ولو جاءهم حاكم غير هذا الحاكم "كلنل"(يعني العقيد) لطاشت عقولهم، ولكن منَّ الله به على عباده، لم يؤاخذ الناس بجرائمهم، وجعل العقاب للعباد في المال دون النفس، وجعل على أهل أطار ْمنه حِمْلَ خمسين بعيرا من التمر (...) فلما لم يكمُل "ألَـمَانْ" (يعني غرامة الحرب) من التمر، وقد حصلت منه نحو عشرين ألف مُد أو أكثر، شرعوا في تحصيل غرامة الغنم، وقد كلفهم بجمع خمسمائة شاة، حتى جمعوها له، فأخرج أهل الحَبس (أيْ الرجال الذين اتخذهم المستعمر رهائن)، وهذا كله قليل في حق أهل السيبة. فلما قُضِي "أَلَمَانْ" وتلاحقت الناس عند القصر (لكصر) وزال عنهم الكرب وتباشروا بالعافية، وجاء من كان مهاجرا من الناس سبايا (...) كل ذلك جاء، وجاءت أبناء غيلان، سيد احمد بن تكدي ومن معه، من جهة وادان، فلم يتم الصيف إلا وأهل آدرار متلاحقون فيه، لله الحمد، واستسلموا للقضاء الذي لا مرد له. وجاء الشيخ سيديَ في الصيف مع بعض الفرنسيين أرسل له الحاكم الفرنسي ليُعلم الناسَ ويُسكن قلوبَهم»[103].

وجاء في مذكرات قائد حمْلة آدرارْ، العقيد غورو ما يلي: «في يوم 21 إبريل (يعني من سنة 1909)، قال لي محمد الأمين ولد زُمزُم: «إنَّ مَن يريد توطيدَ السلام في آدْرارْ، عليه أن يستقدم لهم الشيخَ سيديَ وينصِّب عليهم أميرا من سلالة يحي من عثمان»[104].

ومن اللافت هنا والجديرِ بالذكر، أن محمد الأمين ولد زُمْزُم ومحمد ولد المعيوف، قائدَ أولاد آكشارْ، كانا من قادة البيضان الذين بَهَروا المستعمر الفرنسي. ذلك أنه لما أراد غورو مغادرة موريتانيا وتسليمَ العمل لخليفته في آدرارْ، الرائد اكلودل، وتزويدَه بتعلمياته الأخيرة، أوصاه قائلا: «واعلم أن بلدا يوجد به رجلٌ أعمى يقود الجيوش بكل نجاح، مثل محمد الأمين ولد زُمْزُم؛ ورجلٌ مُسِنٌّ مثل محمد ولد المعيوف، يطلب منك الرجوع في يومين من غزوة تبعد تسعمائة (900) كلم، فذاك بلدٌ لا يمكن تغييرُ عقلياته وعاداته بين عشية وضحاها!».[105]

أما السبب الثالث لتلك الرحلة، فهو توجيهُ الشيخ سيديَ بابَه لمن يستمع إليه هناك أو يقتدي به وتحذيرُهم من خوضِ معركة خاسرة والمواجهة مع مَن لا قِبَل لهم به. (حسبما يراه هو بطبيعة الحال). وإرشادُهم في كيفيات التعامل مع هذا الوافد الأجنبي المخالف في الدين والتقاليد، تفاديا لبطشه. وقد استجاب له، بالفعل، كثير من الناس من مختلِف قبائل المنطقة، كما سيأتي ذِكْرُ بعضه لاحقا إن شاء الله.

ويُذكر هنا أن الضابط الدمويَّ الرائدَ افرير جان كان يتحسَّر في مذكراته على عدم التنكيل بالأهالي هناك، ورفض مهادنة كل مَن سبق له الانخراط فى المقاومة أو إعانتها. وقد شاع ذلك وأهمَّ كثيرا من الناس، كان  الشيخ سيديَ بابَه من بينهم.

"امجيبتْ بابَه من شورْ آدرارْ":

لقد اعتبر بعضُ مؤرخي نوفمبر، المشاركين في إنعاشات ذكرى الاستقلال لعام 2014، أن الشيخ سيديَ بابَه كان جمَّاعَ إِبِلٍ بسيطا، يَنْفِر من أبي تلميت إلى آدرارْ  لدلالة غورو وتحصيل قطيع من مما يسترجعُه النصارى من أيدي المقاومين!! وأنه حصَّل من ذلك ثروةً ضُرِبَ بها المثل في منطقته حتى قيل: "أصَّلْ مَاهِ امْجيبتْ بابَه من شورْ آدرارْ".

وبغض النظر عن مصادر تلك الرواية وذلك الانطباع، إلا أن فيها من النَّكَارات ما لا يخفى ولا يناسب السادةَ المؤرخين ووسائلَ إعلامنا ومستمعيها في الداخل والخارج.

ودون أي رَدٍّ على هذا الكلام أو الدخول في جدل جزئيٍّ بسيط، سيكون من المناسب إكمال الحديث عن تلك الرحلة بتوضيح يسير.

لقد استقبل الشيخ سيديَ بابَه، أثناءَ مُقامه في آدرارْ، عائلاتٍ كثيرةً عَبَّرت له عن رغبتها في الذهاب معه والسكن في حضْرته؛ وكانت من بينهم عائلاتٌ من سكان آدرارْ الأصليين، إلا أن سَوادهم الأعظم كان من عائلات المهاجرين والمقاومين للقوات الفرنسية المحتلَّة، الذين تقطَّعت بهم السبُل ولم يجدوا حِيلة للرجوع إلى أهليهم أثناء عودة "لمحاصر" المشهورة، التي يقول فيها المؤرخ عبدالودود بنُ انتهاهْ:

«وبعد هذا عام مجيء امحاصر آل سيدي محمود وكنته وغيرِهم من الزوايا والعرب عامَ 1324، ويسمى عام اعريكيب، وفيه جاء سيل دون السيل الأول ومكثت لمحاصر في آدرار يظنون أنهم مهاجرون عن النصارى لمَّا بنوا في تجكجه التي هي أرضهم، وأن أهل آدرار عندهم قوة على الجهاد لما سمعوا من الوقائع التي وقعت بينهم، فظنوا أن ذلك واقع عن شيء، وجاءت البراكنه وجاءت تندغه وجميع الزوايا راغبون في الجهاد، واجتمع من هذا خلق كثير (...) فلما لم يروا شيئا من علامات الجهاد ووقع حصار دار تجكجه ولم يحصل لهم عندها إلا موت ذلك العدد من الفتية الذين يأخذون خيولهم بركابها كأنهم يقتحمون شيئا يمكن برازه وهم مبارزون لحائط القلعة، وذلك نعوذ بالله، لم يقع إلا في نوفل بن عبد العزى يوم الخندق. وأما "لمحاصر" فإنهم لما فات يوم الدار وما بعده ولم يجدوا في آدرارْ ما يعهدونه في أرضهم رجعوا قاصدين لبلادهم وكاتبوا النصارى».[106]

ويقول النقيب غاستون دوفور: «لم يصمد التجمع الذي تكوَّن حول الشريف مولاي إدريس، خصوصا بعد معركة النِّيمْلانْ، أمام الفشل الذي أصابه عند تجكجه. لجأ المنشقون إلى آدرارْ، لكن اتفاقهم مع قبائل هذه المنطقة لم يدُم طويلا؛ ثم أقنعتْهم المجاعةُ خاصةً، رويدا رويدا، بالرجوع إلى ميادين ظعنهم المعتادة، إما بتقديم طاعتهم إلينا مباشرة، أو بالتسرُّب داخل المجموعات التي سبق أن خضعت لنا».[107]

لكن العائلاتِ المذكورةَ أعلاه، لم تجد سبيلا للرجوع إلى أراضيها، بل إن كثيرا منها فقد رجاله. وكان عددهم، إلى جانب أُسَر آدرارْ، مائةً وستين (160) أسرة بالضبط، كما حدَّثني الشيخُ العلاَّمةُ إبراهيم بنُ يوسف بنُ الشيخ سيديَ روايةً عن الأستاذ المؤرخ سداتْ بنُ محمد بن بابه بن الشيخ المصطفْ بن العربى الأبيارىّ. وكان الاعتقاد السائد أنها مائة وخمسون أسرة.

ولمَّا لم يجد الشيخُ سيديَ بابَه ما يكفيه من الظَّهْر لحمل تلك الأُسَر إلى أبي تلميت، أهداه أهلُ آدرارْ نَعَمًا كثيرا، زيادةً على ما أهدوه قبلُ من نخيل في تلك الرحلة وفي رحلة أخرى سبَقتها، وأهدوْه قبل ذلك لأخيه الشيخ سيدي المختار، وأهدوْه قبل ذلك كله للشيخ سيديَ الكبير، والكُلُّ موَّثّقٌ أحسنَ توثيق ومعروف لدى الجميع. حينَها قامت الدولة الفرنسية، ممثَّلَةً في العقيد غورو، بإهداء الشيخ سيديَ بابَه قطيعا من الإبل إسهاما منها في تلك العملية الإغاثية المشهودة. لكن رأسا واحدا من تلك الإبل لم يبق في ذمة الشيخ سيديَ بابَه، بل وزعها على تلك الأسر وحملهم على ظهورها إلى أبي تلميت، وهؤلاء القادمون هم المعروفون بـ "الذريرة". وأمرهم مشهور جدا.

حتى إن بعض النبهاء الاجتماعيين من طلاب معهد أبي تلميت الإسلامي، أمثال الوزير الكاتب محمد محمود بن ودادي، ما زالوا يتحدثون عما لاحظوه بعد ذلك بنصف قرن من تأثُّر خريطة أبي تلميت الديمغرافية والاجتماعية بذلك الركب.

وحتى لو افترضنا أن ذلك القطيع مسترجَع أو مغصوبٌ من جيش مؤتة أو من محضرة الحاج بن فَحْفُو، فالأحرى بصاحب المقولة أن ينظر في أبواب حجب الذمة خصوصا ذِمَّةَ الحاكم، مبايَعا كان أو متغلِّبا.

والحاصل، أن "امجيبت بابَه من آدرار"، كان من المعلوم والمتواتر، إلى نهاية نوفمبر 2014، أنه إنما جاء بِكَمٍّ من الناس لم يَرَ أهل المنطقة مِثله في ركب واحد، فانطلق المثَل. وقد ورد آنفا أنها مائة وستون (160) أسرة، يضاف إليها الأفرادُ العُزّل، من نساء ورجال، وكثيرٌ منهم معروف بالاسم إلى اليوم، كما يُضاف إلى ذلك كلِّه مَن يرافق الشيخَ مِن الرجال ذهابا وإيابا، والإبلُ التي تحمل الزاد. والله أعلم.

هذا ومن الشائع في كتابات ومرويات علماء وأدباء المنطقة، أن الشيخ سيدى بابه ورث عن أبيه ألف ناقة، وأن جَدَّه كان ينحر كل ليلة ناقة أو جملا لإكرام الضيوف وإطعام الناس، وأن أباه ضاعف العدد فصار ينحر ناقتين طيلة السنة الواحدة التى عاشها بعد أبيه. وقد جاء رجل إلى الشيخ سيديَ بابَه يشكو ديْنا وعيالا، فقال له: "إذا غربت الشمس فتلقَّ لقاحنا وخذها برُمَّتها"، وكانت سبعين من العُوذ المطافيل. وقد أجمع العارفون به من العلماء والثقات أنه لم يخرج فى حاجة دنيوية محضة أبدا![108]

وحتى لو تعلق الأمر بجلْب خيرات تستحق الانيهارَ وضربَ الأمثال، فإنه لا يستغرب ذلك غيرُ الجاهلين بما يربط سكان المنطقتين من معاملات وعلاقات، خصوصا الشيخَ سيدي بابه وأسلافَه بولاية آدرار. فقد رجع هارون ابن الشيخ سيديَ إلى كثير من الوثائق التي تكشف عن غزارة وتنوُّع المعاملات التجارية بين عائلات آدرارْ وتلاميذ الشيخ سيديَ الكبير، من سُلفة وقروض ومُؤَن. كما ذكر سيلا جارفا من هدايا أهل آدرار على العموم لتلك الأسرة على مر الزمن، حتى إنك ما كنت تجد "زريبة" من نخيل السماسيد الشرفاء إلا وبها على الأقل نخلة مهداة لها، متروكة على ذمتها في محلها[109]. وما زالت شواهد كثير من ذلك قائمة، رغمَ عاديات الزمن والإهمال.

افرانسيس دي شاسي وثروة آل الشيخ سيديَ:

انطلاقا من رواية مؤرخي نوفمبر حول "امجيبتْ بابَه من شورْ آدرارْ" المذكورة أعلاه، وبناءً على تقرير لأحد وكلاء الإدارة الفرنسية الذين عملوا في المذرذرة وأبي تلميت، يسمى بول ديبيي (Paul Dubié)، يقارن فيه بين ثروة عبدالله بن الشيخ سيديَ وثروة الأمير أحمد ابن الدَّيْدْ، أوْرده الكاتب اليساري المعاصر افرانسيس دي شاسي (Francis de CHASSEY) في كتابه: موريتانيا 1905–1975، لوحِظ أن بعض الإخوة المستترين في المواقع الاجتماعية وراء أسماء مستعارة قصدَ التحامل الشخصي المباشر على أقطاب المهادنة، خصوصا الشيخَ سيديَ بابَه وأهلَه، قاموا بتوظيف ذلك كله توظيفا سلبيا، وبَتْرِ فقرات منه لتقديمِ ثروة عبدالله بن الشيخ سيديَ وعائلِته على أساس أنها من امتيازات الاستعمار الفرنسي، بما في ذلك أراضي شمامه ونخيل آدرارْ المتوارَثيْن من عهد الشيخ سيديَ الكبير (1190-1284هـ/1776- 1868م) ومن عاصره من العظماء كأحمدو ولد آغريشي  واعمر ولد المختار وابنِه محمد الحبيب وأحمد ابن عيدة.

إن هؤلاء الإخوة المتحاملين لا يظنون أن تاريخ البلد الطويل، المملوءَ علما ومجدا وشرفا، قد سبَق مجيء المستعمر إلى البلاد، وأنه يتَّسع لمشايخ وأقطاب المهادنة والمقاومة معا، والزوايا وحسان والمشايخ وغير ذلك من الثنائيات السطحية التي يريدون إعادة اصطناعها اليوم.

فعلى الرغم من كون عمل دي شاسي المذكور بسيطا، يُظهر فيه كاتبُه شخصية اليساري الثائر على الإقطاع حسب موضة ذلك الزمن، إلا أنه لم يأت بشيء مما أورده النشطاء المذكورون[110]، وإنما أورد تلك الثروة، دون القول إن فرنسا هي مصدرها، إلا ما كان من الراتب السنوي المخصص للشيخ عبدالله، كغيره من الرؤساء العامِّين (Chefs généraux) والرؤساء الفرعيِّين (Chefs de fractions) لجميع قبائل البيضان التي خضعت كلها لسيادة فرنسا، اما إسبانيا، فإنه من المعلوم أنها كانت تدفع لمجنَّدِيها المحليين ضعفَ رواتب إخوانهم المجنّدين من قِبل الاستعمار الفرنسي. لقد كان كلُّ رئيس قبَلِيّ يحظى براتب فرنسي شهري ونسبة من الضرائب المَجْبية على قبيلته أو فخِذه. وكان ذلك فخرا وامتيازا لا يتنازل عنه متنازل من البيضان أبدا، وربما سبَّب خلافا شديدا معلوما بين أبناء العمومة.

ولم يلاحظ هؤلاء القراء، أو لم يذكروا، ما أورده الكاتب نفسه في نفس الفقرة من أن الشيخ عبدالله كان يحصل خلال ثلاثة أو أربعة أشهر فقط على 300.000 أو 400.000 فرنك إفريقيي من هدايا تلاميذه في غامبيا والسنغال وغينيا، مما يضاعف عدة مرات 2600 فرنك التي تشكل الراتب الفرنسي السنوي، المحدد سلفا لكل رئيس قبيلة، حسب عدد أفرادها. وقد ذكر دي شاسي نفسه أن عدد أفراد قبيلة أولاد أبيري قد وصل آنذاك (سنة 1944) إلى أحَدَ عشر ألف (11.000) شخص[111].

هذا مع العلم أن بعضا من أشقاء عبدالله بن الشيخ سيديَ، كأحمد وإبراهيم ويعقوب، الذين لم يباشروا المعاملة مع الإدارة يوما ولم يحظوا منها بامتياز، كانوا يملكون من الأموال، خصوصا المنقولة، ما هو أوفر مما يملكه عبدالله ممثل القبيلة كلها والمجموعات المتصلة بها لدى الإدارة الفرنسية. بل إن الشيخ سيدي المختار ابنَ الشيخ سيديَ كان أغنى بكثير من أخيه الشيخ سيديَ بابَه المباشرِ الأول لتلك العلاقة، مما يكفي لرد تلك الشبهة.

ولا شك أن الكلام المفصَّل عن الثروات والممتلكات والاهتمامَ الزائدَ بالتحصيل لم ينتشر في مجتمعنا إلا منذ عهد قريب، لله الحمد!

وقد غاب عن الكل أن السياق الذي أجري فيه بول دبيي مقارنته بين ثروتي كل من عبدالله بن الشيخ سيديَ والأمير أحمد ابن الديد وجَلَبها دي شاسي في كتابه هو تسليط الضوء على استفادة "الزوايا" من الاستعمار أكثر من "حسان". وقد خفي على هذين الكاتبين أن هذه المقارنة ليست في محلها، لأن قبائل حسان كانت إلى عهد غير بعيد تستنكف عن جمع المال. بل ربما رآه بعضهم منقصة.

أما الشيخُ سيديَ بابَه، فقد سبَقت الإشارة إلى رفضه كُلَّ راتب ووِسام فرنسي. وكان يرفض هديتهم أولَ الأمر، بل كان هو الذي يعطيهم الحلائب والذبائح والركائب... إلى أن أسَرَّ إليه يوما محمد ابن أبي المقداد، قائلا: «إذا بقيتَ، يا شيخُ، على هذا النهج، ترُدُّ لهؤلاء الملوك هداياهم، فسيشعرون بالإهانة ويشكون فيك، ولن تجد فيهم، حينَها، الآذانَ الصاغيةَ لما تصبو إليه من شفاعات وتوجيهات ومصالح وتقدير».[112]

الشيخ سيديَ بابَه وحملة تكانت:

قبل سفَره إلى آدرارْ بخمس سنوات، وتحديدا في يناير 1905، أراد الشيخُ سيديَ بابَه أن يسافر إلى تكانت للأهداف نفسِها. لكنْ، ونظرا للخريطة الجغرافية والقبَلِيَّة والأمنية الصعبة على امتداد طريق أبي تلميت - البراكنة - تكانت، قال له ابنُ عمه شيخُنا بنُ دادَّاهْ: "أما أنت يا شيخُ فإن في ذهابك مخاطرةً كبرى نحن في غنى عنها، لكن ها أنا وأخي المختار ننوب عنك فيما تريد"، وكانا على حظ وافر من العقل والفروسية والاستقامة، فاقتنع الشيخُ سيديَ بابَه بكلامه وائتمنه على المهمة، وأرسله على رأس فرقة رمزية تتألف من نحو ثلاثين شخصا من أبناء قبيلته وأتباعها، ضمن جيش ضخم يحوي الكثير من الضباط وضباط الصف المتخصصين المدججين بالسلاح. وقد أوصى الشيخُ سيديَ بابَه مبعوثيه بوصاياه التقليدية المعروفة: أن يبلغوا فتواه ورأيَه لكل مهْتمّ.

وصلت الحملة إلى تكانت مرورا بالبراكنة، يوم 22 فبراير دون أن يواجهها أيُّ قتال أو عرقلة تُذكر. وفي يوم 25 مارس أرسل كبولاني فرقة عسكرية تتكون من 160 شخصا برئاسة الرائد افريرجانه، من أجل تفريق جيش الأمير بكَّارْ وإبعاده أكثر عن تكانت؛ فلم يلحق بهم ذلك الكوماندو إلا يوم 13 إبريل عند بوكادوم في أفلَّة، حيث باغتهم افرير جانه وأطلق عليهم نيرانا كثيفة، فقتل الأمير بكَّارْ، الذي كان يتمنى الشهادة، وفرَّ جيشه، لتقوم جماعته وغيرها بمكاتبة الفرنسيين، بمدة قصيرة بعد ذلك، تحت قيادة أبناء بكار... إلى  آخر تلك الأخبار المعروفة.

يقول الشيخ سيديَ بابَه: «وآخر حروب بَكَّارْ حربُه مع الفرنسيس التي قُتل فيها، وهو شيْخٌ كُبَّارٌ قد حَلَب الدهرَ أشْطُرَه وذاق عُسْرَهُ ويُسْرَه، بأيدي جيش "كماندا فريرجان" في أرض "أفلَّه"، وكان يتمنى ذلك. حدثني صاحبنا الرِّضى الثقة المشاركُ التقيُّ محمد بن سيدي قاضي أولاد بوسيف من كنته، قبل موت بكار بنحو عامين، أنه سأله عن رؤيا ذكر أنه رآها، ثم قال له إنه عبَرها لنفسه بذلك. وذكر لي رجل من إيداوعيش يقال له كوره بن التوتاي، قبل موت بكَّارْ بنحو ذلك، أنه كان يــتمناه. ويقول إنه نال حظا من الدنيا ولم يبق له أربٌ إلا في هذا الأمر»[113]

هكذا صوَّر الشيخ سيديَ بابَه نهاية الأمير بكَّار، بإشارة لطيفة دقيقة إلى استشهاده في سبيل الله، انطلاقا من حسن الظن بنِيَّته وتأوُّله ورغبته السابقة في خاتمة حسنة، بعد أن أمضى عمره في الحروب مع أبناء عمه وجيرانه من اشراتيتْ وكنتة وأهل سيدي محمود وأهل آدرارْ وغيرهم. هذا مع العلم أن إشارة الشيخ سيديَ بابَه إلى استشهاد بكَّارْ وردت ضمن هذه الرسالة التي كتبها للفرنسيين بناءً على طلبهم نبذةً عن تاريخ البلاد!

كان المختارُ بن داداه ومعه تسعة عشر رجلا من قبيلته ضمن كوماندو مؤلَّف من 160 رجلا من مختلِف القبائل، انطلق من تجكجه لإبعاد جيش بكَّارْ أكثرَ وجعْلِه خارج وضعية الهجوم على تكانت عموما وتجكجه خصوصا. وذكر افريرجانه في مذكراته أنه لما عرف مكان جيش بكَّارْ وقرَّر مهاجمته بغتةً، لاحظ أن أولاد أبييري لم يكونوا مرتاحين لاقتراب الصدام مع الأمير المشهور، إشارةً إلى تقاعسهم أو خوفهم من جيش بكَّار، مع أنه كثيرا ما أشاد بعد ذلك بشجاعة وشهامة المختار بن داده. فلعل هذا الأخير تعمَّد التقاعسَ بمن معه من أهله عن مهاجمة الأمير بكار، التي ليست من أهدافه التي جاء بها.[114] أما أخوه شيخُنا، فإنه لم يبرح مدينة تجكجه منذ وصولها.

وقد وقف المختار بن داداه المذكور أمام بيت الإمارة وقال لأخوات الأمير كلمته الشهيرة بُعيْد معركة بوكادوم: «يا بنات امحمد شيْن، مُخاطبُكنَّ اسمه المختار ولد داداه. أخبُركن أن هذا الجيش ليس فيه من أولاد أبييري سوى الواقفين أمامكن، وهذا أول قدومهم إلى الحِلَّة والسلام»[115].

أما محمد ولد اللَّبّْ الدَّماني، فقد ذكر الأستاذ الطالب اخيار بن الشيخ مامينا روايةً عن الأمير عبد الرحمن بن بكار بن اسويداحمد، أنه هو الذي ضلل الفرنسيين حين وجدوا بَكَّار جريحا، قائلا لهم: «هذا شريف مع أهل اسويد احمد، ولا حاجة لكم بقتله»، فتركوه وانسحبوا[116].

القوانين الحربية السائدة بين الإخوة أيّامَ الاستعمار:

إن مَن يقرأ شيئا من الوثائق المتعلقة بتلك المرحلة بإمعان يدرك أن نازلة الاستعمار وما تلاها من مواقف متباينة ومواجهات دامية واستهداف الأخ لأخيه والعالمِ للعالم، شكّلت فتنةً عظيمة لم يسبق لها مثيلٌ في هذه البلاد، وأدخلت الأهالي في جوٍّ أشبهَ بالحرب وقوانينها التي لا ترحم.

فلا تكاد أيٌّ من اليوميات الحربية لذلك الزمن ولا تقريرٌ ولا مذكرات، ولا أيُّ مؤلَّفٍ آخر، يخلو من ذكر إعانة هذه القبيلة للفرنسيين على جارتها وغريمتها القديمة بالأخبار الدقيقة الحاسمة والزاد والجيوش والدَّلالة المصيرية... بل إنك ترى هذا الأمير أو هذه القبيلة تكاتب الفرنسيين بناءً على عَدائها لأعْدائها، حتى إذا كاتبها أعداؤُها نفروا وقاوَموا، والعكس صحيح. والأمثلة كثيرة موَّثقةٌ بالأسماء والأيام والساعات.[117]

وسيجد القارئ أن الشيخ سيديَ بابَه، في بعض مراسالته مع الفرنسيين، يشكو إليهم العصابات والمجموعات التي تنزل بساحته أو تتأهب للإغارة على حضرته من أجل القتل والنهب والسبي ويطلب منهم رُخص شراء السلاح للدفاع عن النفس والحضرة والقبيلة.

كما تجده هو والشيخ النعمة بن الشيخ التراد والعلامة المرابط بن أحمد زيدان، وكثيرين غيرَهم، يدْعون لنُصرة الفرنسيين وإعانتهم في مهامهم -التي يسمُّونها إصلاحية- ويشككون في نيات بعض المقاومين ويسفِّهون أحلامهم ويتهمونهم بجهل شروط الجهاد ويحذرون الأتباع والمقتدين من الاغترار بدعاياتهم.[118]

وفي الطرَف المقابل، تجد الشيخَ ماءَ العينين والشيخَ مربيه ربه ومحمد العاقب بن ما يابابى وغيرَهم، يكفِّرون ويفسِّقون كل من تعامل مع الفرنسيين أو رضي بالبقاء في أرض تحت مظلتهم ويصفونه بالإلحاد والنفاق ويُحِلُّون قتله ونهبَ ماله وانتهاك حرمته.[119]

ولما رجع الأمير أحمد ابن الدَّيد عن رأيه الأول وكاتب الفرنسيين، بدأ مباشرةً يطارد غزاة الطرف الآخر ويسترجع منهوباتهم إلى أهلها، وهو الذي غزا سنة 1911 إلى جانب الفرنسيين يومَ تِيشِيتْ حيث تمكَّنوا، بفضل وجوده مع مجموعة مختارة من أبطال أولاد امحمد (لعْلبْ)، مِن أَسْر الأمير سيد احمد بن أحمد ابن عيدة. كما شارك أحمد ابن الدَّيدْ في حملة موري (Mouret) التي دُمِّرت خلالَها قصبةُ أهل الشيخ ماء العينين في السمارة سنة 1913.[120]

وما إن عدَل العلاَّمةُ سيدي مُحَمَّد بن أحمَد بن حَبَتْ عن رأيه الأول القائل بمقاتلة الفرنسيين ومَن معهم والهجرة عنهم، حتى بدأ مباشرة في إعانة الفرنسيين بالأخبار الهامة المتعلقة بخطوات جيشين كبيرين من جيوش المقاومة[121]... وما ذاك إلا دفاعا عن النفس وليقين كل طرف باستهداف الطرف الآخر له، في نفسه وعرضه وماله.

وفي الحوض كان محمد ابن عبدوكَه المشظوفي وابناه الشيخ والزوين قد كاتبوا الفرنسيين أولَ أمرهم، ثم نشِب خلافٌ بينهم مع محمد المختار بن محمد محمود، رئيس قبيلتهم، أدى إلى مقاومتهم للفرنسيين ومعاداة من يعاهدهم، مما انجرَّ عنه استهداف متبادَل ونزاعٌ مسلح بين الأهالي. وقُل الشيءَ  نفسَه عن دَشَقَ بنِ سيدِي وعمِّه حَننَّا بنِ الشيخ بن سيدِي[122].

وما إن يُقتل بعضُ القادة المقاومين أو تُهزم جيوشُهم حتى تدخل القبيلة والمجموعة في سلك الخاضعين، وغالبا ما تشرع بعد ذلك في الهجوم على أعدائها السابقين أو اللاحقين.

يقول الكاتب والدبلوماسي أحمدُ بنُ سيدي بن حننَّا: «أولُ شيء نلحظه من خلال قراءة الأحداث والتداعيات اللاحقة، أن الموريتانيين تصدّوا للتدخل الفرنسي وقاوموه بكل الوسائل المتاحة في سبيل منعه من دخول البلاد، لكنْ دفاعا عن المهابة والموْطِن وتشبُّثا بحرية التصرف و"فحولة القرار" والحكمِ بما يشتهون دون معقِّب، وعندما اقتنعوا بأن طريقتهم تلك، تسير نحو "الاتجاه المعاكس"، توقفوا  ومدوا يد المبادرة لإبرام معاهدات صلح، وعقْدِ صفقات سلم، تضْمن لهم الحد "الأقصى" من المكاسب قبل فوات الأوان، رغم بغضهم الشديد لهذا المحتل والملة التي يحملها، فقد ساوَرَهم القلقُ منه وما يوفِّره من سلاح متطور.

وعندما صالحوا وهادنوا، استمروا في نفس الدرب -معكوسا- يحاربون "جنسَهم" المتطاولَ عليهم الطامعَ في المس منهم ومِن كسْر هَيْبتهم أو بمن يحتمي بهم، أو بمن تعاهدوا معه، مهما كان مذاقُ ذلك علقما وطعمُه كريها، وشكَّلت مجابهتُهم تلك لأبناء جنسهم مادة عند مَن تحدَّث عن هذه الظاهرة -الحرب ضد الاستعمار والمقاومة الوطنية- فلم يكن الصراع يدور بين الغازي والأهالي، وإنما بين السكان أنفسهم، أهل الفضاء الواحد وأصحاب الملة المشتركة»[123].

وربما نجد اليومَ اجترارَ تلك المواقف نفسِها، من خلال ما يستشري من دعايات ملحمية وتحامل المتَغنين بأمجاد هذا الطرف على الطرف الآخر.

لقد كانت فتنة كبرى وجوًّا مشحونا بالقلق والرعب المتبادَل بين الإخوة والأحبة والجارِ ذي القربى والجار الجُنُب، مما يتعَيَّن اليوم أخذه مأخذَ التاريخ والثقافة العامة لا أكثر، بل نأخذه بشيء من المرح والودّ، كما يفعل اليومَ بعضُ شباب "لعلب" و"أولاد اللَّبّْ" القبيلتين المتجاورتين المتصاهرتين والمتصارعتين تقليديا، أيامَ الاستعمار وقبلَه.

إنه قانون أبسط وأصعب من أن يتصوره أجيال اليوم دون الغوص في الوثائق والكتب على اختلاف مشاربها وآرائها. فهل نبقى نحن، أجيال اليوم، نحْمل ذلك التاريخ محمل التعصُّب والزبونية والتوظيف السياسوي والانتقام، ونتناوله بالأساليب الملحمية والانتقادات السطحية والمجاملات المفرطة التي لا تولِّد إلا ردات فعل سلبية لا أول لها ولا آخر، مسلحةٍ ببحور من الوثائق والنظريات والانطباعات لا ساحل لها؟ أم نتجاوز ذلك ونعتبره تاريخا ولّى، بما فيه من تعقيدات وإكراهات كُفينا مُؤْنتَها، محاولين استخلاص العبر من ذلك لكتابة تاريخ جامع وبناء مستقبل مشترك؟

إن مَن اطَّلع على مراسلات وزراء خارجية فرنسا وإسبانيا وبريطانيا وألمانيا والمغرب، ونصوصَ الاتفاقيات المقسِّمة للمستعمرات، سيدرك كم كانت الأمور محسومة من فوق رؤوس أهل هذه البلاد المساكين وغيرِهم وهم لا يشعرون. ولذلك لمَّا قيل للشيخ سيديَ بابَه مرَّةً إن أحد الزوايا ينتقد موقفه بشدة مفرطة، قال بالحسانية: «أَلَّا كلّْ امْرابطْ َأكَافَ منْ واحدْ يِكَفّْرُه... اتْغَشْمِي حاجَه».

وسيتبيَّن الواقفُ على مكتبة الشيخ سيديَ بابَه أنه كان يتلقى، قبلَ الاستعمار وبعدَه، كثيرا من المراسلات المملوءة بالمعلومات وأخبار البلاد المجاورة وغيرها؛ فكان ممَّن راسلوه من خارج موريتانيا: أبو شعيب الدكالي ومحمد بن محمد التادلي الرباطي وأحمد بن جلون ومحمد حبيب الله بن ما يابى وعبدالجليل بن عبدالسلام بن اده المدني وسنبل الحجازي ومحمد بن الأمين بن المختار السالمي وطنا الدارمي نسبا ومحمد محمود بن التلاميد والأسقف هوداس ومحمد الجزولي والسيد بن المختار بن الطالب ومحمد محمود بن آكَّه وعبدالله بن عبدالقادر الشيبي ومحمد بن إدريس القادري الحسَني... إضافةً إلى الرسالة المفصلة الدقيقة المذكورة في الحلقة الرابعة، المجهولِ اسمُ كاتبها. زيادةً على الكتب والمجلات والجرائد التي تصله بشكل دائم.

الشيخ سيديَ بابَه في الكتابات الفرنسية:

سيدرك مَن رأى حجمَ ومحتوى مراسلات الشيخ سيديَ بابَه المذكورة أعلاه، أن ما عبَّر عنه بعضُ الكُتَّاب الفرنسيين من اطلاعه وغزارة معلوماته لم يأت من فراغٍ. مع العلم أن انتقادهم وتسليطَ الضوء على مثالب حلفائهم أكثر من انتقادهم لمناوئيهم وذِكْرِ المهام التي قد يسندونها إلى بعض من لا تُناسب مكانتَه ومستواه. لكنه الاستعمار وقوانينُه والاضطرارُ وأحكامه.

ومن الجوانب العَمَلية لعلاقة الشيخ سيدي بابَه بالفرنسيين، مخاطبتُه إياهم مخاطبةَ الملوك ومجاملته لهم تألُّفا لهم واستنهاضا لهممهم في العدل والتعمير والرفق بالناس، كإشادته بسرعة بريدهم وتطور أسلحتهم، والدعاء لهم بالنصر على أعدائهم الألمان ونحوهم ...إلى غير ذلك مما يدخل فى المجال الدنيوىّ البحت. كما كان يجرى بينه وبينهم النقاش الجاد حول قضايا عقدية وعلمية. ولم يكونوا يحتسبون أنه على اطلاع واسع على جملة من المعارف المختلفة، أو أنه كان يهتم بها أصلا كالعلوم السياسية والقانونية والفلك والصناعات... وقد أثارتهم سعة معارفه ودقة إجاباته وملاحظاته.

ومن المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثنى على النجاشي ووصَفه بالعدل وهو إذ ذاك كافر. كما مدح حسانُ رضي الله عنه جبَلَةَ بنَ الأيْهَم بعد تنصُّره:

إنّ ابنَ جَفْنَةَ مِنْ بَقِيَّةِ مَعْشَرٍ--لم يَغْذُهُمْ آباؤهُمْ باللُّومِ

لَمْ ينسَني بالشامِ، إذْ هوَ رَبُّها--كلا ولا مُتَنَصِّرًا بالرُّومِ

يُعطِي الجزيلَ، ولا يراهُ عنده--إلا كبعضِ عَطِيةِ المذمومِ

والأمثلة كثيرة في السيرة، يضيق عنها المقامُ هنا، وهي مطردة أيضا في مراسلات مشايخ وأمراء المهادنة والمقاومة مع المستعمرين الفرنسيين والإسبان.

لقد كان للاحتكاك الفكري الناتج عن المراسلات المذكورة أعلاه أثره في تقدير بعض المثقفين، من المستعمرين وغيرهم، لشخصية الشيخ سيديَ بابَه. فكتب الفرنسيون حوله كتابات كثيرة، لا يمكن الجزم بأنها تضاهي في حجمها ودقتها ما كتبه فيه العلماءُ والأدباءُ الفصحاءُ والشعبيون، إلا أنها كثيرة وجدِّيةٌ أحيانا. وليست تلك المراجع الأجنبية غربيَّة كلها أو فرنسية، لكن أغلبها كان فرنسيا، كما هو شأن الكتابات التي تناولت المنطقة في ذلك الزمن.

ومن أوصافه التي لا تكاد تخلو منها أيٌّ من تلك الكتابات، سعةُ الاطلاع وصِدقُ الحديث والبعدُ عن المادِّيات، إذ لم يكلمهم يوما في حاجة ماديٍّة متمحضة، كما يصفونه بالوقوف عند كلمته والتحضُّر والنظافة والاتِّزان والثقافة والبُعد عن الحِيَل والخداع.

يقول بول مارتي، متحدثا عن الشيخ سيديَ بابَه: "فهو مفكر فضوليٌّ يهتم بكل شيء، لا بالعلوم الإسلامية التي أصبح معلما لها فحسب، بل بشتى مظاهر الحضارة الحديثة، فكان الفضول يحمله إلى الاهتمام البالغ بالتنظيم الداخلي لفرنسا وطريقةِ عمل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وحياةِ الفرنسيين الاجتماعية والاقتصادية وخاصة الدينية، وعلاقاتِهم بالأمم الأخرى التي كان يعرفها تمام المعرفة. كما حمله الفضول إلى الاهتمام بنشاط فرنسا في شمال إفريقيا وما يحدث في المغرب وليبيا ومصر وفي الشرق من أحداث، وكذلك في إفريقيا الغربية وإدارة الشعوب الزنجية. وكانت هذه الموضوعات محبَّبةً إلى قلبه لا يُفوِّتُ أيَّ فرصة لتناوُلها في نقاشاته»[124].

وعلى الرغم من حقد الضابط الاستعماري الدمويِّ لويس افرير جانه على عموم البيضان، ووصفه إياهم بأبشع الأوصاف، مساويا في ذلك بين مَن المُوالي منهم والمعادي، خصوصا أولَ زمنه قبل أن يبدأ يفهَم ظروفهم وعقلياتهم ويُعجَب بشجاعتهم، وعلى الرغم من خلافه الشخصي مع الشيخ سيديَ بابَه بسبب سوء أدب صدر منه تجاه ابن عمه المختار بن داداه، إلا أنه عبَّر عن مفاجأته وانبهاره ببعض الأوصاف الخِلقية والخُلُقية لهذا الشيخ، قائلا في آخر وصف له دقيق: «لقد تأكدت من ذلك الوقت أن ما يذاع من ذكاء الرجل لا مبالغة فيه... دخل الرجل في حوار علمي مع نقيب الهندسة العسكرية جيرار، متحدثا معه في علم الفلك والفيزياء. فلابد أن لهذا الشيخ تكوينا موسوعيا أو ذكاء خارقا... إلى أن يقول: إنه طراز آخر من الرجال مؤهّلٌ حتى لقيادة البيض هناك في أوربا».[125]

خاتمة:

ما كان الشيخ سيديَ بابَه يُخفي موقفه ولا يتردد في استصوابه شرعا وواقعا. ولذلك، لَمَّا عاد القاضي محمد ابنَ اُوَّاهُ الأبياريُّ من رحلة قادته إلى مناطق أخرى من البلاد، وأخبره أن بعض زوايا تلك البلاد يأخذون عليه أربع مسائل: أولاها قراءتُه لحرف الضاد بمخرج وصِفةٍ مخالفيْن لما يعرفونه؛ والثانيةُ أنه يطيل الصلاة وقد يؤخرها، والثالثة أنه لا يساعد في رد من لجأ إلى الفرنسيين من المماليك إلى مواليهم؛ والرابعة أنه هو الذي جاء بالنصارى إلى هذه البلاد، قال له الشيخُ سيديَ بابَه: «أما أنت فسأجيبك. أما الأولى، فقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في المنام وأخبرني أن الضاد غير المتفشية التي يقرأ بها أهل هذه البلاد ليست فصيحة، لكني لم أعتمد على المرائي، فبحثت في المصادر والمراجع حتى تبيَّن لي عدمُ فصاحتها، وبقيتُ أنتظر الرواية، إلى أن شافهني بها أخي وصديقي محمد فال بن بابه. (يقول بعد ذلك في كتاب له حول الموضوع: "وأما الرواية التي وُعِدَ بها قَبْـلُ فهي ما شافهنا به أخونا الأديبُ العالمُ الثقةُ المحققُ التقيُّ الشيخُ محمد فال بن بابه بن أحمد بيبه العلويُّ حفظه الله وجزاه خيرا").

وأما المَماليك فلم أسع في ردهم لأنهم لم يهربوا أصلا من مواطنهم وأهليهم إلا عن سوء معاملة باديةٍ عليهم.

وأما تأخير الصلاة فإني أشرع أولَ الوقت في التهيؤ لها، "وأنتم في صلاة ما انتظرتموها"،  لكني بطيء التهيؤ، كما أني أرى وجوب إقامة الأركان والتلاوة على حالهما، وتخفيفُ الصلاة المأمورُ به نسبي بعيدٌ عما هو منتشر اليوم من صلاة مفرطة في السرعة.

وأما دخول الفرنسيين، فلن يكون بي من التوفيق والحظ ما يجعلني أنا السببَ في مجيئهم إلى هؤلاء المسلمين المغلوبين المضطهدين المعتدَى عليهم يوميا في دينهم ونفوسهم وأموالهم وأعراضهم. (بالحسانية: ما نَلْحَكْهَ من متْن العكدْ)!

ويضيف الشيخُ سيديَ بابَه: "وكنتُ دوْما أدعو الله سبحانه وتعلى أن يفرج عنا وعن المسلمين في بلاء السيْبة المزمن، ولو بمجيء أمة أخرى تبسط سلطانها على هذه الديار، لكني لم أدع الله تعلى أن تكون تلك الأمة مسلمة؛ فهو تقديرٌ سابقٌ من الباري سبحانه وتعلى، إذْ لا يوجد في الوقت قوةٌ إسلامية قادرة على إنهاء السيبة في هذه الربوع». (يتواصل بحول الله).

 

الشيخ سيديَ بابَه وموقفُه من نازلة الاستعمار (الحلقة الثامنة)      (حقائق - تساؤلات - تحليلات - تصويبات - وثائق)

د/ أحمد بن هارون ابن الشيخ سيديَ         [email protected]

الحلقة الثامنة

سيتم في هذه الحلقة، بحول الله، ذِكْرُ نماذج ومواقف لبعض القادة والعلماء الذين أفتوا أولَ الأمر بوجوب الجهاد والهجرة على أهل هذه البلاد، ثم تبيَّنَوا لاحقا خِلافَ ذلك، فراجعوا بشكل جذرىّ آراءَهم الأولى ومواقفَهم من إخوانهم القائلين بمشروعية مهادنة الفرنسيين ومداراتهم للأسباب والمسوغات المفصَّلة في الحلقات السالفة.

مقدمة:
العلامة سيدي مُحَمَّد بن أحمَد بن حَبَتْ  الغلاوىّ؛
العلامة عبد القادر بن محمد بن محمد سالم المجلسىّ؛
الشريف بن حمادِي بن الصبار المجلسي؛
العلامة محمد حبيب الله ابن مايابى الجكنىّ؛
العلامة محمد الخضر ابن مايابى الجكنىّ؛
خاتمة.

ليس الرأي رأيَ الشيخ سيديَ بابه وحده، ولا رأيَ الشيخِ سَعْدِ أبيه وحده، وليس خاصا بمنطقة دون أخرى، وإنما هو رأي أكثر مشايخ وقادة وقبائل البيضان والسودان، كما سبَق بيانُه. إلا أن مِن هؤلاء مَن أعلنه ومنهم من لم يعلنه؛ ومنهم من اتخذه ولم يَشتَهر رأيُه أو لا يُذكر اليوم؛ ومنهم من أعلنه ثم رجع عنه في ظل الملابسات والترددات الناتجة عن تعقُّد المسألة وصعوبةِ جمْع المعلومات والتصورات الكافية حولها، كالأمير سيد أحمد ولد أحمد ولد عيْدَّه، والزعيمِ الكُنتي محمد المختار ولد الحامدْ، والعلامة الشيخ سيديَ بن الشيخ أحمدُّو بن سليمان الديماني وغيرهم.

ومنهم مَن رجَع بعد حين وكاتبَ الفرنسيين، مثل الأمير أحمد ولد الدَّيْد ومحمد ولد الخليل الرقيبي وأبناء بَكَّارْ ابن اسويدَ اَحمد والزعيمين الغيلانييْن: سيدَ اَحمد بن تكدي، ومحمد ابن بوبوط، والعلامةِ سيدي محمد ولد أحمد ولد حَبَتْ، والعلامةِ عبدالقادر ابن محمد بن محمد سالم المجلسيّ، والشيخ الفتى الطالب اخيار بن الشيخ ماء العينين، والسيد بن المختار بن الطالب بن المختار بن الهيبه الأبيارىّ، وغيرهم ممَّن يصعُب تَصوُّرُ أن يكون رجوعهم بدافع الجُبن أو الطمع أو التقاعس عن الجهاد ونصرة الكفار على المسلمين!

ثم إن المعامَلة المباشرة مع النصارى المستعمرين لم تكن مقصورة في يوم من الأيام على الجانب المهادن للفرنسيين، وإنما كان للطرف الآخر معاملات قديمة وحديثة مع الفرنسيين والإسبان والألمان وأضرابهم؛ وقد سبَقت ذلك كلَّه معاملاتٌ ومعاهداتٌ متينة ربطت بين هؤلاء وبين كبار الأمراء وبعض الزوايا والملاك التقليديين.

وإذا كانت معاملة القادة والعامة مع المستعمر تختلف من شخص لآخر، حسب الظروف والمسؤوليات والتحديات والمؤهلات العلمية والدينية والأخلاقية، فإن المسألة، على العموم، أبسط وأهون كثيرا مما تُطرح به اليوم. إذْ أن من المراكز والمسؤوليات القيادية ما يجر صاحبه تلقائيا إلى التعاطي سلبا أو إيجابا، والتعامل مع مختلِف المجتمعات المحيطة والأمم المهيمنة على الدنيا. «والمرءُ لا يستطيع اختيار جاره»، كما يقول أحد الحكماء.

ويكفي المرءَ في هذا الصدد أن ينظر إلى قيادات وحكومات الدويلات الإسلامية المشتَّتة اليوم. فعلى الرغم من كونها مستقلة نظريا ومَحميةً بقوانين دولية، ولها جيوش وشرطة وميزانيات وخيرات، إلا أن علاقاتها بالدول الغربية والعالم المسيحي، بل وبالعالَم اليهودي أيضا، مُهينة ومُذلة.

وقد وصف الشيخُ سيديَ بابه نفسُه واقعَ الأمة المزريَ بكل مرارة، وأنبأ ذلك الوصفُ عن وعي عميق وحُرقة بالغة وحزن صادق لأوضاع الأمة وتحريف الملة، وعن الارتباط الوثيق بين التمكين وبين العودة إلى المنابع الصافية للدين الحق، فقال: «وقد حادت هذه الأمة، أقال الله عثرتها، عما كان عليه سلفها الصالح، فاتبع الأمراء الشهوات وابتدع العلماء والصالحون البِدع، وطلبوا الدنيا بالدين، وبقيت العامة حَيَارَى لا يجدون مرشدا ولا يهتدون سبيلا، فتخلف النصر عنها وظهر عليها مخالفوها فلا ترى شبرا من الأرض منذ حين فتحه المسلمون، ولا تزال ترى إقليما فتحه النصارى. ولا يزال ذلك ما لم تراجِعِ الأمةُ دينَها وتُخلِصِ اتباعَ سنة نبيها عليه الصلاة والسلام»[126].

العلامة سيدي محمد ولد أحمد ولد حَبَتْ:

من المعلوم أن القارئَ الفقيهَ سيدي محمد ولد أحمد ولد حَبَتْ كان من أول وأشهر العلماء الذين أفتوا بوجوب جهاد المستعمر الفرنسي. لكنْ، ونتيجة لظروف ومسوغات شرعية وواقعية، عاد وكاتب الفرنسيين في يوليو 1909م. وقد كانت بينه وبين الشيخ سيديَ بابَه مراسلاتٌ مملوءة علما وأدبا وحسنَ ظنَ، مع العلم أن جدَّه وسميَّه كان ممن أجازه الشيخ سيديَ الكبير.

جاء في آخر رسالة كتبها الشيخ سيديَ بابَه إلى سيدي محمد بن أحمد بن حَبَتْ لثلاث بقِين من جمادى الآخرة عام سبعة وعشرين وثلاثمائة وألف ما يلي: «وغير مستحيل على الله تعلى وقدرته أن يؤيد دينه بالمخالفين أو يقودهم إلى الدخول فيه، كما فعل بالديلم والسلجوقيين وبني عثمان، والله على كل شيء قدير. وإنه لا يخفى عليَّ أنك لم ترد بهذا الأمر أكْلَ مال ولا اكتسابَ منزلة، ولكن أرى أنك لم تُمْعِن النظر في أحوال الزمان والمكان؛ ومثلُك إن أصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر، والله تعلى يوفقني وإياك وسائرَ  المسلمين، آمين. فأرى أن ترجع عن هذا الأمر وتجعل ذلك قربة إلى الله تعلى، فقد ضاع فيه من دماء المسلمين وأموالهم وحريمهم ما لا يحصى، وإنَّ مثلك مَن نظَر للمسلمين، وقاد العافية إلى المساكين. وقد كلمت نائب فرنسا هنا في أمرك فآمنك ولله الحمد، وأمر أن تأتيه في ثمانية أيام ولا تتأخر عنه، فتلتقيان وتقرران كيفية الصلح والعافية، فأرى أن تفعل ذلك عاجلا، فهو خير في العاجل والآجل إن شاء الله تعلى».[127]

وقد علَّق على هذه الرسالة بعضُ حمَلة الأقلام من المتحاملين القدماء أمثال محمد يحيى بن حبيب الله (ولد بيلاهي)، الذي أفنى جُلَّ عمره وأهدر طاقته وأثبت إبداعَه في محاولة إقناع الموريتانيين والليبيين وغيرهم بعَمالة الشيخ سيديَ بابَه والشيخِ سعدِ أبيه ومعاداتهما للجهاد وحُبهما للكفار وحقدهما على المسلمين وعقوقهما لآبائهما، قائلا: «هذه رسالة من الشيخ سيديَ بابَه إلى السيد العالم المجاهد سيدي محمد بن حَبَتْ يطالبه فيها بالتخلي عن الجهاد والالتحاق به من أجل إبرام الصلح بينه مع النصارى». وذلك في أحد ملاحق كتاب له نشرته مؤسسة الشيخ مربيه ربه لإحياء التراث والتبادل الثقافي سنة 2006م؛ سماه: "الحركة الإصلاحية في بلاد شنقيط (موريتانيا) بين الاستجابة للاستعمار الفرنسي ودفاعه من خلال بعض الفتاوى والوثائق".

إن مثل هؤلاء الكُتَّاب لا يتهمون الشيخ سيديَ بابَه ومَن حذا حذوَه بمعاداة الجهاد والمجاهدين وتثبيط همَمِهم، بقدر ما يتهمون هذا القارئ العالم وأضرابَه بالسذاجة والتولي عن الجهاد وسوء الخاتمة وغير ذلك من الموبقات... وكذلك يفعل مؤرخو نوفمبر بأحمد ابن الديد وأبناء بَكَّار ومحمد ولد الخليل وغيرهم من عشرات الأمراء والأبطال الذين يذكرون نُتَفا من تاريخهم ويتركون جُلَّ أعمارهم تذهب سُدى، كأنما يقولون لهم: "عاقبتُكم تُحرجنا ولا تُشَرِّف الوطن ولا يمكن ذكرها في طاولات عيد الاستقلال"، مع أنها هي خياراتهم التي اختاروها عن وعي ومسؤولية وخدموها بأقلامهم ومدافعهم وأفنوا فيها بقية أعمارهم.

فعلى سبيل المثال، قاوم الأمير البطل أحمدُ بن الديدْ الفرنسيين من 1905 إلى يناير 1910م، بينما رأى صواب مكاتبتهم والمعاملة معهم من يناير 1910 إلى أن توفي في أكتوبر 1944م. فهذه أربع وثلاثون سنة تقريبا يلزَمون حيالَها الصمت المطبق! والأمثلة كثيرة. فما السبب في عزوف هؤلاء المؤرخين عن استكمال تاريخ أولئك الأبطال والأعيان؟ أم أن تاريخنا يجب أن يبقى كلُّه مَلْحَمِيًّا بطوليا، بعيدا عن الواقعية وأحكامها والعقلانية وضوابطها واختلاف الآراء والاجتهادات؟ أمَّا حاضرُنا فيجب أن يكون مترهِّلا متهالكا بائسا مسكينا، لا جهاد فيه ولا مقاومة ولا دفاع!

جاء في مذكرات القائد الاستعماري غورو ما يلي: «في يوم 5 يوليو 1909، قام ثلاثة شيوخ كبار من أهم الأعداء السابقين بتوجيه رسائل إلى كل من غورو والشيخ سيديَ يعلنون فيها مكاتبتهم للفرنسيين هم: سيدي محمد ابن حبَتْ، أحد نبلاء قبيلة الَاغلال، صاحب التأثير الواسع، وكان قد ذهب إلى الشيخ ماء العينين عند السمارة فور وصولنا آدرار، ليعود مؤخرا؛ ومحمد ابن بوبوط، شيخ أولاد سِلَّه، من أولاد غيلان؛ وسيد احمد بن تكدي، شيخ أولاد نغموشة من أولاد غيلان (...) وفي يوم 19 يوليو 1909، بعد الظهر، قدِم سيدي محمد ولد حبَتْ، بعد أن أُعطي الأمان بناء على طلبه الآنف الذكر، مكررا نفس العبارات التي كتبها في رسالة 5 يوليو 1909، ومُبيِّنا لنا كيف حارَبَنا ظنا منه أن دينه يفرض عليه ذلك، وطالبًا الأمان».[128]

العلامة عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم المجلسيّ:

كانت لهذا الشيخ المعروف بتبحُّره في العلم وورعه قصةٌ عجيبة مع رسالة الشيخ سيديَ بابَه الموجهة إلى الزوايا بشأن مشروعية مهادنة الفرنسيين قصْدَ حماية الدين والأنفس والأعراض والأموال. وقد كان للشيخين قبل ذلك وبعده علاقاتٌ متينة، وقد سبَق للشيخ سيديَ بابَه أن زار حضرةَ أهل محمد بن محمد سالم وقرَّظ كتُب عبدالقادر الثلاثة: الثِّمان ونُزهة الأفكار والمباحث الجليلة منوها برسوخه في العلم وفضله وعراقته في ذلك. كما رثى الشيخ سيديَ بابَه عبدَ القادر  وأرخ لوفاته بمرثاة مؤثِّرة مطلعُها:

يا للشريعة من إحدى دواهيها
هو العشير لها ترضى بعشرته

 

 

لقد أصيبتْ بمُفتيها وقاضيها
وطالما كان بالإحياء يرضيها[129]
 

وكان الشيخ عبدالقادر قد عارض أول الأمر رسالة الشيخ سيديَ بابَه المذكورةَ، ولم ير من الجائز مهادنة النصارى، وهاجر إثرَها إلى الشمال وأرسل مجموعة من ذويه للمشاركة في قتال الفرنسيين بآدرارْ، إلا أنه سرعانَ ما راجع موقفه، مستصوبا فتوى الشيخ سيديَ بابَه ورسالتَه تلك بعينها ومكاتبا للفرنسيين. وهو الذي دعا من منزل أهل بيروكْ بوادْ نُونْ إلى مناظرة أىّ عالم يقول بوجوب جهاد الفرنسيين على أهل هذه البلاد، فلم يتصدَّ لذلك أحد على وجه الإطلاق. وقد قيلت في ذلك أشعار مشهورة.

وسيلاحظ القارئ في قصة عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم التالية أمرين: أولُهما حِرصُه على الهجرة بدينه والجهاد في سبيل الله حين تبيَّن صوابَ ذلك وإمكانَه. والثاني نزاهتُه العلمية والدينية وحسنُ ظنه بأهل العلم وإنْ خالفوه في الرأي. والقصة موَّثَّقة في مراجع مكتوبة، ومروية أيضا من طُرُق صحاح؛ وهذه إحدى رواياتها وأسانيدها:

حدثنى القاضي الفاضل أحمدُ بنُ إسَلْمُو بْنِ محمد يحيى بنِ أحمدَ بنِ عبدِالقادر بنِ محمدِ بنِ محمد سالم المجلسىُّ، قال: «حدثنى القاضى محمدُ الأمينُ بنُ بَلَّاهِى بنِ عبدِالقادِرِ بنِ محمدِ بنِ محمد سالم (عمُّ الوالدة وخالُ الوالد)، عن أبيه محمدٍ عبدِالله (بَلَّاهِى) أن والدَه عبدَالقادر بنَ محمدِ بنِ محمد سالم، لما وصلته رسالة الشيخ سيدىَ بابَه بنِ الشيخ سيدىَ الموَّجَّهَةُ إلى الزوايا بشأن التعامل مع الفرنسيين قَصْدَ تحقيق شيء من حفظ الدين والأنفس والأعراض والأموال، وغير ذلك من المقاصد المعروفة، أنه، يعنى عبدَالقادر بنَ محمدِ بْنِ محمد سالم، لما قرأ الرسالة قال: "إنا لله وإنا إليه راجعون! لقد أصابت الفتى عينٌ: يدعوني أنا لموالاة النصارى، وقد بلغتُ هذا العمُرَ !"بالحسانية:  "إنا لله وإنا إليه راجعون! أَلَّ حَالتْ اطْفلْ ظَرّْتُ العَيْنْ: يَهْنَ عَنِّ آن إلى اليومْ ؤُ يِدْعِينِى لموالاة النصارى!". وكان عُمره يومَها قد تجاوز التسعين عاما.

ثم هاجر الشيخ عبد القادر وجماعتُه، إثرَ ذلك مباشرة، إلى الشيخ ماء العينين بنِ الشيخ محمد فاضل في السمارة. وبعد مدة قصيرة، بلغ الشيخَ ماءَ العينين أن الفرنسيين احتلوا مدينةَ أطارْ، فجيَّش جيشا لتحريره، وأمَّر عليه ابنَه الشيخَ الولىَّ، وكان ممن ذهب فى ذلك الجيش جماعةٌ من أهل محمد سالم، منهم جَدى بَلَّاهِى بْنُ عبدِالقادر ومحمد (ابُّوكُ) بنُ محمد خويَا[130]، (الأديب المشهور) ومحمذن فال بنُ أشفقَ الطاهر ونعمة وبَتَّاحْ، ابنا أحمدُو ابنِ محمد سالم وآخرون غيرهم ممن لا تحضرنى الآن أسماؤهم. وأثناء المسير عَرَضَت للجيش ضالةُ إبل لقبيلة إِديْبُسَاتْ، وقد نفِد زادهم، فاستشاروا الأميرَ في أمرها فرأى أن يتزودوا بها، لكن جماعة أهل محمد سالم رأت أن لا سبيل لهم عليها ولم يأكلوا من لحمها شيئا.

وصل الجيش إلى اكصير الطرشان، فبدءوا تنظيمَ الصفوف والتأهب للمعركة؛ وأرسلوا رجلا من "لكدادره" ليأتيهم بأخبار الجيش الفرنسى فى أطارْ، ومع وصول المبعوث إلى معسكر الفرنسيين (الصنكه) استعرضوا قواتهم، فانبَهَر انبهارا شديدا بما رأى. ثم رجع بعد يومين، فسأله الشيخ الولىُّ والجيشُ عما رأى، فقال لهم: إنه الموت! إن هؤلاء الناس (يعنى الفرنسيين) عندهم قنابل يرمونها (اكْلَيْـزَاتْ ايْشُوطُوهَ)، ولا تكاد تَمَسُّ شيئا حتى يشتعل؛ وعندهم مدافع تصِل مبلغ الصوت (يَخبْطُو من اعْيَاطْ)، وعندهم أخرى تصل مبلغَ البصر (يَخبْطُو من شَوْفَه)، وعندهم مدافع تصبُّ رصاصها دفعة واحدة كالمطر... فقال بلَّاهى بنُ عبدالقادر، مخاطبا الشيخَ الوليَّ : ماذا عندنا يا شيخُ من العتاد؟ فوزع الشيخ عليهم السلاح، معطيا لكل واحد منهم (اكْشَامْ واتْمَوْكِينْتَيْنْ).[131]

قال بلَّاهى بنُ عبدالقادر: ما هذا بالجهاد المشروع: أولُه استحلال ضالة إديْبسات، وآخِرُه (اكْشَامْ واتْمَوْكِينتيْن) لكل مقاتل، وذلك فى مواجهة هذا الكمّ الهائل من السلاح والذخيرة عند العدو. وإن كان اللهُ قد أمر بالجهاد ورغَّب فيه، فإنه أمر أيضا بالإعداد له، فقال: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٖ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيۡلِ﴾، وما عليه الجمهور أن التوازن ينبغى أن يكون فى حدود النصف الوارد فى قوله تعلى: اْلآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفٗا فَإِن تَكُن مِّنْكُم مِّاْئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِاْئَتَيْنِ وَإِنْ يَّكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوٓاْ أَلۡفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾. ثم طلب (أىْ بَلَّاهى بنُ عبدالقادر) من أمير الجيش، الشيخِ الولىِّ بنِ الشيخِ ماءِ العينين، أن يأذن له فى الانسحاب مع جماعته، فأذن له الشيخ، على شرط الانسحاب متفرقين فرادى، وأن يكون ذلك بليل، وأن لا يصبحوا قريبين من المكان الذى يرابط فيه الجيش. فانسحبت جماعة أهل محمد سالم برئاسة بَلَّاهى بن عبدالقادر، وبقى منهم أفراد، مثل  ابُّوكُو بنُ محمد خُويَا ومحمذن فال بن أحمد سالم ابن أحمد بن ألْفَغَ الطاهر وأهل أحمَدُو بن محمد سالم... كلهم تلاميذ صوفية للشيخ ماء العينين.

تحرك الجيش نحو أطارْ، حتى إذا وصلوا "زِيرتْ تَمَسْ" (بفتح الميم وتفخيمها) تلقاهم جيش الفرنسيين بوابل هطِل من الرصاص، فقُتل من قتل وجُرح من جُرح وفَرَّ مَن فَرَّ وأُسِر من أُسِر وأصيب الشيخُ الولىُّ فى الفخذ، ثم طلب الفرنسيون من الباقين أن يستسلموا ويرفعوا الأعلام، ففعَل ذلك من بقي منهم في ساحة المعركة.

عاد الجماعة إلى السمارة وحكوا لأهلها الخبر، فقال عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم: "أَعطونى رسالة الشيخ سيديَ بابَه لأقرأها مرة أخرى" (اعْطُونِي رسالة بابَه نقراهَا مَرَّه اخْرَى، الشيخ سِيدِيَ وأهلُه زاكِينْ مع المسلمين). ثم انطلق هو وجماعته إلى آدرارْ، فنزلوا بوادي "البيْظات"، وكاتبوا الفرنسيين وصالحوهم على عدم المساس بالدين والأنفس والأموال، مقابل الشروط المعروفة. ووثيقة المكاتبة موجودة».[132]

وللأديب المشهور محمد (ابُّوكُ) ابن محمد خويا حكاياتٌ مَروية وألفاظٌ طريفةٌ تلفَّظ بها أثناء تلك المعركة. وذكر العلامة ابَّاه بن محمد عالي بن نعم العبد المجلسيُّ في كتابه: "الجليس المؤنس في تاريخ وأنساب المجلس"أن الشيخ الوليَّ تلقاه جيش الاحتلال مرةً عند "إكنينتْ التِّيكِّويتْ" فأرسل ابُّوكُ بن اسويد احمد وودادْ بن المحجوب السمسدي طليعةً (شَوْفْ) على ناقة، فلما عاينا طلائع الجيش شاهدا كثيرا من الذخيرة يغطي وجه الأرض فرجعا مُغِذَّيْنِ السيرَ، فقال "ابُّوكُ" في ذلك:

عَلَّمْنِ مُلاَنَ  يَخوفْ
ؤُزُفافْ امعاهْ ازَيْزُوفْ
يَذَاكْ الَّ مَوْكَفْ لكوفْ
 

 

لاهِ اوَدِّ منَّحْنَ شوفْ
ارديفْ اعْلَ بَكْرَ وَحْدَ
للقَلبْ ؤُلِكْلَ والكَبْدَ
 

وقد اشتمل كتاب "الجليس المؤنس"على كثير من الأخبار ذات الصلة، خصوصا في الجزء الثاني، من الصفحة 1067 إلى الصفحة 1071. من ذلك قولُه: «يحكى أن العلامة بابَه ابن الشيخ سيديَ كان يستشير بعض علماء ورؤساء ووجهاء القبائل في مكاتبة واستقدام النصارى لهذا البلد لتهدئة الأوضاع فيه؛ وممن استشار على ذلك من قبيلة المدلش سيد احمد بن محمذ بن الصبار وأشار إليه بأنه يرى أن ذلك من الصواب (عن الشيخ ابن الشريف بن سيد احمد بن محمذ بن الصبار). وأرسل بابَه رسالة إلى العلامة عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم المجلسي يستشيره في ذلك أيضا، فرد عليه بعدم أصوبية ذلك في نظره وأنه يرى استقدامهم ومكاتبتهم من أعظم الأخطاء، وقد هاجر بفصيلته متوغلا في الشمال، ثم ظهر له بعد ذلك أن الصواب مكاتبتهم فكاتبهم هو ومن معه (عن حمادٍ بن السعيدي ومحمد الأمين بن بلاهي بن عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم)».[133]

الشريف بن حمادِي بن محمذن بن الصبار المجلسي

وكان قد ألف في وجوب الهجرة عن هذه البلاد ونظم من الشعر المقاوم والمناضل الكثير. ثم ذهب مهاجرا إلى أرض الحجاز سنة 1903م، لكن عارضا عاقَه بأرض الحوض عن الوصول حيث مكث نحو ثلاث سنوات، فتبعه أخوه الشيخ محمد عبدالحي بأمر من أبويه ومعه جماعة، ولم يزالوا به حتى أقنعوه بضرورة العودة معهم، وذلك بعدة وسائل، من بينها رسالة أبويه، وإثبات أن المستعمر لا يتعرض للناس في دينهم، فرجع بعد أن طالت عليه الغربة وأرقه تذكر الأوطان والأهل والأحباب، فقال في ذلك قصيدة مشهورة، جاء فيها:

برق يلوح على الأوطان أحيانا
ما هيَّجَ الشوقَ برقٌ لاحَ مِن قِبَلَ الْــــ

 

قد هاج للصب بعد النأي أحيانا
ــــــــــــأحباب ما هيَّج البرق الذي بانا
 

إلى أن يقول:

يا أيها الركب إن السير قد حانا
من كان فيها يحل الأمن ساحته
بآل أحمد من دامان قد حليتْ
فاق الزوايا وحسان المقيم بها
 

 

إلى البلاد التي قد كن مثوانا
وفي سواها يرى للأمن فقدانا
بها أجادوا لرَبْع الدين أركانا
من الزوايا أولي العليا وحسانا[134] إلخ
 

الشيخ العلامة القارئ محمد حبيب الله بن مايابى الجكني:

تبادل الشيخان: سيديَ بابَه ومحمد حبيب الله بن مايابى قصيدتين من عيون الشعر. وقد أرسل محمد حبيب الله عدة رسائل إلى الشيخ سيديَ بابَه، يبدو أن بعضها قد ضاع، كما ضاعت رسالة أو اثنتان أرسلهما له أخوه العلامة محمد الخضر، الذي كان يبعث أيضا بالسلام والتحايا للشيخ سيديَ عن طريق أخيه محمد حبيب الله. وهذا نص أولى رسائل الشيخ محمد حبيب الله ابن مايابى إلى الشيخ سيديَ بابَه:

«الحمد لله الذي جعل الأقلام، عوضا عن المشافهة بالكلام، والصلاة والسلام على محمد وآله وأصحابه الكرام. أما بعد، فسلام يحل المودة والسرور، وتنشرح به على نأي البلاد الصدور، إلى أُبيِّ القرآن وعثمانه، وأحمدِ الحديث وسفيانه، ومالك الفقه ونُعمانه، وعليِّ القضاء وسليمانه، شيخنا الذي تعلمنا منه دون ملاقاة، وعمَّتنا نفحات علومه ونِعمت النفحات، العالم العلامة، الجِهبذ الدَّراكةِ الفهَّامة، الجامع بين الحقيقة والشريعة، من له في كل مكرمة وفضيلة شريعة، الشيخ سيديَا بن الشيخ سيدي محمد ابن الشيخ سيديا، رحم الله الجميع، وأولاه ما يناسبه من كل مقام رفيع.

أَوجَبَه أن مُكاتبكم المتسمِّى آخرَه أحبكم دون ملاقاة وقد عاجلته الهجرة عن تلك البلاد دون ذلك، وقد كاتبناكم على لسان ابن عمكم السيد بن المختار بن الهيبة، وقد عاجلتنا الهجرة أيضا إلى المدينة المنورة قبل مراجعتكم، وقد دعونا الله تعلى لكم في هذه البقاع الطاهرة ونسأل الله لكم وصولكم لها حاجِّين مقبولين. ولما وجدنا في هذه السنة حجاجا من آل سنغال، وكان منهم واحد يدعى (انجاي ديوف) وهو يزعم أنه تلميذ لكم قصدت أن أرسل معه كتابي هذا لكم، وأروم منكم أن تشرحوه لأني أراكم أهلا لذلك وأرسلت لكم بصحبته رسالة باتصال سند المصافحة بلصقها ذِكْرُ بعض مصنفاتي لتطلعوا عليها، ومن أهمها شرح الموطإ بالصفة المذكورة هناك، وقد أرسلت لكم أذرعا من ثياب الكعبة مع الرجل المذكور، وهو الذي أرسلت معه نظمي هذا المسمى "دليل السالك إلى موطإ الإمام مالك"، فإن وصلكم، سواء شرعتم في شرحه أم أحجمتم لعذر ما فأفيدوني بالجواب في ذلك، فإني مقيم بالمسجد الحرام. وعنواني الذي يكتب في ظهر غشاء المكتوب:

"محمد حبيب الله بن مايابى الشنقيطي المدرس بالمسجد الحرام بمكة المشرفة". وأرسلنا لكم تقاريظ لبعض علماء الحرمين لهذا النظم، ومن جملتهم أخونا الشيخ محمد الخضر لتطلعوا عليها، وعسى قريحتكم السنية تسمح بأبيات له تقريظية، وشرحُكم الأولى وأولى، وتعجيل جوابي على العنوان المذكور هو المرجوُّ من جنابكم الأعلى، وبعدَه تكون المكاتبة بيننا إن شاء الله.

سلموا لنا على ابن عمكم السيد بن المختار وأبنائكم الكرام، ومن يجمعه مجلسكم من الفِخَام، وعلى العلامة الهمام سيدي محمد ابن داداه، ولا تنسونا من صالح أدعيتكم، كما لا ننساكم من ذلك في وقت الطواف وفي ختم الدروس بالمسجد الحرام، وأسأل الله أن يجمعنا وإياكم به وفي دار السلام. كتبه عبد ربه وأسير ذنبه محمد حبيب الله بن سيدي عبدالله بن مايابى الجكني، عامله الله بلطفه الخفي.

إلحاق: وحبذا لو كانت نسخة هذا النظم وما معه بالخطوط المغربية، لكن الوقت أعجلنا لسرعة سفر الحجاج عن ذلك، فأرسلناها لكم بالخط المشرقي، ولا شك أنكم تقرؤونه بسهولة، فتأملوا في النظم غاية، لأنا لم نقابله حق المقابلة، فأصلحوا ما لعله فيه من الفساد مما طغى به القلم أو كاد. كاتب أعلاه».[135]

فرد عليه الشيخ سيديَ بابَه التحايا والسلام والأشواق والتزكية شعرا، وربما نثرا أيضا:

حَيَّا الإلهُ حَبِيبَ الله مَن لَزِمَا
إن الزمان إذا يَابَى وُجُودَ فَتًى
ما زالَ يَدْأَبُ في عِلْمٍ وفي عَمَلٍ
حتَّى أباحَ حِمَى العَلْيَاءِ في زَمَنٍ
بِالْعَشْرِ يَقْرَأُ آياتِ الكِتَابِ، كَمَا
مشفوعةً من أحاديث الرسول بِمَا
إن الذي أمسكَتْ كَفَّاهُ مُعتصِما
طابتْ أُرومتُهُ قِدْمًا ومَحْتِدُهُ
يسعَى مساعيَ آباءٍ لهُ سَلَفُوا
لا يَرتضِي أنهُ لا يُرتضَى خَلَفًا
أبدى تصانيفَ قَرَّتْ عينُ ناظرِهَا
أو روضةٍ من رياض الحَزْنِ طَيِّبَةٍ
يسمُو إلى الحرميْن الطاهريْن، فما
إنَّ المكارمَ أرْزاقٌ مُقَسَّمةٌ
نَهْوَى الوصولَ إلى أرض الحِجاز فَمَا
لكنَّما الخلقُ مَجْبُورٌ تُصَرِّفُهُ
وربَّما تُسْعِدُ الأيَّامُ آوِنَةً
رَشَدْتُمُ أيها الساداتُ إنكُمُ
أرْضَى سِواكُم قعودُ الخالفِينَ، وما
 بُوركْتُمُ وجُزِيتُمْ كُلَّ صَالِحةٍ
بجاه سَيِّدِنا المختارِ مِن مُضَرٍ
عليهمُ صَلَواتُ الله، ثُمَّ عَلَى
 

 

بَيْتَ الإلهِ وحَيَّا الْبَيْتَ والحَرَمَا
مِثْلِ ابنِ ما يَابَ لَمْ يُعْدَدْ مِنَ اللُّؤَمَا
يَقْفُو بِأَعْمَالِهِ آثَارَ ما عَلِمَا
قَلَّ الْمُبِيحُ مِنَ الْعَلْيَاءِ فِيهِ حِمَى
قَدْ كان أنْزَلَها رَبُّ الوَرَى حِكَمَا
قدْ كان صَحَّحَهُ الحُفَّاظُ والعُلَمَا
بِذَيْنِ قَدْ أمسَكَتْ كَفَّاهُ معتصَما
والفرع إن كرُمتْ أعراقُه كَرُما
ساعِينَ للمجد سَعْيَ السادةِ الكُرَمَا
ومَن يُشابِهْ فَعَالَ الأصْلِ ما ظَلَمَا
كالدُّرِ يحسُن منثورا ومنتظِما
غَنَّاءَ جادَ عليها الغيثُ وانسَجَمَا
تَثْنِي عزيمتَه العُذَّالُ إذْ عَزَمَا
 بينَ البريَّةِ مِمَّن يَبْرأُ النَّسَمَا
ننْفَكُّ نذْكُرُ ذاكَ الْبَانَ والعَنَمَا
أيْدي المقاديرِ مُضْطَرًّا ومُعْتَزِمَا
فيُدْرِكُ المرءُ آمالاً لَهُ، رُبَمَا
أعمَلْتُمُ للإلهِ النُّجْبَ والهِمَمَا
زالتْ نَجَائبُكم تَسْمُو بكُم قُدُمَا
دُنْيَا وأخْرَى ودامَ الشملُ مُلْتَئِمَا
وسائرِ الأنبياءِ السَّادَةِ العُظَمَا
تَالٍ سبيلَهُمُ بدْءًا ومُخْتَتَمَا                                                              
 

انتهى.[136]

ويُحكى أن الشيخ محمد حبيب الله كان يضع البيتين التاليين في مقدمة إجازاته لطلابه فى القرآن والحديث، لمعرفته ببراعة قائلهما في هذين الأصلين وعلومهما، وكان يقول: لقد أجازنى الشيخ سيديَ بابه في القراءات العشر، وفي الحديث:

بِالْعَشْرِ يَقْرَأُ آياتِ الكِتَابِ، كَمَا
مشفوعةً من أحاديث الرسول بِمَا
 

 

قَدْ كان أنْزَلَها رَبُّ الوَرَى حِكَمَا
قدْ كان صَحَّحَهُ الحُفَّاظُ والعُلَمَا
 

ومن أجمل ما في تلك المراسلات والأشعار أن الشيخ سيديَ بابَه، على الرغم من مخالفته لفتوى أبناء مايابى بوجوب وأولوية الهجرة عن البلاد المحتلة، فإنه كان يعتبرهم مهاجرين إلى الله، بناء على اجتهادهم ونياتهم:

يسمو إلى الحرمين الطاهرين فما
                                                        ...........

رَشَدْتُمُۥ أيها الساداتُ إنكُمُۥ
أرضى سواكم قعودُ الخالفين ومــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا

 

تثنى عزيمتَه العذالُ إذ عزَما
                                               .............

أعمَلْتُمُۥ للإلٰهِ النُّجْبَ والهِمَمَـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــا
زالت نجائبكم تسمو بكم قُدُما
 

فهم جميعا علماء مجتهدون مأجورون بإذن الله، لا يُلزم أيًّا منهم اجتهادُ الآخر، كما قال له الشيخ محمد حبيب الله في قصيدته الجوابية:

وليس مُختارُ حِبْرٍ لازِمًا عَمَلاً
 

 

لذي اجتهادٍ رأى بالشَّـرْعِ ما فَهِمَا
 

بل صرّح بأصوبية مذهب الشيخ سيديَ بابَه الذي ذهب إليه في تلك النازلة التي حارت فيها عقول العلماء والحكماء، مُشِيدا بما أبداه من حجج متسمة بالحق والصواب، وواصفا مسعاه وما أفتى به في حق أهل التلصُّص والحرابة بأنه كان هو جزاءَهم الأوفى:

أبقيْتَ عِزَّكَ في دَهْرٍ بهِ بُهِتَتْ
فكنتَ تَدْفَعُ بالمال التِّلادِ ومَا
وَذَا التَّلَصُّصِ جازَيْتَ الجزاءَ عَلَى
 

 

أجِلَّةُ العُقَلاَ مِمَّا لهُمْ دَهِمَا
أبْدَيْتَ من حُجَجٍ بالحقِّ مُتَّسِمَا
طِبْقٍ فَحَكَّمْتَ فيه السيفَ والقَلَمَا
 

كما صوَّب الشيخ محمد حبيب الله بقاءَ الشيخ سيدِيَ فى البلد وترْكَه للهجرة:

ومُكْثُكُمْ نَفْعُهُ للناس قَاطِبَةً
فمَن نَحَا علمَكم نالَ المرادَ، ومَنْ
ومن نَحَا بَحرَ عِرفانٍ يموجُ أتَى
 

 

لَمْ يستطعْ جَحْدَهُ الحُسَّادُ واللُّؤَمَا
عَنْهُ الدِّفَاعَ نَحَا صُنْتُمْ له الذِّمَمَا
بَحْرًا خِضَمًّا مِنَ الأَنْوارِ مُلْتَطِمَا
 

إلى آخر ذلك من مسوغات بقاء الشيخ سيديَ بابَه فى البلاد. وفيه ردٌّ على القول بوجوب الهجرة وقتَها في حق كل أحد من أهل هذه البلاد؛ إذْ من الناس مَن نفعُ بقائه أعمُّ وأعظم من عبادة خاصة لا يتعدى نفعها إلى غيره. ويجدُر الانتباه هنا إلى قوله إن هذه المكانة ليست جديدة، خلافا لمَن يرى، تحاملا وتجاهُلا، أنها مستمَدّة من علاقته بالمستعمر!:

قدْ كُنتُمُۥ كعبةً في أرضكمْ شَمَخَتْ
مَن أمَّها جانيًا نالَ النجاةَ ومَنْ
 

 

عِزًّا ويُمْنًا فكانت للورى حَرَمَا
بها استجارَ نَجَا مهْما بها احترما
 

بل يشير إلى ما تميَّز به الشيخ سيديَ بابَه عن أبويه، من صعوبة الزمن والظروف، وتفوقه بسبب ذلك:

نِعْمَ الخليفةُ بَعْدَ الوالديْنِ فَكَمْ
بلْ فُقْتَ في زمَنٍ صعْبٍ برَزْتَ به
 

 

أحْيَيْتَ من سُنّةٍ جلتْ بها حكمَا
كالبدْرِ وَسْطَ السَّمَا بَلْ فُقْتَ ذا حِكَمَا

على نحو ما ذهب إليه بعض مَن مدَح الشيخ سيديَ بابَه مِن كبار معاصريه من العلماء، أمثال العلامة محمذ فال ابن محمد مولود المبارَكيِّ، المشهور بالدَّدَو الذى قال:

على أبويه زادَ، وأيُّ مَرْءٍ
فَـــدَعْ خيرَ القرونِ وفَضِّلَنْهُ
 

 

يُطاوِلُ غيرَه قُنَنَ الجبالِ؟
على مَنْ بَـعْـــدَ ذاك مِن الرجالِ
 

وهذا نص قصيدة الشيخ محمد حبيب الله المفعمة رقة وشوقا وصِدقَ عاطفة. وقد ذكر في الرسالة المصاحبة لها أنه أعاد إرسالها مرَّتين ولم يدْر أوَصلتْ أم لم تصل:

حَيِّ البلادَ وخصصْ روضة الكُرَما
وحيِّ مِن ساكني أرجائها عَلَمًا
بالشيخ سيديَ يُدعى وهْو من صِغَرٍ
حتى أباح حريمَ المجد واقتُبستْ
يا كوكب العلم يا من زانَه أدبٌ
جاءت جواهرُ من أشعاركم دُرَرًا
فخامرتْ قَلْبَ ذي حُبٍّ به لعبتْ
فهيَّجَتْ مثلَ بَرْقٍ لامعٍ سَحَرًا
فاشتاقَ رؤيةَ شمسٍ بالهدَى طَلَعَتْ
قالوا: أئِنَّ طُلُوعَ الشَّمْسِ يَوْمَئذٍ؟
أنَّى لنا زمنٌ نلقاكَ فيه ضُحًى
فَأَكْؤُسُ المجدِ والأنْوارِ تَالدة
حُزْتُمْ علوما بها فُقْتُمْ مُعَاصِرَكُمْ
أَبَى الزَّمانُ إمامًا كُفْؤَكُمْ حَسَبًا
قَدْ حُزْتُمْ قَصَبَ السَّبْقِ الْجَمِيلِ عَلَى
ما دُمْتُمُ فَلِوَاءُ المَجْد مُرْتَفِعٌ
ومُكْثُكُمْ نَفْعُهُ للناس قَاطِبَةً
فمَن نَحَا علمَكم نالَ المرادَ، ومَنْ
ومن نَحَا بَحرَ عِرفانٍ يموجُ أتَى
ومن نَحَا كَرَمًا طبْعا فَدَيْدَنُكُمْ
قدْ كُنتُمُۥ كعبةً في أرضكمْ شَمَخَتْ
مَن أمَّها جانيًا نالَ النجاةَ ومَنْ
نعم الخليفة بعد الوالديْنِ فَكَمْ
بلْ فُقْتَ في زمَنٍ صعْبٍ برَزْتَ به
مِنْ أينَ للبدْر ما قدْ حُزتَ منْ حِكَمٍ؟
لمَّا ادْلَهَمَّتْ حُرُوبُ الدَّهرِ كنتَ بِهَا
أبقيْتَ عِزَّكَ في دَهْرٍ بهِ بُهِتَتْ
 فكنتَ تَدْفَعُ بالمال التِّلادِ ومَا
وَذَا التَّلَصُّصِ جازَيْتَ الجزاءَ عَلَى
وليس مُختارُ حِبْرٍ لازِمًا عَمَلاً
إني أُحَيِّيكَ يا ابْنَ الأكْرَمِينَ على
لَوْلاَ وُجودُ المُنَى بِمَكَّةٍ ومِنًى
ما كنتُ أرضَى بمُكْثٍ دونكم أبَدًا
وحُقَّ لي قَوْلُ جِدٍّ جاعِلاً بَدَلاً
"إنَّ الزمانَ إذا يَابَى وُجودَ فَتًى"
فأنتمُۥ بالثَّنَا أَوْلَى فإنَّ لكُمْ
وأينَ لِي بابْتِكَارِ مِثْلِ ما سَمَحَتْ
إنّا وإن أَبْعَدَتْ مِنَّا الحُظُوظُ لِمَا
فربما أسْعدَتْ يوما بكمْ بِمِنًى
أرض بها بيتُ ربِّ العالمين ومَا
لا يمكن الظالمَ الجافي لصولته
أرضٌ بها مَدْفِنُ المُختارِ مِن مُضَـرٍ
صلَّى عليه إلٰهُ العرش ما وَخَدَتْ
 

 

واسفَحْ دموعكَ من شوق العهود دَمَا
حاز السيادة عن أنظاره العُلمَا
وصفُ السيادة يَنْمِي فيه ما انْفَصَمَا
منه المعارفُ وانقادت له العُظَمَا
يَصْبُو له الأصمَعيُّ الشَّهْمُ لو عَلِما
لو فاخرتْ شعرَ غيلانٍ لها احتشَما
بواعثُ الشوق في أرضٍ بها جَثَمَا
دَفِينَ أشْواقِ ذِي وَجْدٍ له كَتَمَا
في مغربٍ حيث شأنُ المجد قد عظُما
فقلتُ: ذِي شَمْسُ عِلْمٍ قد هَدَتْ أُمَمَا
كيْ نشربَ العذبَ من أَسْراركمْ شَبِمَا؟
من راحَتَيْكُمْ تَعَاطَى صَفْوَها النُّدَمَا
وفُقْتُمُ العُلماءَ السَّادةَ القُدَما
كَمَا أَبَى مِن قَدِيمٍ مِثْلَكُمْ كَرَمَا
عِزٍّ بِكُلِّ مَجَالٍ رامَهُ الْكُرَمَا
في الجوِّ يَخْفقُ فِي أُفْقِ السَّمَا عَلَمَا
لم يستطعْ جَحْدَهُ الحُسَّادُ واللُّؤَمَا
عَنْهُ الدِّفَاعَ نَحَا صُنْتُمْ له الذِّمَمَا
بَحْرًا خِضَمًّا مِنَ الأَنْوارِ مُلْتَطِمَا
بدون مَنٍّ مدى الأَيَّام مُلتزَما
عِزًّا ويُمْنًا فكانت للورى حَرَمَا
بها استجارَ نَجَا مهْما بها احترما
أحْيَيْتَ من سُنّةٍ جلتْ بها حكما
كالبدْرِ وَسْطَ السَّمَا بَلْ فُقْتَ ذا حِكَمَا
وأينَ للبدْرِ ما أنفقتَهُ كَرَمَا؟
شَهْمًا شُجاعًا لدى الهيْجاء مُبتَسِمَا
أجِلَّةُ العُقَلاَ مِمَّا لهُمْ دَهِمَا
أبْدَيْتَ من حُجَجٍ بالحقِّ مُتَّسِمَا
طِبْقٍ فَحَكَّمْتَ فيه السيفَ والقَلَمَا
لذي اجتهادٍ رأى بالشَّـرْعِ ما فَهِمَا
 شَوْقٍ بكُمْ طالَمَا مِنْهُۥ بَكَيْتُ دَمَا
ودارِ هجرةِ مَنْ للرُّسْلِ قدْ خَتَمَا
كَلاَّ ففي القَلْب وَجْدٌ شَفَّنِي سَقَمَا
مِمَّا به كُنتُمُۥ ألْقَحْتُمُ الْهِمَمَا
كالشيْخِ سِيدِيَ "لَمْ يُعْدَدْ مِنَ اللُؤَمَا"
 في كُلِّ مجْدٍ أَثِيلٍ تَالِدٍ قَدَمَا
بِهِ قَرَائِحُ منكُمْ أَعْيَتِ القُدَمَا؟
 كُنَّا نُرَجِّي من اللُّقْيا لِتُغْتَنَمَا
كمثلِ شمس الضُّحَى تَجْلُو لنا الظُّلَمَا
تحويه مِن مَشْعَرٍ بالأَمْن قدْ وُسِمَا
ظلمٌ لذي الضعف فيها فهْيَ خيرُ حِمَى
وجِلَّةٍ مِن صِحابٍ بينهُمْ رُحَمَا
لَهُ المطايا عليها أنْجُمٌ عُظَمَا
 

انتهى.[137]

وهذا متْن إحدى الرسائل المصاحبة للقصيدة: «بسم الله الرحمن الرحيم. الحمد لله الذي جعل العلماء ورثة الأنبياء، وجعلَ منهم خواصَّ نِسْبَةُ غيرهم لهم كنِسْبة العوام للأولياء، والصلاة والسلام على من بعث بأشرف الشرائع وتتميم مكارم الأخلاق وعلى آله وأصحابه الحائزين من المكرمات والديانات قَصَبَ السباق.

 أما بعد، فمِن كاتبِه عبدِ ربِّه محمدٍ حبيبِ الله بن الشيخ سيدي عبدالله بن مايابى وفقه الله، إلى عالم العلماء، وولي الأولياء، وذكي الأذكياء، وأديب الأدباء، وصوفي الفقهاء، وأقرإ القراء، وأبلغ الشعراء، فائق النظراء، بل عديم الشكل في الأحياء، الجامع بين الشريعة والحقيقة، مَن له في كل فن وكلِّ مكرُمة أعزُّ طريقة، مركزِ دائرة المعارف والعلوم، الجامع بين علم الحقائق وعلم الرُّسوم، الأستاذِ العالم الكبير المحدث الكامل الولي العارف ذي الفضائل الجمة والفواضل الشيخ سيديَ بن العالم الولي البليغ الألمعي، خاتمة الأدباء ذي الذوق السَّني، الشيخِ سيدي محمدٍ بن الولي الكامل الأكبر، مَن كان وجود مثله في الدنيا أعزَّ من الكبريت الأحمر، الشيخ سيديَ، رحم الله الجميع، وجمَعَنا وإياهم في أعلى الجنات في أشرف مكان رفيع، سلامٌ تزداد به المحبة والسرور، وتنشرح به مع تَنَائِي البلاد الصدور، سلام ألذُّ من منادمة الأذكياء، ومحادثة الأدباء الظرفاء، سلام يناسب جلالة المسلَّمِ عليه، وسيادَتَه وما انتمى من الفضل والمجد التالد إليه.

 أوجبه أن كاتب الحروف لا زال محبا لكم بالدوام وداعيا لكم بسعادة الدارين والختم بالإيمان، في جوف البيت الحرام. وأرجو الله أن لا يَحْرمنا من لقائكم في دار الدنيا الفانية، وأن يجعلنا على سرُر متقابلين في دار الجنة الباقية، إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير.

وقد كتبت لكم كتبا مرتين أو ثلاثا ولم أتحقق وصول شيء من تلك الكتب، ومع اثنين منها قصيدة في ذكر بعض مآثركم الجمة، وهي شعر طالبٍ متشاعر لا يوازي شعر خنذيذ ماهر. ولم تكن إشارتي الآن لعدم تحققي لوصول الكتب لقصد تكليفكم بالكَتْبِ بل مرادي أن تأمروا من يكتب لي بوصول الكتُب لكم إن كانت وصلت أو عدمِه إن لم تكن وصلت. وإن كان في تمتُّعي بنظر خطكم البهي غذاءٌ للأرواح، أعذبُ وأشهى من غذاء الأشباح، واقتباس نوراني تَلقَح منه القلوب وتُمْحَى بسببه عن ناظرِه الذنوب.

 وقد كتبت لكم عام أولَ، ولا أظنه وصلكم، أنَّ محبتي لكم قديمة، وأني كنت عازما قبل هجرتي عن البلاد على زيارتكم والاقتباسِ من علومكم الشريفة، والتأدب بآدابكم الكاملة المنيفة، فشغلتني عن ذلك معاناة تكرار مختصر خليل حتى فات ذلك الغرض بسفر الهجرة. وكم عطل ذلك المختصر من خليل عن خليل، لاسِيما من رام إتقانه، وقطع فيه زمانه. فكنت أقول: لا أذهب عن شيخي أحمد بن أحمد بن الهادي رحمه الله حتى لم تبق لي في المختصر مشكلة، وحيث تم هذا الغرض أرتحلُ لزيارة الشيخ سيديَ، وهكذا حتى تُوفي شيخي فجاء الأمر الذي ألجأ لهذا السفر المبارك إن شاء الله. ولم تزل تلك الأشواق في القلب كامنة، وإني إن لم أحظ برؤية طلعتكم البهية في السابق، فإني أحمد الله على محبتي إياكم والتفاتكم إليَّ في اللاحق.

والمرجوُّ من الله تعلى أن تكونوا شرحتم نظمنا: "دليل السالك" حسبما وعدتمونا به مساعدةً لطلبي ذلك منكم سابقا، ولست شاكًّا في أنه لا يمنعكم من إنجاز الوعد بشرحه إلا عدم الصحة والضعفُ مع الأشغال النافعة، قَوَّاكُم الله تعلى وأعانكم، وأصلح في الدارين شانَكم، ويسَّر لكم شرحه على المراد، حتى ينتفع به في هذه الديار وتلك كثيرٌ من العباد، وحتى يكون باعثا على تقديم الموطإ على غيره من كتب الحديث كما هو الحق وإن تتابع المتأخرون على اختيار ابنِ الصلاح ومن تبعه كابن حجر العسقلاني لتفضيل الصحيحين عليه، وكأنهم لم يطلعوا على رجوع الحافظ ابن حجر عن ذلك في نُكَتِه على مقدمة ابن الصلاح حيث ساوى بين صحيح البخاري وموطإ مالك دون فرق بينهما.  ولم يتأملوا الأدلة التي جمعناها في دليل السالك وغيره، وهي لا تخفى على أهل الذوق والإنصاف.

 وإذا كتبتم عليه وبقيت مواضع منه مبيَّضةً حيث لم تجدوا الكتب المأخوذة منها في بلدكم فأرسلوه لي فإني أضع نقول تلك المواضع في محالها بلفظها، وأسعى إن شاء الله في طبع شرحكم هذا حتى يطبع.  والمقصود أن يكون حَليا له وبركة تعود عليه. وقد كتبت على جميعه هوامش كالشرح، لكني لا زلت لم أمزجها به حتى أعرف هل شرحتموه أم لا، والمرجو شرحكم له.

وأسلم على أخيكم الأبر صاحب الأنوار وأبنائكم البررة الأخيار وسائر أقاربكم وتلاميذكم زاد الله في مددكم وأسراركم، وعمنا بنفحات أنواركم، حفظكم الله وأنجالَكم، وأسعدكم في الدارين بما هو أنجَى لكم. كتبه في 13 شعبان سنة 1341 محمد حبيب الله بن مايابى وفقه الله آمين». انتهى .[138]

وهذه رسالة أخرى كتبها الشيخ محمد حبيب الله قبل وفاة الشيخ سيديَ بابَه بأشهر:

«بسم الله الرحمن الرحيم. من عبد ربه محمد حبيب الله بن سيدي عبدالله بن مايابى إلى أستاذ المشايخ، ذي المجد الباذخ، والفضل الراسخ، من صدَق فيه قول الشاعر الذائقِ الماهر:

تجاوزَ قَدْرَ المدْحِ حتى كأنهُ--بأحسنِ ما يُثنَى عليه يُساءُ

سلامُ مُحِبٍّ مُخلِصِ الوداد، مُستمِدٍّ من فتوحكم وأنواركم أكملَ الاستمداد. وإني مُسَلِّمٌ غايةَ السلام التام على أنجالكم السادة الأفاضل الكرام، وأخبركم بأني ما تركتُ الدعاء لكم بالختم بالإيمان واجتماعِنا على سُرُر متقابلين في غُرَف الجِنان. وإني دعوتُ لكم بكل مُراد في هذه السنة في وسط بيت الله الحرام، وفي زمزمَ والمقام، وعلى الصفا والمروة وفي عرفة والمشعر الحرام. والمرجوُّ من جَنابكم العالي وفيضكم المتوالي أن لا تنسوني من صالح أدعيتكم في خلواتكم وجَلواتكم. وإن كنتم كتبتم شرحا أو بعضه على نظمي دليل السالك، فبشرونا بمكتوب فيه بيانُ ذلك، والله تعلى هو المرجو لما هنا وما هنالك. هذا وقد أرسلت لكم مرتين هذه القصيدة التي هي شِعْرُ متشاعر لا يقابَل بشِعْر خِنذيذٍ ماهِرٍ، ولم أفهم من أحد ممن كتب لي من جهتكم وصولَها لكم إلى الآن وحتى الآن. ولما كان المقصود من إرسالها إظهار إخلاص المحبة لكم طبقا للواقع، كرَّرتُ إرسالها ثلاثَ مرات لعلها في المرتين لم تصِل.

ويسلم عليكم أخونا العلامةُ الشيخ محمد الخضر، حفظه الله، وقد أرسل لكم مكتوبا في السنة الماضية مع مَكاتبَ مني، ولم ندْرِ هل وصل ذلك أيضا أم لم يصِل. هذا وإنه قد طُبع بأرض الهند المستدرَك للحاكم، وبهامشِه مختصر الحافظ الذهَبي له وتعقُّبُه عليه في بعض المواضع وجاء لمكة منه نحوُ الرُّبُع، فإن تمَّ وجاء هنا اشتريتُه وأرسلتُه لكم، وهو كتابٌ عجيبٌ، من طالعَه يطَّلع على أن الصحيحين تركا من الصحيح كثيرا مُهِمًّا، ويطَّلِع على أنه لم يتساهل غالبا، عكسَ ما قاله العراقي وغيره، بل هو كما سمَّوْه الحاكمَ حاكمٌ، وكثيرا ما يسلِّم الذهبيُّ كلامَه بقوله: صحيح على شرط الشيخين ولم يُخرجاه. والسلام على سيادتكم بدْءا وختْما. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين إلى يوم الدين. كتبه في وقت استعجالٍ غايةً انسلاخَ ذي الحِجة سنة 1341. محمد حبيب الله بن سيدي عبدالله بن مايابى». انتهى[139].

هذا مع العلم أن ما دار بين أبناء مايابى الجكنيين والشيخِ سيديَ بابَه من تبادُل للمدائح والهدايا وحسن الظن والتبجيل، لا يستغربه مَن اطلع على ما سبقه من مدح الشيخ سيديَ بابَه لعموم الجكنيين وخصوصهم؛ وبيتُه الجامعُ فى مدحهم مشهورٌ، وقد عدَّه بعضُ العارفين بالشعر قصيدةً كاملة لبلاغته وحسن تأتِّيه وجمْعِه المعانيَ الكثيرة:

عِيدُ الوفود لدى اللَّأْواءِ جَاكَانُ
 

 

وليس ذاك حديثَ العهد بل كانوا
 

ولم يزَل علماء الجكنيين وأعيانُهم على ذلك. وقد كتب العلامة والقائد الجكنىّ المرابط ابن أحمد زيدان[140] رسالة طويلة نسبيا إلى الشيخ سيديَ بابَه يقول فيها: «موجبُه أني جعلته (يعني الشيخ سيديَ بابَه) أبًا متى جعلتُه». ثم يذكر فيها محبة قبيلة تجكانت للشيخ سيديَ بابَه وتقديرَهم له ومكانتَه العظيمة عندهم. ويضيف قائلا: «ولم يُخيِّب هو لهم رجاءً، بل مدحَهم في صدر الناس، وكان يوصي لصغيرهم إذا قدم عليه ويرحَم كبيرهم إذا حلَّ به ويتعهد نصرهم». ويختم المرابط رسالته قائلا: «فمَقامُك عندنا فخرٌ وحصنٌ وصدرُك فينا ذِكرٌ حسنٌ ودِينُك عندنا وعْظٌ وأمْنٌ. والسلام كما بدأ يعود».[141]

وقد تأثر تلاميذ المرابط وتلاميذ تلاميذه برأيه هذا ونهجه، حتى إن العالم الجليل المتفنن محمد بن البخاري السباعي، الذي تصدّر على يد محمد المصطفى ابن اعلي امبطالب، أحد كبار المتخرجين على يد المرابط، أثنى مرةً على الشيخ سيديَ بابَه، فردَّ عليه أحد الحاضرين منتقدا الشيخ سيديَ بابَه وناسبا إليه مآخذ شنيعة، فقال له ابن البخاري: «إذا كان الشيخ سيديَ بابَه قد قال بذلك، فاعلم أن الشريعة تقول به!»[142].

وقد أورد العلامةُ المؤرخ هارون بن الشيخ سيديَ في موسوعته "كتاب الأخبار" (الجزء المتعلق بتجكانت) أن المرابط بن أحمد زيدان بعث إلى الشيخ سيديَ بابَه الفتى النبِهَ محمد بن سيدي الرمظاني، الذي أصبح فيما بعد شيخا صوفيا، يلتمس منه رأيه الفقهي في نازلة محلية كثر الخلاف بشأنها في ناحيتهم. فاستجاب له الشيخ سيديَ بابَه بفتوى راقت للمرابط وأطربتْه، فصار يقول: "لو كان عمري يسمح لي بالرقص لفعلت ذلك طربا لما وردني من هذا الشيخ". كما يذكر الشيخ هارون أن الرسول إلى الشيخ سيديَ بابَه، محمد بن سيدي، قال مرة في حضرته الجكنية إن العلم، كما يقال، كان جكنيا قبل أن يولد هذا الرجل، يعني الشيخ سيدي بابه، وأنه هو نفسه عاقد العزم على الارتحال إليه ليتعلم عليه، غير أنه خبر وفاة الشيخ سيديَ بابه جاءه قبل أن يرحل.

أما الإمام المفسر العلامةُ الشيخ محمد الأمين بن محمد المختار، صاحبُ أضواء البيان، المشهورُ فى بلادنا بآبَّه ولد اخْطورْ، فكان إعجابه بالشيخ سيديَ بابَه معروفا، وقد وقف على قبره في البعلاتيه بأبى تلميت عام 1386هـ (1966م)، وقال: «لله درُّك ما أحظاك بالسُّنّة حَيًّا وميتًا!». ولفظُه باللهجة الحسانية: «مخْ لمَّكْ ما اعِقْدَكْ في السنّة حيّْ  أميِّت!» يشير إلى أنه لم يُبْنَ على قبره مشهد ولا مزار. وقال إن تلك المقبرة ذكَّرَتْه يوم رآها بمقبرة البقيع. وذلك لما كانت تتسم به يومئذ من بساطة وتواضع.

العلامة محمد الخضر ابن مايابى:

يقول الشيخ محمد حبيب الله في اثنتين من رسائله التي وصلت الشيخ سيديَ بابَه: «يسلم عليكم أخونا العلامة محمد الخضر». وذكر في إحداهما أنه (أيْ محمد الخضر) أرسل له رسالة، ولم يدر هو الآخر أوصلت إلى الشيخ سيديَ بابَه أم لم تصل؟

ومن ورع الشيخ محمد الخضر أنه أرسل من المغرب إلى الشيخ سيديَ بابَه يطلب منه أن يسمح له ما كان صدر منه تجاهه من اتهامات ومآخذ على فتاواه وموقفه المهادن للفرنسيين. ذلك بأن نظرته للأمور قد تغيرت بعد اطلاعه على جانب من أحوال الأمة مشرقا ومغربا، ورأى بعينيه إبادة الفرنسيين للجيش المغربي قرب مدينة فاس.

وهذا التراجع مما يُعرِض عنه أكثر المتحدثين فى حوارات نوفمبر جهلا أو تجاهلا، بينما تقتضي الأمانة العلمية والتاريخية والفكرية استكمال آراء العلماء والأبطال وغيرهم من الشخصيات التي بتناولونها في طاولاتهم. خصوصا إذا كان المرءُ عالما، لأن العالمَ إنما يؤخذ بالآخِر فالآخِر من أقواله، كما يقول الأصوليون فى مبحث ناسخ السنة ومنسوخها. فما استقرّ عليه رأيه، وترجَّح لديه مما يعارض أقواله السابقة، فهو مذهبُه وموقفه الحقيقيّ الذى ينبغي أن ينسب إليه. وإنما يُذكر الأول من باب الأمانة والتاريخ، أو إذا كان تاريخ أحدهما أو كليهما مجهولا.

ونحن فى هذه الحال نعرف يقينا أن تراجع هؤلاء الأجلاء عن مخالفة الشيخ سيديَ بابَه متأخر عن مواقفهم المخالفة له. فما الجواب عن هذا الإعراض المتعمد والتجاهل المقصود، أو الجهل بحقيقة موضوع يتناوله المتحدث أمام السامعين؟

حدثني العلامة الشيخ عبد الله ابن بَيَّه في قَدمته الأخيرة إلى نُواكشوط من أرض الحجاز يوم 7 يناير المنصرم من هذا العام 2015م، قال: «سمعت شيخنا (يعني والدَه الشيخ المحفوظ) يقول: إن محمد الخضر بن مايابى[143] حضر معركة عظيمة بين الجيش الفرنسي والجيش المغربي بقيادة السلطان مولاي عبدالعزيز، الذي كان يقول لمحمد الخضر: "ادع الله يا شيخ كلما سمع أصوات المدافع الهائلة". ولما انتهت المعركة بمقتلة عظيمة في صفوف الجيش المغربي، هال ذلك محمد الخضر لما رأى من سفك دماء المسلمين، ثم أرسل مع محمْد أحِيدْ بنِ مَحَمّْ التركزي رسالةً إلى الشيخ سيديَ بابَه يطلب منه فيها أن يسمح له ما كان صدر منه تجاهه».

ويضيف الشيخ عبد الله: «كان محمْد أحِيدْ هذا صديقا لشيخنا (الشيخ المحفوظ) كثيرَ الذِّكر له مشهورا بالعقل والتجربة والشعر الحساني، وقد عميَ في آخر عمره. وكان تلميذا للشيخ ماء العينين، فلما عاد إلى موريتانيا ذهب إلى ابن أخيه الشيخ التراد في الحوض، فكان كثير التردد بين الشيخين: التراد والمحفوظ.

ذهب محمْد أحِيد بنُ مَحَمّْ التركزي مرة إلى أهله في البراكنة حيث وَفَد في وَفْد من أهاليها إلى الشيخ سيديَ بابَه في ضائقة ضاقت بإحدى المجموعات هناك، فكانت مفاجأتُه أن التفت إليه الشيخ سيديَ بابَه وقال له: "أين الرسالة التي أرسلها لي معك محمد الخضر ابن مايابى؟" فردَّ مُحمْد أحِيد قائلا: "الرسالة ضاعت عليَّ، لكني أتذكر فحواها: يسلم عليك محمد الخضر ويطلب منك أن تسمح له ما كان بدر منه تجاهك". فأجابه الشيخ سيديَ بابَه قائلا: "لم يَبِتْ ليلة واحدة إلا وهو في حِلٍّ مني، لكنْ حمدًا لله على اطلاعه على ما كان ينقصه الاطلاع عليه". بالحسانية: "الحمد لله اللِّي زالْ عَنُّ لِغْبَا». وختم الشيخ عبدالله ولد بَيَّه كلامه قائلا: «أنا لا أكتم عن أحد استصوابي لموقف الشيخ سيديَ بابَه من الاستعمار، وكذلك كان الوالد - يعنى الشيخ المحفوظ - الذي لم يكن يعدِل بالشيخ سيديَ بابَه أحدا».[144]

خاتمة:

أوْرَدت هذه الروايات هنا بطولها لأهميتها، ولما  يتمتع به أصحابها من مصداقية في هذا المجتمع الذي ننتمي إليه جميعا. فهل من المستساغ أن يكون عبدالقادر بن محمد بن محمد سالم، المعروف بعلمه وورعه ودرايته بأحوال المجتمع، خصوصا أهالي إنشيري والترارزة وآدرارْ وتيرس، قد تعمَّد من غير داع يلجئ إلى ذلك تصويبَ فتوى خاطئة وإبطالَ هجرته إلى الله والتخلفَ عن الجهاد بنفسه وأبنائه وحضرته، بعد أن تجاوز التسعين؟

هل يتصور عاقلٌ أن يكون قارئ ومحدث وفقيه من حجم محمد حبيب الله بن مايابى، قد وصف مِن بيت الله الحرام مَن يعتقد فيه العمالة أو الكفر أو النفاق بعالم العلماء وولي الأولياء وذكي الأذكياء وأديب الأدباء وصوفي الفقهاء وأقرإ القراء وأبلغ الشعراء فائق النظراء بل عديم الشكل في الأحياء الجامع بين الشريعة والحقيقة، مَن له في كل فن وكلِّ مكرُمة أعزُّ طريقة، مركزِ دائرة المعارف والعلوم، الجامع بين علم الحقائق وعلم الرُّسوم، الأستاذِ العالم الكبير المحدث الكامل الولي العارف ذي الفضائل الجمة والفواضل الشيخ سيديَ...»؟

وقد تم التركيز في هذه الحلقة على علماء معيَّنِين كابن حبت وابنيْ مايابى وعبدالقادر بن محمد بن محمد سالم وغيرهم من الأعيان، لأنهم قد خالفوا الشيخ سيديَ بابَه أول الأمر في موقفه من نازلة الاستعمار ثم وافقوه بعدُ. وعلى كل حال، فإن مكانتهم العلمية والدينية في المجتمع ودرايتَهم التامة بموضوع هذه السلسلة معلومة لا يجهلها أحد.

وإلا فمن المعلوم أن الشيخ سيديَ بابَه مُمَدَّحٌ كثيرُ المدائح جدا، خصوصا من قِبل فطاحلة العلماء المعاصرين له، وتكاد مدائحه ومراثيه تشَكّل ديوانا من أعظم دواوين الشعر العربىّ في المديح والرثاء، ناهيك عن الحساني. فقد مدحه جلة العلماء والأدباء من كل القبائل والجهات من أمثال صديقه وخليله محمد فال بن بابه بن أحمد بيبه العلوي والشيخ محمدُّ بن حنبل الحسنىّ والشيخ محمد أحمد بن الرباني التندغىّ والشيخ أحمدُّ بمبا البكِّي وابنه الشيخ محمد المصطفى ومحمدُّ النانة بن المعلَّى الحسنىّ وأحمد بن الأمين أبي الدين بن عبدالرحمن بن المختار بن حبيب الجكني وأحمد ابن أحمد بن سيد أمين الشقروي وأحمد بن السالم بن محمود وأحمد بن البشير الغلاوي وأحمد بن محمد الإدامي اليعقوبي وأحمد بن حبيب الله بن الفاضل وأحمد بن محمود بن محمد محمود بن فتى والبشير بن عبدالله بن امباريكي والدِّى ابن المصطفى بن سيد الشافعي التندغي والحسن بن محمد بن أبنو ومحمذ فال ابن محمد مولود المبارَكيِّ المشهور بالدَّدَوْ والمختار السالم بن بعبد والمختار بن أحمد بن محمد بن احميد والمختار بن المصطفى بن أحمد مولود الجكني والمختار بن المعلَّى والمختار بن حنبل وحامد بن بدح وحبيب الله بن أحمد بن حبيب الله الحسني وحبيب الله بن محمد بن محمود وسعيد بن عبد الله ومحمد محمود بن اكرامه المجلسىّ الملقب دحمود وسيدي محمد بن المختار وسيدي محمد بن المختار بن المعالي اليعقوبييْن وسيدي بن محمد جد وعبد الله بن محمد بن ءابل وعبد الودود بن حميه الأبيارىّ، ولمهابه بن الطالب إميجن الأجملي، ومحمد المصطفى بن الطالب المسومىّ، ومحمد بن ءابَّوّ ومحمد بن البشير بن سيد أحمد بن الأمين أحمد ومحمد بن حرمه بن أحمد بابه ومحمد بن سيد أحمد ومحمد بن سيد محود بن السالم ومحمد بن محمد بن الحصن ومحمد بن محمد فال بن أحمد بن عباس ومحمد بن يداده الحسنىّ، ومحمد عبد الرحمن بن أبي بكر بن فتى ومحمد فال بن عينينا الحسنىّ ومحمد الأمين بن الشيخ المعلوم البوصادي، ومحمد محمود بن أحمد الواقف المالكي، ومحمد محمود ومحمد عبد الله ابني أحمذيَّه الحسنيين، ومحمد محمود بن الحسن ومحمد مختار بن عبد العزيز ومحمد مولود بن أحمد ومحمذ فال بن أحمد محمود بن أحمد ومحمذ فال بن سيدي مولود وامحمد بن محمد رارَه ومحمد بن الكوري بن محمد خويا المجلسي ومحمد عبد الرحمن ولد المبارك ولد اليمين القناني... إلى آخر القائمة الطويلة؛ وذلك منذ صغره إلى ما بعد وفاته بعقود؛ وربما يكون لهذه المدائح وأصحابها ذكر في مناسبات أخرى إن شاء الله تعلى. ومن الملاحظ أن جل المذكورين من كبار العلماء المعروفين والشعراء المرموقين لذلك العهد. وإذا أتيت إلى المراثى فالأمر أعجب. أما الرسائل فهي أعمُّ وأغزر.

وقد كُتبت هذه الأسماء هنا على نحو ما وُجدت بخطوط أصحابها، الذين يأتون بالاسم تارة دون ذكر القبيلة وتارة يذكرون القبيلة. وبالله التوفيق. (يتواصل إن شاء الله تعلى)

 

الشيخ سيديَ بابَه وموقفُه من نازلة الاستعمار (الحلقة التاسعة)      (حقائق - تساؤلات - تحليلات - تصويبات - وثائق)

د/ أحمد بن هارون ابن الشيخ سيديَ         [email protected]

الحلقة التاسعة

إذا كانت العلاقات والمراسلات التي جرت بين قادة المهادنة والمستعمر الفرنسي معروفة وأغلبها منشور متداوَل، فإن قليلا من الموريتانيين، خصوصا من أبناء الجيل الحالي، مَن اطَّلع على علاقات ومراسلات الطرف الآخَر مع المستعمريْن الفرنسي والإسباني، مما يجعل من المستحسَن إيراد نماذج منها في نهاية هذه الورقات المختصرة حول الشيخ سيديَ بابَه وموقفِه من نازلة الاستعمار.

واستكمالا للصورة ودعوةً إلى ملء الفراغ وتسليط الضوء على الحلقات المفقودة من تاريخ البلد والمجتمع، سيتم الحديث في هذه الحلقات الأخيرة، بحول الله، عن بعض رموز الطرف الآخر، كالشيخ العلامة العَلَمِ ماء العينين؛ والأمراء: سيد احمد بن أحمد ابن عيدة وأحمدو بن سيدي اعلي وبكار ابن اسويد احمد وأحمد ابن الدَّيْد وإماراتهم، بالإضافة إلى أهالي المنطقة الشرقية من البلاد: ما هي الأسس الشرعية والواقعية التي كان هؤلاء يؤسسون عليها مواقفهم؟ وعلى أي قوة كانوا يعتمدون وبها يستعينون؟ وكيف كان هؤلاء القادة يتعاملون مع المستعمر الأوربي؟ وكيف كانت علاقاتهم بالشيخ سيديَ بابَه؟ مع مدخل تمهيدي يحوي نماذج من الفتاوى القائلة بوجوب الجهاد والهجرة على أهل هذه البلاد... على أن تُخصَّص هذه الحلقة التاسعة بالذات للشيخ ماء العينين وحضرته؛ وذلك عبر العناوين التالية:

نماذج من فتاوى الطرف القائل بالجهاد والهجرة؛
مقاطع من ترجمة أحمد ابن الأمين العلوي للشيخ ماء العينين؛
عرض للعلامة المؤرخ محمد بن مولود بن داداه حول مسيرة الشيخ ماء العينين؛
 الشيخ ماء العينين والسياسة الخارجية والجهادية لسلاطين المغرب؛
البعد الوطني وحساسيتُه في تاريخ المقاومة:
مهادنة الشيخ ماء العينين للاستعمار الإسباني؛
نماذج من مراسلات كبار أبناء الشيخ ماء العينين مع الإسبان؛
نماذج من علاقة الشيخ ماء العينين بالألمان والعثمانيين:
العلاقات والصلات بين الشيخين: سِيدىَ بابه وماء العينين وحضرتيْهما؛
خاتمة.

نماذج من الفتاوى القائلة بوجوب جهاد الفرنسيين على أهل هذه البلاد:

ذهبت مجموعة من علماء هذه البلاد إلى وجوب جهاد النصارى، مؤكدين أنهم، وإن كانوا أكثر عددا وعدة، فإن مهادنتهم المفضية إلى التنازل لهم عن السيادة والتمكين لهم في أراضي المسلمين مخالفة شرعية يعتبر فاعلُها مجرما في حق الإسلام، أميرا كان أو عالما أو فردا عاديا، وأنه ينبغي تعريضه لأقسى العقوبات الدنيوية من إهدار دم ونهْب مال واستباحة حمى، وأن مَصيره في الآخرة النار.

يقول الشيخ ماءُ العينين بن الشيخ محمد فاضل في رسالة له بعنوان: "هداية من حارا في أمر النصارى": «واعلم أن المتكلم لهؤلاء المسلمين في هؤلاء النصارى لا يخلو من أحد أمريْن: إما أن يقول: الجهاد ليس بواجب، أو هو واجبٌ. فإن قال بالأولى كفر، لجحده ما عُلم من الدين بالضرورة. وإن قال بالثاني، قلنا له: على مَن يجب؟ وفيمن يجب؟ فإن قال: على المسلمين في الكفار، قلنا له: وهؤلاء مسلمون، وهؤلاء كفرة أم لا؟ فإن قال: لا، قلنا: كفرت، لأنك أخرجت من الإسلام من لم يخرج عنه، وأدخلت فيه مَن لم يدخل فيه. وإن قال: نعم، قلنا له: الحمد لله، فلم يَبق إلا النظر في حكم هؤلاء الكفار ومالهم وحكم هؤلاء المسلمين معهم: هل المسلمون فعلوا ما هو واجب عليهم؟ أو حرام؟»

ثم بيَّن حكم الجهاد وحكم الغنيمة، مستدلا بالقرآن والحديث وكلام الفقهاء؛ وقال: «واعلم أن آية "أذن للذين يقاتلون" هي أول آية نزلت في القتال بعدما نهي عنه في نيف وسبعين آية. ثم تتابع الأمر به في كل آية، نحو: "قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر"؛ ونحو: "فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم"؛ ومن ذلك: "وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة"؛ ومنه يا أيها النبيء جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم"؛ وقوله: "كُتب عليكم القتال وهو كرُه لكم". فهذا كله معنى واحد، وإن اختلفت ألفاظه، فكلها أمر بالقتال ومجاهدة الكافرين. والآي كلها محكمة لم يُنسخ منها شيء. فالأمر بالقتال وإباحته في كل مكان وكل زمان ناسخ لجميع ما جاء في القرآن فيه الصبر على الأذى من المشركين واللِّين لهم والصفح والإعراض عنهم والعفو والغفران لهم. وكثرةُ هذا في القرآن وشهرتُه تغني عن استجلابه، ويكفي منه النظر في كتابه.

وأما الحديث فهو أيضا أشهر من أن ينكر، أكثر من أن يحتاج أن يُشهر. ويكفي من ذلك ما أتى به موطأ مالك والبخاري ومسلم والترمذي والنسائي وأبو داوود... وكان صلى الله عليه وسلم يقول: "من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار". وكان يقول: "من قاتل في سبيل الله فُوَاقَ ناقة وجبت له الجنة"، وفي رواية: "رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل، وخير من صيام شهر وقيامه. وإذا مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمِن الفتَّان.

وأما الفروع، فلا أعلم أحدا من أهل الفروع قال بعدم وجوبه. وفي رحمة الأمة: "اتفق الأئمة على أن الجهاد فرض كفاية، فإذا قام به من فيه كفاية من المسلمين سقط الحرج عن الباقين. وعن سعيد بن المسيب أنه فرضُ عين. واتفقوا على أنه يجب على أهل كل ثغر قتال من يليهم من الكفار، فإن عجزوا ساعدهم من يليهم، الأقرب فالأقرب. وقال خليل: "والجهاد في أهم جهة"، ولا أعلم جهة في هذه البلاد أهم من "الداخلة"، لكونها جامعة للجهاد وللرباط في الثغور، أي الفُرَج التي تكون بين المسلمين والكفار.»[145]

ويقول الشيخ مربيه ربه بن الشيخ ماء العينين في "لبانة المجاهدين": «اعلموا أن الجهاد في هذا الزمن فرض عين وحقٌّ على كل مسلم أن يجعله نصب العين، ولو كانت عينيتُه لا تحتاج إلى تبيين، لِفَجْء العدو جميعَ بلاد المسلمين، قال في المختصر: "وتعيَّن بفَجْء العدو وإن على امرأة وعلى من يقربهم إن عجزوا".

إلى أن يقول: «والخوفُ على الأهل والمال لا يبيح ترك الهجرة. ومن رضي بالمقام مع الكافرين، فهو مارق من الدين ومنخرطٌ في سلك الملحدين. ومن هاجر معهم وحصل له ندم لضيق معاش أو عدم انتعاش، فلا رخصة له في الرجوع ولا عذر. ولا يُباح لأحد الدخولُ إلى بلادهم، حيث تجري عليه أحكامهم؛ وهذا أمر معلوم من الدين ضرورةً. ولله درُّ القائل:

ونهجُ سبيلي واضحٌ لمن اهتدى--ولكنها الأهواء عمَّتْ فأعْمَتِ.»[146]

كما أورد الشيخ مربيه ربه في تأليفه المسمى: "صولة الكار وملجأ الفار في تحريم الإقامة مع الكفار"، كلاما شديدا في مَن هادن الفرنسيين أو أقام معهم. ثم نقل كلاما من كتاب "بغية المساعد في أحكام المجاهد" للسيد أحمد الشريف السنوسي، وأسقطه عليهم.

يقول الشيخ مربيه ربه: «وفي "بغية المساعد في أحكام المجاهد" من هذا الأسلوب، وغيره مما يتعلق بالجهاد، ما يكفي ويشفي؛ وفي بعض نصائحه زاجرا عن الإصغاء لمن في ولايتهم، قال: "فاحذروا تغرير أولئك المتسمّين بسمة الإسلام، وليسوا منه في شيء، احذروا أن تسمعوا لهذرهم وخرفهم، احذروا ما ينفثونه من سمومهم، احذروا دعوتهم إلى الاستسلام للعدو والخضوع له، فإنهم منافقون يُرضُونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم وأكثرهم فاسقون؛ خضعوا لعدوهم وباعوا دينهم بدنياهم، وصاروا من أعوانهم يقودونهم ليمكنوهم من أراضي إخوانهم...»[147]

وفي رسالته المسماة: "مهدية الحيارى إلى حكم من غلب على وطنه النصارى"، أورد العلامة سيدي محمد بن حَبَتْ الغلاوي كثيرا من الآيات القرآنية الدالة على فضل الجهاد وما وعد الله أهله من حسن الجزاء. ثم يضيف قائلا: «والجهاد يتعين على كل أحد إذا احتل الكفار بلدا من بلاد المسلمين، ولا يُسقط فرضَ الجهاد خوفُ محارب أو لص، لأن قتالهم أهم (...) تنبيه: ما ذكره ابن شعبان من أن قتال المحاربين أفضل من قتال الكفار، إن حُمل على ما إذا لم يكن ضررهم أشد ولم يكن الجهاد واجبا؛ وذلك فيما إذا حُميت أطراف المسلمين وسدت ثغورهم كان ذلك محل اتفاق.»[148] وقد راجع العلامة سيدي محمد بن حَبَتْ موقفه هذا وعاد إلى بلاده وكاتب الفرنسيين يوم 19 يوليو 1909م، بعد أن تبيّن له حكمٌ شرعيٌّ آخر.

وكتب العلامة محمد المختار بن انبالة التيشيتي رسالة سماها: "نصيحة الأقوام في الحث على الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام"، جاء فيها: «ففي الآيات والأحاديث التي تقدَّم ذكرُها أدلةٌ واضحةٌ على وجوب المهاجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وكذا على أرض لا يتمكن الرجل فيها من إقامة دينه لكثرة الفساد فيها. فيجب على كل مؤمن بها أن يخرج عنها ويتركها ولو كان يمشي على رجليه، بل لو أدى إلى مفارقة عياله وأمواله وجميع أهله، كما تقدم التنبيه إلى ذلك. ولا حجة لمن قال إن جميع البلاد صائر للنصارى ملكا، لأن من البلاد ما لا تكون دار كفر أبدا، كمكة والمدينة واليمن ونحوها من سائر أرض الحجاز المشار إليها بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا يبقينَّ دينان بجزيرة العرب". وأيضا فإن كل بلدة لها إمام يقيم فرض الجهاد فهي جديرة بأن يهاجَر إليها من أرض ليس بها إلا النصارى أو عبيدهم. وأما جهاد المسلمين لهم دون إمام، فقال فيه زروق، رضي الله عنه في بعض وصاياه ما نصُّه: "الخروج إلى الجهاد بغير إذن جماعة المسلمين وسلطانهم، سُلَّم الفتنة وقلَّما اشتغل به أحد فأنجح". فجهادهم في هذه البلاد دون إمام محضُ ادِّعاء وكذب، وليس بجائز أيضا عند بعض العلماء.»[149]

كما ذهب هذا المذهبَ علماءُ آخرون، فنشروا رسائل تصب كلها في وجوب الهجرة والجهاد، خصوصا جهادَ الدفع، ونصوصَا مبيِّنةً لفضلهما وفضلِ الشهادة في سبيل الله.

ومن الجدير بالذكر أن أيا من العلماء المفْتين بجواز مهادنة الفرنسيين وسقوط فريضة جهادهم عن أهل هذه البلاد، لم ينكر تلك النصوصَ وما تضمنته من مبدإ وجوب الجهاد لإعلاء كلمة الله وفضل الشهادة في سبيله، بل لا يخالفهم في ذلك مسلم! وإنما كان الخلاف بين الطرفين حول تنزيل أحكام الجهاد على واقع البلاد لذلك العهد خاصة، كما سبق تفصيلُه في الحلقتين الخامسة والسادسة من هذه السلسلة.

وإذا كان من الأنسب هنا والأشفى للغليل تخصيصُ حلقة لمناقشة أدلة كل من الطرفين ورد بعضهما على بعض، إلا أن المَقام يضيق في هذه الورقات المختصرة عن إعادة طرح ذلك النقاش العلمي والاجتهادات الأصولية المستفيضة، والمتواصلة عقودا بعد ذلك.

ففي بداية عقد الخمسين من القرن العشرين الميلادي، همَّ الإمام بُدَّاه بن البوصيري وجماعةٌ من علماء البلد بانتهاز فرصة الحج للهجرة عن بلادهم التي ما زالت وقتَها تحت مظلة الاحتلال الفرنسي، فطرحوا ذلك على الإمام العلامة المفسر محمد الأمين بن محمد المختار (آبَّ ولد اخطورْ) الجكني الشنقيطي، فكتب لهم رسالة علمية بيَّن فيها أحكام الهجرة غاية البيان، وردَّ على القائلين بوجوب الهجرة عن البلاد الشنقيطية بذريعة احتلالها من قبل الفرنسيين، قائلا في مستهلها: «وبعدُ، فهذه نقلة في غاية الاختصار لتزاحم الأشغال الشاغلة للبال، تُبيِّن بعض العُذر للقاطن في قطر شنقيط ممن لم يهاجر من تلك الأرض، إذْ هي وطنه وبها عامة أسرته.»

ويعبِّر الشنقيطيُّ في هذه الرسالة عن حسْرته وألمه الشديديْن لكون الكفار أخفَّ ضررا على المسلمين من نفْس المسلمين، واصفا ذلك بالفضيحة، قائلا:

«مع أن المنصف حَقَّ الإنصاف يعلم أن المتغلبين المخالفين في الدين أخفُّ ضررا على المسلمين من نفس المسلمين، لأنهم وجدوا بلادا سائبة يقتتلون الليلَ والنهار بالإثم والعدوان، لا حاكم عليهم ولا زاجر لهم، وربما استمر الحرب بين القبيلتين أكثر من أربعين سنة، مع أنه لا أمْنَ للضعيف على مالٍ ولا نفْس، فلما جاءوا أسكنوا الفتنة وأمَّنوا الطرُق وهيَّئُوا أسباب التجارات... وهذه المنافع أكثر من المَغْرم الذي يأخذون ضريبة على الحيوانات والتجارات. وأكثر البلايا والمحن لبعض المسلمين من بعض. فإنا لله وإنا إليه راجعون. وكفى المسلمين عارا أن النصارى خير منهم للمسلمين، وأنهم هم الذين يمنعونهم أن يقتل بعضهم بعضا! اللهم استرنا بسترك الجميل. وافضيحتاه!»[150]

من ترجمة أحمد بن الأمين للشيخ ماء العينين:

يقول أحمد بن الأمين الشنقيطيُّ العلويُّ، صاحبُ الوسيط: «الشيخ ماء العينين، هذا علَم اشتهر به، واسمُه مصطفى بن الشيخ محمد فاضل بن مامينَّ. هو العلامة الوحيد، له معرفة بعلوم الشرائع من الحديث والتفسير والفقه وغير ذلك.

(...) كان هذا الشيخ فاضلا كريما لا يوجد أحسنُ منه أخلاقا؛ وقد اجتمعتُ به حين خروجي من مدينة شنقيط إلى مراكش في توجهي إلى الحجاز ورأيت منه ما حيرني، لأني أقدّر من معه في وادي السمارة من الساقية الحمراء بعشرة آلاف شخص، ما بين أرملة ومزمن وصحيحِ البنية وكل أصناف الناس، وكل هؤلاء في أرغد عيشة، كاسيا من ذلك الشيخ؛ ويزوج الشخصَ ويدفع المهرَ من عنده ويجهِّز المرأة من عنده، مع حسن معاشرته لهم، لا فرق عنده بين ولده والمحسوب عليه؛ ولا يمضي عليه يوم إلا وقد بعث قافلة تأتيه بالميرة، وقدمتْ إليه أخرى تحملها؛ ومتى بلغ الإنسان قريبا منه يسمع دويَ مريديه يذكرون الله وينشدون الأدعية، ورأيته في تلك الأيام التي أقمت عنده لا تفوته صلاة الجماعة في أول الوقت مع كبر سنه وضعف جسمه؛ وبعد صلاة العصر يسردون له الحديث وهو يسمع، ثم يشرح لهم بعض المواضع منه.

(...) ولما أراد الفرنسيون احتلال شنقيط وصحرائه، أرسل إليهم الشيخ ماء العينين يحضهم على الدفاع ويمنيهم بمساعدة السلطان لهم، وكانوا يعتقدون ان السلطان أقوى من الفرنسيين، فبعض القبائل سالمهم وبعضهم جعل يقطع عليهم الطريق ويحاربهم من بعيد بالهجوم ليلا ونحو ذلك. ثم إن الشيخ بعث إليهم أحد أشراف فاس وأخبرهم بأنه هو خليفة السلطان عليهم، فقدموا إليه من كل الجهات، وكان ذلك الشريف حازما مدبرا، فوقعت بينه أيامٌ مع الفرنسيين انتصر في بعضها وخذل في بعض؛ فلولا قلة الفرنسيين وكثرة الصحارى والجبال لقهروهم في أوَّل وهلة؛ ولولا رداءة سلاح أهل الصحراء وعدم انتظامهم في أنفسهم لدافعوهم سنين كثيرة، على أنهم ما دخلوا آدْرارْ منذ دخلوا تجكجه إلا بعد سنين، وهما كالشيء الواحد.

ولولا ما يعِدهم الشيخ ماء العينين به من إنجاد السلطان لسلموا لهم أيضا، فطال الروغان، فلما علم الشريف بعدم الفائدة رجع إلى فاس، لان العرب لما طال عليهم الأمر فنيَتْ مواشيهم وكابدوا كثيرا من الشدائد، فصاروا يهربون إلى افرانس ويصالحونهم، ثم بقيت تلاميذ الشيخ ماء العينين، وما انضم إليهم من شُذَّاذ الناس وصعاليكهم يناوشون الفرنسيين، حتى احتلوا مدن آدْرارْ، فتركوا محاربتهم ولجأ الشيخ إلى تيزنيت من أرض سوس؛ وتوفي، رحمه الله، سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة وألف.»[151]

مقتطفات من عرض للمؤرخ الكبير محمد بن مولود

بن داداه حول مسيرة الشيخ ماء العينين:

يقول في عرضه الشفهي أمام محكمة العدل الدولية بلاهاي حول مسيرة الشيخ ماء العينين العلمية والروحية والسياسية: «سنسلط الضوء إذن على حياته، مقتصرين في ترجمته على الوقائع والحقائق المنيرة، مهملين - عن قصد - سَرْدَ الحكايات والروايات. وسنتعرض لعائلته والمراحلِ التي مرت بها مسيرتُه الشنقيطيّةُ، ثم نخلُص إلى مشواره المغربي. أما مصادرنا فهي مباشرة، فالمعلومات المستعملة هنا مأخوذة إما من كتابات الشيخ نفسه، أو كتابات ذويه، خصوصا كراسات ابنه النعمة، المتوفى سنة 1920؛ وقد احتفظت العائلة في موريتانيا بنسخ منها. كما قمنا بمراجعة المخطوطة رقم 1434 لدى الخزانة العامة بالرباط.

لقد لفت الشيخ ماء العينين انتباه الإدارتين الفرنسية والاسبانية. وتَكاد الكتابات التي يُصدرها وكلاء وموظفو وضباطُ هذين البلدين، خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، تُجْمِعُ على تخصيص حيز منها - مُهِمٍّ أحيانا - للشيخ ماء العينين؛ وكذلك الكتابات المهتمة بالدين والسياسية الإسلامييْن. وبطبيعة الحال، كانت تلك الكتابات، كغيرها من كتابات ذلك العصر، تنقصها الجدِّية، في الغالب، وتحوي أخطاء كثيرة وتواريخَ مغلوطة وآراءَ مشكوكا فيها.

واستثناءً من هذا نشير إلى مقال رصين غني بالمعلومات للأستاذ الراحل ليفي ابروفانسال (Evariste Lévi-Provençal)، الذي نعرف مساهمته في كتابة تاريخ البلدان الثلاثة المعنية بالقضية المطروحة أمام المحكمة. والمقال المذكور موجود في الموسوعة الإسلامية (ط1, مجلد3، 1936، ص 58-59). كما نشير إلى ما كتبه مستعرِبٌ آخر هو هـ. ت. نورّيس، بعنوان: الشيخ ماء العينين القلقمي[152].  فقد قدّم هذان العالمان قائمة بجُلّ الكتابات المتعلقة بالشيخ ماء العينين، مما يكفينا مُؤنة إعادة إنتاجها.

(...) ما إن أنهى الشيخ الشاب تعليمه حتى سافر إلى مكة سنة 1857؛ وفي شهر يوليو من عام 1858 أكمل مناسك الحج، وأثناء عودته مرّ بكل من المغرب والجزائر ومصر. لكن والده أمَره، مباشرةً بعد رجوعه إلى مسقط رأسه سنة 1860، بالتوجُّه إلى آدرار والإقامة فيه، فكان ذلك آخرَ عهد له بالحوض، موطنِه الأصلي.

كانت إمارة آدرارَ، مَقْدَم الشيخ إليها، تعيش أزمة الاستخلاف، التي انتهت سنة 1872 بتأمُّر أحمد ولد امحمد. عاش الشيخ حياة الرُّحل، متنقّلا بين واحات شنقيطي وأطار، حيث حاز فيها بعض العقارات. وقد أدّى ظهوره هناك إلى انجذاب متزايد للمريدين وتدفقهم إليه من كل مكان.  لكنه واجه بعض الصعوبات عندما أراد أن يلعب دورا سياسيا. كما أدى الخلاف الذي وقع بينه سنة 1876 مع كل من أمير آدرار وقبيلة أولاد الدليم إلى التفكير في الرجوع إلى الحوض، لينتهي به المطاف إلى العدول عن مشروع العودة، والتوجُّه بخيله ناحيةَ الغرب، إلى منطقة تيرس، التي تحكمها الآن كل من إسبانيا والجمهورية الإسلامية الموريتانية. هنا بدأ نفوذه في الانتشار بين القبائل التي عاش بين ظهرانَيْـها وحتى خارجها.

كانت الحقبة الزمنية الممتدةُ من 1877 إلى 1886 حِقبةَ الشيخ حقا، حيث تضاعف نفوذه وتدفق عليه المريدون والأتباع وألَّف فيها معظم تآليفه. وهناك،،في تلك المنطقة، لقيه المستكشف الفرنسي كاميل دول، سنة 1877.[153]

إلا أن بابا آخر كان قد انفتح للشيخ، وهو باب المغرب، الذي لم يكن يريد فيه - بداية - سوى ربط بعض العلاقات مع الوسط الثقافي هناك. فقد سبق له بالفعل أن أبدى رغبته في طبْع مؤلفاته في هذا البلد الذي عرف الطباعة الحجرية في عقد الستينات من القرن التاسع عشر، يريد بذلك نشر علمه. وفعلا طُبع العديد من مؤلفاته في فاس بفضل نشاط مريديه من الشناقطة، وبمساعدة من مريديه المغاربة الذين بدءوا يدخلون في طريقته الصوفية.»[154]

الشيخ ماء العينين والسياسة الخارجية والجهادية لسلاطين المغرب:

كان الشيخ ماء العينين يربط مجاهدته ومسالمته للفرنسيين بـ"الأجَنْدَا" الوطنية والجهادية لسلاطين المغرب. وكان المغرب، بوصفه آنذاك دولة مستقلة كبرى، ما زالت إلى ذلك الوقت تطمح لمعاملة الدول الكبرى معاملة الند بالند، يسعى جهدَه لمضايقتها، خصوصا فرنسا، وسدِّ الباب أمام حركتها التوسعية نحو المغرب الأقصى وما يحاذيه من بلاد السيبة.

وقد أورد الشيخ محمد الامام بن الشيخ ماء العينين في كتابه: "الجأش الربيطْ في النضال عن مغربية شنقيطْ"، رسالتين للشيخ ماء العينين، يربط فيهما مجاهدته للفرنسيين ومسالمتَه إياهم بما يقرره السلطان من ذلك. إحداهما موجهة إلى السلطان مولاي عبدالعزيز، والثانيةُ موجهة إلى وزيره أبي حماد. وهذا نص الرسالة الأولى:

«الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله. أميرَ المؤمنين، ظِلَّ الله على الأرضين، خليفةَ جده سيد المرسلين: مولانا عبدَ العزيز، نصركم الله وأعزكم، وسلام عليكم ورحمة الله تعلى وبركاته، مادام الكون وحركاته وسكناته. ثم ليكن في كريم علمكم أن نصارى أنْدَرْ بلغنا عنهم بخبر التواتر أنهم مشتغلون في النهوض لأدرارْ، فلتنظروا حفظكم الله فيما يصلُح للمسلمين. لأنهم، لعنهم الله، مشتغلون في ذلك بشراء الجمال والقِرب وغيرهما مما يصلح لأسفار الصحاري، حفظكم الله وأيدكم في كل أمر جار. والكثير من الناس لا يقول إلا هذه البلاد لمولاي الحسن رحمه الله، وابنِه مولاي عبدالعزيز، نصره الله، وما أرسل لنا مولاي عبد العزيز نفعله، وما لا فلا. والله المرجو لنصركم بالتمام، وعلى المحبة والسلام. في 1 محرم عام 1318. عبيد ربه ماء العينين بن شيخه الشيخ محمد فاضل بن مامين، غفر الله لهم وللمسلمين، آمين.»[155]

وفي نفس الموضوع راسل الشيخ ماء العينين الوزير أبا حماد في السابع من محرم 1318هـ، الموافق ليوم 3 مايو 1900م قائلا: «وبعد، فليكن في كريم علمكم أنا طرأ علينا من الخبر ما لم يتبين لنا إلا وجوب إنهائه إليكم، وهو أن النصارى أهلَ أندر، لعنهم الله، ثبت عندنا بالتواتر أنهم مشتغلون بشراء الجمال والقرب، ومريدون بذلك النهوض لأدرار، وبقي من في البلاد متحيرا فيما يدخل معهم، فالبعض يقول نحن في بيعة مولاي الحسن وابنه مولاي عبد العزيز، ولا نقدر على فعل شيء حتى يخلف لنا مولاي عبد العزيز، والبعض يقول: إن خرجوا إلينا وقدرنا على قتالهم قاتلناهم، وإلا فإنا نهاجر عنهم. والآن اعلموا أنه ليس لأهل هذه البلاد في الحقيقة من الرأي والتدبير إلا ما صدر من جانبكم في الأمر، وليسرع بما هو مفعول قبل خروج النصارى إلى البلاد، فإن اقتضى النظر المولوي أن ترسلوا للنصارى من هنالك في المراسي أن البلاد بلادكم، ومن فيها في بيعتكم، ويكون ذلك كفا لهم عن البلاد ومن فيها: فبها ونعمت، وإن اقتضى النظر أن يرسل لمن هنا من أهل الشوكة والسلاح أنهم يتعرضون لهم ويقاتلونهم: فبها ونعمت أيضا، وإن اقتضى النظر غير ذلك فنظركم أوسع.

واعلم أن النصارى كثيرا ما تأتيني رسلهم طلبا للعهد معي، وأنا أمتنع لهم من ذلك أي امتناع، إلا إذا كان ذلك على يد السلطان نصره الله تعلى، وأقول لهم: إن الله تعلى يقول: يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، ونحن أولو أمرنا أمير المؤمنين نصره الله تعلى، فلا يكون بيننا معكم كلام إلا بواسطته.

والآن ما هو النظر عندكم، أحب أن أكون عارفا به لأقوله لهم إن أرسلوا لي، وإلا فلا كلام بيني معهم إلا بشيء صادر لي من جهتكم. حفظكم الله وأيدكم، ورزقنا وإياكم التوفيق لما يحبه بالتمام، وعلى المحبة والسلام، في سابع المحرم عام 1318. ماء العينين بن شيخه محمد فاضل بن مامين، غفر الله لهم وللمسلمين آمين.»[156]

كما أورد شبيهنا حمداتي ماء العينين رسالة خطية كتبها الشيخ مربيه ربه بن الشيخ ماء العينين للملك المغربي الراحل محمد الخامس، جاء فيها: «إن الأسلاف ما تركوه لنا فهو الذي عليه العمل وما زلنا في طاعتنا لهم وزيارتنا لهم من عهد مولاي عبد الرحمن (...) إلى أن أمرونا بجهاد فرنس لما نزلوا على البلاد، مع الشريف مولاي إدريس، حتى هاجرنا إلى تيزنيت؛ ولو أنهم أدخلونا سِلْمًا مع فَرَنْس لفعلنا. لكن لما توجهنا لفاس صرَّحوا لنا أن فَرَنْس امتنعوا لهم من قدومنا عليهم، فبقينا في أهل سوس حتى كان منهم ما كان.»[157]

ويقول ابن الأمين، صاحب الوسيط: «أما أمره له بالرجوع عن فاس، فإنه لم يكن عن نية سيئة، بل لأن السلطان، كان محتاجا إلى أن يستنجد بافرانس، وهم يعادون الشيخ المذكور، وكان السلطان يتوقع مجيئهم، فلو دخلوا فاس وقع السلطان بين أمرين: إما أن يتركهم وشأنهم به، فإن السلطان لا تسمح له مروءته بذلك، وإما أن يحدث ذلك ضغائن بينهم وبينه. فذلك مما يضر بصالحه، فأمره بالرجوع.»[158]

ويقول محمد بن مولود بن داداه في عرضه المذكور أعلاه: «وأما السلطان وحكومته فقد بدأت علاقة الشيخ ماء العينين بهم حوالي 1886. ونلاحظ أن الشيخ قام بنشاط ديني واجتماعي في الجزء الشمالي الغربي من بلاد شنقيطي، حيث نال صيته وتأثيره؛ وكانت رسالته حينَها دينية متمحضة، تتمثل في نشر الطريقة ومضاعفة تأثيرها، كما كان غيره من كبراء المشايخ الشناقطة يفعلون. (...) ولنخلص إلى المرحلة الأخيرة من حياة الشيخ، والتي دامت هي الأخرى ربع قرن، لنراه ينساب خلالَها تدريجيا في ما يمكن أن نسميه "الجَاذبية المغربية"؛ إلا أن الأمر لم يكن سهلا ألبتةَ، مما يحتِّم علينا تقسيم هذا المسار  المغربي إلى مراحلَ ثلاث:

ففي المرحلة الأولى، والتي سبقت دخول طلائع الاحتلال الفرنسي لموريتانيا، سنرى الشيخ يدخل شيئا فشيئا في عالَم المغرب.

المرحلة الثانية، اتسمت بدخول المستعمر الفرنسي إلى موريتانيا.

وأخيرا، نرى الشيخ في آخر حياته يحاول الدفاع عن الإسلام المعتدى عليه أولا، ثم يحاول بعد ذلك خلافة الأسرة الحاكمة في المغرب، وإعلان نفسه سلطانا.

ولْنبدأ بالمرحلة الأولى، دون الدخول في كثير من تفاصيلها المعروفة لدى الجميع.

خلالَ السنوات التي سبقت دخول الفرنسيين أرضَ موريتانيا (1890-1900) نرى الشيخ يرسم خطوطا أولى للتقرب من المحيط الرسميّ المغربيّ. فقد رأينا أنه ما إن وصل تأثيره إلى القبائل التابعة للمغرب، خاصة قبيلةَ تكْنَه، حتى بدأ في عَقد اتصالات دائمة مع مريديه وتلامذته في هذا البلد؛ وزار السلطان مولاي عبد العزيز عدة مرات. ولم يأت من الفراغ ما لاحظه المراقبون الأجانب وقتَها من معاملة السلطان وحاشيته للشيخ معاملة الشخصيات الأجنبية السامية.[159] (...) وعلى أية حال، كان الشيخ ماء العينين آنذاك الشيخَ الروحيَّ للسلطان، بالمفهوم الطرائقيِّ للكلمة. ولا داعي لتذكير المحكمة بتفاصيل هذه المرحلة، ففي العروض المغربية والكتابات المذكورة أعلاه ما يكفي من ذلك.

(...) قد يجوز لنا أن نعتبر أن الشيخ قد أصبح مغربيا، في هذا الوقت بالذات، فاحتلال موريتانيا من قِبَل فرنسا تزامن تماما مع دخول قوات هذه الأخيرة إلى المغرب. ليكتشف من هاجر هناك من الشناقطة أنهم وقعوا - دون علم - في مصيدة كبرى! فالمغرب الذي أصبح خاضعا للضغوط المعروفة، لم يعد مؤهلا لأداء واجب النصرة الذي وُجّه له. أوقف دعمه للشيخ، بعد أن أعطي الأوامر بإيقاف الأسلحة والتموينات التي كانت تأتيه على شكل سِلع مهرّبة. وأحيلكم هنا إلى الوثائق المقدَّمة من مختلِف الأطراف.»[160]

وكان ممَّن تأثَّر بتلك "الأجَنْدَا" الوطنية المغربية، الأمير سيد احمد بن أحمد ابن عيدَّة، الذي كان تلميذا للشيخ ماء العينين، وكان ابن هذا الأخير، الشيخ حسنا، مستشارا سياسيا للأمير. يقول الرائد الفرنسي افرير جان في مذكراته: «وصلتني رسالة من الأمير الشاب سيد احمد بن أحمد ابن عيدَّة يعلن فيها استعداده لمسالمتنا إذا ما نحن خرجنا من أرض السلطان (موريتانيا)، خصوصا إذا رجعنا عن عزمنا دخول آدرارْ؛ بتلك الشروط سيبقى على صداقته لنا رغم إلغاء الامتياز العرفي الذي كنا ندفعه قبلُ لأمراء آدرارْ. وختَمَ رسالته قائلا إنه لا يشبه إدوعيش في أي شيء.»[161]

ولفهمٍ أكثر للبعد الوطني المغربي في العملية الجهادية التي قامت في شمال موريتانيا، يمكن الاطلاع على هذه الفقرة المقتطعة من إحدى الوثائق التي قدَّمتها الحكومة المغربية إلى محكمة العدل الدولية بلاهاي الخاصة بملف الصحراء الغربية سنة 1975م:[162]

«هذا نصٌّ يمكن من خلاله فهْمُ سياسة المقاومة المزدوجة التي كان المخزن ينتهجها. حيث كان السلطان يناضل على جبهتين. فعلى الصعيد الدبلوماسي، كان مُجبَرا على قبول بعض التنازلات المفروضة عليه من طرف القُوى الدولية. ذلك أن مصير سلطنته كان مربوطا، منذ نهاية القرن التاسع عشر، بالحفاظ على التوازنات الأوربية، كما هو مبيَّن في القسم الأول من هذه المذكرة المقدَّمة من طرف الحكومة المغربية. لقد كانت المفاوضات الدولية بمثابة الأداة المستعملة في هذا الصراع غير المتوازن. فالأمر هنا يتعلق باستقلال المغرب.

وردا على ذلك، كانت المخاطر المهددة للسلطنة الشريفية قد أخذت تتسع في المنطقة الصحراوية. فالاتفاق الضمني أو الصريح بين القوى العظمى  عرَّض المنطقة الجنوبية من المغرب لمساومات أوربية. فكانت الوحدة الترابية المغربية معرَّضةً للخطر في تلك المنطقة، لأن إسبانيا وفرنسا قامتا بتقسيمها إلى مستعمرتين، بعد اتفاقهما على رسم الحدود سنة 1886.

لم يكن بمقدور الحكومة الشريفية أن تقوم بمواجهة علنية مع القوات الفرنسية، دون أن تستثير شيئا من التصعيد لعملياتها على الحدود الجزائرية المغربية. هنا جاءت تلك "المقاومة التمويهية" (résistance camouflée) بقرار من السلطان وتنفيذٍ من مبعوثه الخاص: الشريف مولاي إدريس، وممثلِه الدائم: (الشيخ) ماء العينين، بمثابة الحل الوحيد المتاح.

فما كانت الحكومة الفرنسية تعتبره لعِبا مزدوجا، كان بمثابة اللعبة الوطنية الوحيدة لدى المغرب! وهذا ما يفسر ردَّ المخزَن على استفسار القنصل الفرنسي بفاس حول العمليات العسكرية التي يقودها (الشيخ) ماء العينين ومولاي إدريس في الصحراء الغربية:

"إنما جاء مولاي إدريس لمعاينة الوضع ومعرفة ما إذا كانت المناطق المحتلة جزءا من الإقليم السنغالي، أو هي خاضعة للسلطة الشريفية. وأيا كانت نتيجة معاينته وتدقيقه، فما كان عليه أبدا أن يعلن الجهاد. فتلك حماقة لم تخطر ببال أحد من فريق المخزن، وإنما كان على مولاي إدريس جَلْبُ المعلومات الضرورية إلى دائرة السلطان بفاس؛ وإن السلطان في هذه الحالة سيأمر ببدء مع الحكومة الفرنسية إجراءات رسم الحدود وتقاسم مناطق النفوذ.»[163]

وقد توالت بعد ذلك مراسلاتُ وزير الخارجية الفرنسي تيوفيل ديلكاسي (Théophile Delcassé) ونظيرِه المغربي عبد القادر بن اسليمان حول ضرورة وقف المغرب للعمليات التي يقودها كل من الشريف مولاي إدريس والشيخ ماء العينين.

وردا على ما يسميه الجانب الفرنسي مماطلة الوزير المغربي، جاء في رسالة وجهها السفير الفرنسي (وزير فرنسا) في طنجة إلى وزير الشؤون الخارجية الفرنسي بتاريخ 28 مارس 1907 «أن القوة وحدها يمكن أن تعالج ذلك التقصير المتعمد من طرف المخزن».[164] لتواصل فرنسا ضغوطها على المغرب، متوجةً ذلك باحتلال مدينة وجدة على الحدود مع الجزائر، فما كان من المغرب إلا أن قام بسحب مولاي إدريس من الشمال الموريتاني، ووقفِ إمداداته للشيخ ماء العينين بالسلاح والمؤن.

البعد الوطني وحساسيتُه في التأريخ للمقاومة:

لم تكن المسألة الوطنية، بمفاهيمها ومضامينها الحالية، معروفة ولا معتبرة لدى الرَّعِيل الأول من علماء وقادة المجتمع، وإنما كان البحث عن إمام شرعي وحاكم يحكم الناس حَقًّا ويسُوسهم ويَحميهم مِنْ أولى أولويات أصحاب الوعي والمتنورين من قادة ذلك الزمان.

لكن المعاني الوطنية والمضامين السيادية، وإن كنا جميعا نطمح إلى تجاوزها نحو الحلم الأكبر المتمثل في وحدة إسلامية أو تكامل عربي أو مغاربي أو إفريقي أرحب، إلا أنه لا بديل عنها حتى الآن، بوصفها أساسا لتلك الكيانات المستقلة التي نعيش جميعا في كنفها، ونشعر داخل حدودها بشيء من السيادة وحرية التصرف. كما أن تلك المعاني الوطنية، ولو اعتبرناها مرحلية، إلا أنها هي التي يسهر القادة السياسيون والعسكريون والأمنيون والموظفون والعمال والناس العاديون على حمايتها، مما يحتم علينا شيئا من الحذر تجاه هذا الأمر الحساس.

فمن الصعب على الموريتانيين أن يستسيغوا غيابَ هذا البعد الوطني عن طاولات نوفمبر المخلِّدة لذكرى استقلالهم الوطني. فكيف لأولئك المؤرخين أن يُهملوا تلك المعاني والمضامين في تلك الذكرى المعنوية؟ وبأي منطق يتأتَّى ذلك؟

وإن كثيرا من مؤرخي نوفمبر يقعون، دون علم، في ذلك الشرَك القديم الحساس والمستفز لكثير من الموريتانيين الذين يشعرون بالانتماء لدولة مستقلة، كان المغرب يسعى إلى ضَمِها إليه ويعترض على استقلالها عنه، قبل أن يعلن الملك الراحل الحسن الثاني اعترافه التام بها في مؤتمر القمة الإسلامي الأول، المنعقد بعاصمة المملكة المغربية رجب 1389هـ -  سبتمبر 1969م. ويبدأَ، هو وحكومته وأغلبُ الأحزاب المغربية، يعاملون موريتانيا أحسن معاملة، بوصفها دولة مستقلة شقيقة.

كما تجد كثيرا من أولئك المؤرخين والمحللين يقعون في خلْط مَريج بين مفهومين مختلفين: مفهوم الجهاد ومفهوم المقاومة.

فالجهاد، الذي هو مفهوم ديني محض، لا فرق فيه بين دفع الاحتلال عن آدرارْ الذي دخله الفرنسيون سنة 1909م، والحوضِ الذي احتلوه سنة 1893 والترارزة التي احتلوها سنة 1902؛ ولا فرق فيه أيضا بين موريتانيا نفسِها والجزائر المجاورة والمحتلة منذ 1830 وتونس وقد ملكوها عام 1882 وتمبكتو وقد ملكوها عام 1894 والسنغال وقد ملكوها منذ عام  1659... كما لا فرق بين المستعمر الفرنسي والإسباني والألماني والبرتغالي وغيره.

أما المفهوم الثاني فهو مفهوم المقاومة، أو المقاومة الوطنية، الذي يكثر الحديث عنه بأشكال مختلفة، يثير بعضها الاستغراب والعجب.  فالمقاومة مفهوم سياسي حديث، كما هو معروف، لم يتبلور إلا في أيام الحرب العالمية الثانية وتصدِّي الفرنسيين للاحتلال الألماني آنذاك؛ ثمَّ تجذَّر الاعتزاز بهذا المفهوم وانتشر على إثر الثورتين: الجزائرية والفيتنامية ضد المستعمر الفرنسي، قبل أن يكون عنوانا لكفاح الشعوب المستعمَرة والمغلوبة ضد الظلم والاضطهاد، وقبل أن يصبح أيقونة للفكر اليساري، ماركسيا كان أو قوميا. وقلَّ من هؤلاء من يتحرّى الدقة والموضوعية حين يقوم بإسقاط تلك المفاهيم والثنائيات: المقاومة والعمالة، والتقدمية والرجعية، والإقطاعية والعمالية...

نماذج من علاقة الشيخ ماء العينين بالمستعمر الإسباني:

يقول محمد بن مولود بن داداه في عرضه المذكور أعلاه: «ومن المفارقات أن علاقات الشيخ ماء العينين بإسبانيا ظلّت، طيلةَ المدة المذكورة، جيدةً لا يشوبها أيُّ صدام أو احتكاك، وقد تخلَّلها تبادلٌ متكرِّر للهدايا، بل إن الشيخ تم توشيحُه رسميا من طرَف ملك إسبانيا.»[165]

وفي سنة 1897م، أرسل ملِك إسبانيا ألفونسو XIII هدايا إلى الشيخ ماء العينين، فرَدَّ عليه الشيخ بإعلان خضوعه للملكة الإسبانية ودعمه إياها. [166] وفي نفس السنة أكد مجموعة من ممثلي القبائل الصحراوية: أولاد تيدرارين والرقيبات والعروسيين وأولاد الدليم والزركيين وأولاد بالسباع تعلقهم بالمملكة الإسبانية[167].

وقبل ذلك، وتحديدا في شهر إبريل 1895م، حصل اتفاق بين مكتب الوكالة الاسبانية في وادي الذهب وشيخ قبيلة أولاد الدليم، بموجبه يعترف هذا الأخير بالحماية الاسبانية وسلطة الحاكم الاسباني على إقليم وادي الذهب، متعهدا بحماية ومتابعة العلاقة بين السكان الأصليين وإسبانيا، وتعويض ما ينجم عن ذلك من أضرار، والمعاقبة الصارمة لكل من يحمل سلاحا ضد إسبانيا وتسليمه لها[168]. بالإضافة إلى اتفاقية الحماية التي عقدتها إسبانيا 28 نوفمبر 1883م مع السكان المحليين. والأمثلة كثيرة موثَّقة بالأسماء والأقوال والأفعال.

ومن الطبيعي جدا والمتوقَّع أن تكون تلك الاتفاقياتُ والعلاقات التي ربطها مشايخُ وقادة تلك المنطقة مع الإدارة الاستعمارية الاسبانية مَبْنِيَةً، هي الأخرى، على احترام معتقدات وعبادات وأقضية السكان الأصليين وعاداتهم وتقاليدهم، مع إنزال قادة المجتمع وممثليه منازلَهم. فهي اتفاقياتٌ تفاوض بشأنها ووقع عليها علماءُ وكُبَراءُ مؤتمَنون في فهمهم ودينهم وحرصهم على الصالح العام. لكن السيادة التامة للمملكة الإسبانية على تلك البلاد وتجنُّب الأهالي لكل ما من شأنه المساس بذلك أو الإخلال بالقوانين والشروط الاستعمارية... أمر لا مساومة فيه.

وهذا، في نفس الأمر، هو ما كان الفرنسيون ومفاوضوهم يدَّعونه في الطرف الآخر من بلاد البيضان، بل إن المستعمر الفرنسي كان يحترم تلك الالتزامات ويطبِّقها في الأغلب الأعمّ، لكن مقابل الخضوع  لسياسته  وشروطه.

وقد ورد في كثير من تقارير الإدارة الاستعمارية الإسبانية ما يوضح سياستها الهادفة إلى الاحتلال السلمي لمنطقة الساقية الحمراء ووادي الذهب، مما يذكر بمشروع كبولاني، وحتى مشروع غورو "السلمي" (La pacification de la Mauritanie).

من ذلك، على سبيل المثال، ما جاء في تقرير مطول أرسله مبعوث المفوض الإسباني السامي لدى الصحراء إلى قائده، الجنرال كونت دي جوردانا، حول تأسيس قوة إسبانية من السكان الأصليين، حيث يقول: «كما قلت لكم سابقا، تم اكتتاب "لا ميا"، لكننا نعيش حقبة الكفاح العنيد والصبور والواعي من أجل تخليصهم من تقاليد وأعراف الاستقلال المطلق، قصْدَ تأديبهم وسَوْسهم. إن هذا يتم ببطء شديد، إلا أنني مقتنع بأن الأمر سيعرف تحسُّنا بطيئا لكن بخطى ثابتة (...) في الوقت الحالي، بدءوا عملهم بمراقبة النواحي، وقد شيدوا مقراتهم تحت رقابة الملازم المكلف بتدريبهم...» إلى آخر تلك التفاصيل الدقيقة.[169]

وإلا فإسبانيا دولة استعمارية عريقة، هي الأخرى، في استعمار الشعوب واحتلالها ونهب خيراتها وتعذيبها أحيانا وتمزيق نسيجها الاجتماعي والثقافي، من أمريكا اللاتينية إلى الفيلبين وإفريقيا وسبتة وامليلية والصحراء الغربية التي احتلتها من 1883 حتى 1976م؛ كما أن تاريخهم مع الأندلس الإسلامية معروف، خصوصا أيام ألفونسو VI.

وقد دخلت إسبانيا إقليمي وادي الذهب والساقية الحمراء على وجه الاحتلال، لا غير. ومَن أراد التأكُّد من ذلك، ما عليه سوى مراجعة المعاهدات والاتفاقيات الدولية والمراسيم الملكية والمراسلات الإدارية المتعلِّقة بهذا الشأن، كالمرسوم الملكي الإسباني الصادر يوم 26 ديسمبر 1884م، القاضي بضم منطقة وادي الذهب، بناءً على الاتفاقيات الموقعة مع شيوخ القبائل المحلية؛ والاتفاقيات الموقعة بين فرنسا وإسبانيا في 27 يونيو 1900 (جانب الصحراء الغربية)؛ و 3 أكتوبر 1904م و 27 نوفمبر 1912م...

أما الألمان فكانوا بالمرصاد لأعدائهم الفرنسيين، وكانوا يستعينون في الدول العربية بحلفائهم العثمانيين، باعتبارهم أكثر احتكاكا وخبرة بتلك المجتمعات.

ومن أجل الضغط على فرنسا للدخول في مفاوضات، قامت الحكومة الألمانية يوم 11 يوليو 1911م بإرسال بارجة حربية تسمى (la Panther) إلى شواطئ مدينة أغادير المغربية، ثم تبعتها بارجتان أخريان، فكانت النتيجة أن قبلت فرنسا على مضض الدخول في مفاوضات مع الألمان، والتخلي لهم عن الكونغو الفرنسي مقابل تخلي الألمان عن مطامعهم في المغرب. ثم تلا ذلك تهديد انجلترا بتدخل عسكري، مما أدى إلى تخفيض ألمانيا لمطالبها، ليتم توقيع اتفاق في الرابع من نوفمبر 1911، تخلت ألمانيا بموجبه، زيادة على أطماعها المغربية، عن شريط بري شمال شرقيَ الكامرون، الذي كان مستعمرة ألمانية وقتها، مقابل الجزء الداخلي من الكونغو الفرنسي الواقع بين الكامرون والكونغو البلجيكي...

نماذج من علاقة الشيخ ماء العينين بالألمان والعثمانيين:

أورد الأستاذ الباحث الطالب اخيار بن الشيخ مامينا بن الشيخ ماء العينين طرفا من مراسلات الشيخ أحمد الهيبة مع الألمان والعثمانين. حيث جاء في رسالة كتبها قيصر ألمانيا (وأشرك معه نائب الدولة العثمانية) موجهةٍ إلى الشيخ أحمد الهيبه في سبتمبر 1916م ردا على أخرى بتاريخ 10 إبريل من نفس السنة، ما يلي:

«ويُعلمكم بأنه قد حصل له غايةُ السرور من كتابكم المنوَّه به، حيث أفاد حضرته بأنكم راغبون في المحافظة على العلاقات الودية التي استمرت بين الألمان وبين مسلمي المغرب مدة مديدة، وأنكم باذلون جهدكم في زيادة توثيق عراها وعازمون على الاشتراك مع الدولة الألمانية والدولة العثمانية ومحالفيهما لمحاربة أعداء المسلمين الفرنسيين الساعين في تبديل دين الإسلام بالزندقة الفرنسية، أحبط الله مساعيهم (...) هذا وإن حامل كتابنا إليكم هو معتمدنا الدكتور وبستر، قنصلنا سابقا بعاصمة فاس، الذي كان بينه وبين المسلمين هناك، خصوصا سبيل أحمد الشمس الشنجيطي، العلائقُ الحسنة الودية، هو الذي يأتيكم بجميع ما يلزمكم لمحاربة الفرنسويين، أعدائِنا وأعداءِ الإسلام، وينمي لكم مشافهة بقية تفصيل الأمور، فلتكونوا وهو واثقين دائما من مساعدتنا إياكم ومعاضدتنا لكم في كل ما من شأنه أن يقوي نفوذكم ويمكِّنكم من الحصول على غاية مقاصدكم ومنتهى أمانيكم التي صرحتم لنا بها في كتابكم الآنف الذكر وأنتم أهل لها...» [170]

كما أورد الأستاذ الطالب اخيار رسالة للشيخ أحمد الهيبة موجهة إلى نائب الدولة العثمانية ونائب الدولة الألمانية في 15 نوفمبر 1916، جاء فيها: «معتمد الدولة أعظم الدول الأوروباوية الدولة الألمانية تابعا ونائب اعظم الدول الإسلامية الدولة العثمانية النازلين باساك، أما بعد، فبعد ما يناسب المقام من التبجيل  والاحترام والتحايا والإكرام أنه بلغنا نزولكم بطرف إيالتنا الشريفة فاهتزت البلاد فرحا وسرورا وطربا وحبورا ومرحبا بكم وسرورا وطربا وحبورا وأهلا وسهلا وبمن قدمتم من عنده نزول يُمن وأمْن وبركة وخير ورحمة، فقد أدهشت الأعداء وصار السماء أقرب لهم من الأرض وغصت بِرِيقها وأظلم بَريقُها، والآن لا يهولنكم ولا يضيق خواطركم ما لاقيتم من التعب فإن الأمور بخواتمها وعند الصباح يحمد القوم السرى وإبر النحل بعدها جنى العسل والتعب في أول الأمر يدل على نجاحه وستحمدون ذلك بحول الله وقوته ونحمده ونحتسم به بقية الأعداء وبقية الأمور والتفصيلات التي تتم به المسرات وتنمحي بها العدات تكون عند الملاقات بحول رب المخلوقات تمم الله الأمر على الوصف الذي نحب جميعا إنه مجيب الدعوات وعلى دوام المحبة والكينونية والسلام في 2 صفر الخير عام 1335 الموافق خمسة عشر من نونبر عام 1916 عيسوية»[171].

وفي الملحق 55 من نفس الكتاب هذا الإعلان: «أما بعد فليعلم من سيقف عليه من المسلمين كافة من فم أساك إلى الداخلة ومن فم أساك إلى ءاكلُ أن ما أخذ من النصارى من شواطئ البحر مطلقا اتفقت الدولتان العثمانية والألمانية على أنه لا كلام لأحد فيهم غيرنا وكذلك ما أخذ من البحر في الشواطئ فالجميع لنا نفعل فيه ما شئنا وإن تفضلنا على أحد بشيء عوضا عن شيء من ذلك فذلك تفضل منا ومنة على من فعلنا له ذلك ومن أخذ شيئا من ذلك ولم يسمع فيه كلامنا أو فوته فنحن والدولتان العثمانية والألمانية تابعون له طال الزمن أو قصر ومن زرع شيئا يحصده فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ومن امتثل الأمر في ذلك ننفعه ونبرئه من جانبنا وجانب الدولتين...»

إن هذه النصوص كفيلة بإعطاء القارئ فكرةً عن الصراع المرير الذي كان دائرا آنذاك في منطقتنا بين القوى الاستعمارية، من فرنسيين وإسبان وألمان وإنجليز، حيث كانوا يتكالبون على موطئ قدَم في منطقتنا، خصوصا بلاد المغرب الأقصى، الذي لم يكن قد تم الاتفاق بشأنه ضِمْن الغنائم المتفَق عليها في مؤتمر برلين 1885م، ولم يُحسم مصيره بين الدول الأوربية إلا في مؤتمر آلجزيرة 7 إبريل سنة 1906.

وفي هذا الصدد، ذكر محمد بن عبد العزيز بن الشيخ محمد المامي، أن العُثمانِي بعث إلى أبناء الشيخ ماء العينين اثني عشر ألف ريال وأن أحمد الهيبه بعث إلى الناس يريد الجيش وقال لهم انه يعطي للفارس أوقيتين كل يوم وللراجل واحدة.[172]

وجاء في كتاب موريتانيا 1900 – 1975 لفرانسيس دي شاسي أنه «بعد وفاة الشيخ ماء العينين سنة 1910، قام ابنه (الشيخ أحمد) الهيبة ومن بعده الشيخ مربيه ربه، السلطان الأزرق الموجود بالصحراء الإسبانية، بمواصلة نفس السياسة، مدعومة بصفة سرية من طرف الإسبان وممولة أحيانا من قِبل الألمان»[173]

ومن الطريف أن فرقة من الحرس (goumiers) الإسبان اشتبكت مع نظيرتها الفرنسية سنة 1943م في منطقة المبروك الحدودية، مما نتج عنه موت أحد أعضاء الفرقة الأولى.[174]

وذكرت صوفيا كاراتيني أن أحمد بن حمَّادي، أحدَ الأسماء البارزة في تاريخ المقاومة الموريتانية، انتهى به المطاف رقيبا رئيسا في الجيش الإسباني.[175]

ومن المعلوم أن عمليات المقاومة لم تتوقف نهائيا إلا بعد أن قرر المستعمران الفرنسي والإسباني القيام بتنسيق جدي بينهما سنة 1934م.

نماذج من مراسلات أبناء الشيخ ماء العينين مع السلطات الإسبانية:

ملاحظة: هذه الرسائل مأخوذة من ملف رسمي قدمته الحكومة الاسبانية لمحكمة العدل الدولية حول قضية الصحراء الغربية المسجَّلَة تحت رقم 61، يومَ 3 يناير 1975، والتي كانت محَلَّ فتوى من المحكمة المذكورة أصدرتها يوم 16 اكتوبر 1975 (الصحراء الغربية، رأي استشاري، محكمة العدل الدولية، سجل 1975، ص 12). وبما أن جلسات هذه القضية كانت كلها فرانكفونية، فقد قامت الحكومة الاسبانية كغيرها من الدول المشاركة، بترجمة الرسائل العربية إلى الفرنسية، وقد تمَّت ترجمتها هنا من الفرنسية إلى العربية، على أن تُنشر لاحقا صورٌ من النّسَخ الأصلية لها ولغيرها. أما النّسَخ الفرنسية من الرسائل المذكورة أعلاه فهي موجودة في المجلد الثاني من الوثائق المذكورة، الملحق 12، ص 59-67.

في رسالة موجودة بأرشيف رئاسة الحكومة الإسبانية بمدريد، مؤرَّخَةٍ ب الخامس عشر من رمضان سنة 1352هـ، وملحقَةٍ بتقرير حاكم الصحراء حول المدة الزمنية من 8 إلى 13 يناير 1934م، كتب الشيخ الوليُّ بن الشيخ ماء العينين للمبعوث الإسباني بطرفاية ما يلي: «وإننا على ما أوصانا به أسلافنا من المحافظة على علاقتنا بإسبانيا، التي سنظل أوفياء لها ما لم يظهر لنا منها خلاف ذلك. وبما أن هذا الشهر شهرُ الصيام، فإننا لا نقبل الهدايا ولكن سنوزعها على أعواننا.»

وفي سنة 1335هـ (آخر أكتوبر 1916م) كتب الشيخ أحمد الهيبة بن الشيخ ماء العينين رسالة إلى ملك إسبانيا، موجودة هي الأخرى بأرشيف رئاسة الحكومة الإسبانية بمدريد، جاء فيها:  «إذا لم تكونوا قد قررتم احتلال إيفني الآن، فإننا نرجو منكم إعادة تأهيل ميناء طرفاية وأن تتخذوا، سرا أو علنا، الإجراءات اللازمة لزيادة الحركة البحرية بيننا وبينكم الآخرين، وذلك إلى حين التمكن من إنهاء احتلال إيفني. فالأمر إنما يتعلق هنا بالصعوبات التي ستواجهونها أنتم في البحر. أما جانب البر، فإنه رهن إشارتكم متى أردتم ذلك. فإلى الأمام، إلى الأمام.»

وهذه رسالة مؤرخة بشعبان 1356هـ (أكتوبر 1937م) من الشيخ مربيه ربه بن الشيخ ماء العينين إلى الجنرال فرانكو، موجودة هي الأخرى بأرشيف رئاسة الحكومة بمدريد:

«الحمد لله وحده، من أعماق القلب نبعث تقديرنا وتحياتنا لأمير البلاد وزعيمها، أسد الوغى وقاهر الأعداء، صاحب الجلالة، سعادة الجنرال فرانكو، ونخبره بأننا قدمنا بفضل الله إلى طرفاية وإيفني بخير وسعادة، مع استحالة الوصف بالكتابة لما رأينا خلال هذا السفر المبارك من سرور الناس ورضاهم، النابع من إعجابنا بهذا الإقليم السعيد، طولِه وعرضِه، التابعِ لإسبانيا الجديدة، التي ينيرها قائدها وزعيمها، الجنرال فرانكو العظيم، ولما لاقيناه من عناية واحترام واحتفالات فاخرة وأفراح عارمة، وما يطبع كل تلك التظاهرات من حسن الإعداد والعدالة والنظام التام، إضافة إلى جودة الخدمات التي تقدم للفقراء تماما كما تقدم للأغنياء. وقد أطلعْنا سكانَ إقليم الصحراء على ما استقبلتمونا به من لُطف وتقدير، كما أطلعناهم على انتصاراتكم وأمجادكم ورُتبتكم، دون أن ننسى ما تُكِنُّونَه من حب شديد للمسلمين وعنايتكم بكل ما يمسهم ويُعينهم، وقد بَعَثَتْ فيهم تلك الأخبارُ من الرضا والإعجاب ما ملأ قلوبهم حبا وإعجابا بشخصكم العظيم، متمنين لكم السعادة ومعبرين عن استعدادهم التام لكل ما تطلبونه منهم. دامت سعادتكم والسلام. شعبان 1356. المصطفى مربيه ربه. والحمد لله رب العالمين. (طابع بالمِداد:) الولي بن الشيخ ماء العينين.»

وهذه رسالة رقم 168 ليوم 28 أغسطس 1919 من مندوب المفوض العام لدى الطرفاية إلى وزير الشؤون الخارجية، التكملة 6 من الملحق س. 10: «(...) لقد تمت تسمية الشيخ مربيه ربه خليفة، فهو الآخر أخ للمتوفى الذي مازال حتى الآن موجودا على تراب إيفني. الخليفة الجديد، مثلُه مثلُ أخيه المتوفى، مناصر متلهف لاحتلالنا مدينةَ إيفني، والرسالة المرفقة بهذه الكتابة، والتي سلمها المندوب للوزير وتتحدث عن حملتنا، هي بخط الخليفة المذكور. إذا كان الهيبة متفوقا على الخليفة الحالي بمظهره الديني وسلطته المعنوية، فإن مربيه ربه يتبين أنه رجل أكثر نشاطا وأنه كان بمثابة الروح لكل سياسات سلفه خلال الأعوام الأخيرة. خادم سعادتكم المخلص والمطيع. طرفاية، يوم 28 أغسطس 1919. (التوقيع) الدار الحمراء.»

وقد تضمنت الوثائق المذكورة نماذج كثيرة تحوي على سبيل المثال:

- نسخة عربية من وثيقة الصداقة بين إسبانيا والشيخ ماء العينين، وادي الذهب، 6 مارس 1893، ص 419؛

- الذيل السابع من الملحق س 9 المتضمن للتقرير رقم 36، 5 فبراير إلى 1933 الصادر عن المندوب الإسباني بطرفاية (رسالة محمد المامون إلى مبعوث لكويرة، ورسالة جماعة الرقيبات، ص 405 – 406 من المجلد 1 و 2، عروض مكتوبة ووثائق (تابع)؛

- الذيل الثامن من الملحق س 10، رسالة قنصل إسبانيا في الصويرة إلى وزير الخارجية، المحولة لرسالة أحد شيوخ إيفني (محمد الاغظف). واللائحة طويلة.

نماذج من العلاقات والصلات بين الشيخين:

سيديَ بابَه وماء العينين وحضرتيْهما:

على الرغم من اختلاف المواقع الجغرافية والظروف "جيوسياسية" المحيطة بكل من الشيخ ماء العينين والشيخ سيديَ بابَه وحضرتيْهما، وما ترتَّب عن ذلك من اختلاف وجهتي نظريهما حول التعامل مع الوافد الفرنسي، فإنه من الطبيعي أن تتسم تلك العلاقة بقدر كبير من الاحترام والتقدير الرفيع. ولو تم جمع ما تبقى من روايات مكتوبة وشفوية عن هذا الموضوع لشكَّل ذلك بحثا مستقلا.

ويكفي من ذلك أن الشيخ ماء العينين، على جلالته وتقدُّم سنِّه آنذاك، مشى راجلا  لتشييع الشيخ سيدي المختار (ابَّاه) بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديَ لمسافة طويلة، ثم أرسل بعضا من تلاميذه لدلالته على الطريق وعلى الأشجار القليلة في تلك المنطقة للاستظلال بظلها. وذلك بعد أن احتفى به وبالعلامةِ سيدي محمد بن داداه (الراجل) أياما عديدة وأكرمهما ووفدَهما إكراما منقطع النظير، مرورهمَا به على نية الحج. ثم استبقى الشيخ ماء العينين "الراجل" في حضرته من أجل علاج حمَّى ألمَّتْ به هناك.. وقد مرَّ بنا قولُ صاحب الوسيط: «إن هذا الشيخ كان فاضلا كريما لا يوجد أحسن منه أخلاقا!».

وفي حياة الشيخ مربيه ربُّه، زار العلامة المؤرخ هارون بن الشيخ سيديَ بابه حضرة أهل الشيخ ماء العينين فأكرموه غاية الإكرام ووفروا له مطالعة خزانة كتبهم. وتواصل بعد ذلك كتابيا مع بعض من أفراد الأسرة، واهتم بتحصيل ما سمح له به الحال من أخبارهم ومن شعر أفراد منهم كالشيخ محمد سيدات بن الشيخ أحمد الهيبة الذي كتب له بخط أنامله الكريمة مقطوعات رائقة من شعره، منوها بأنه كتبها "لأخيه العالم العلامة الشيخ هارون بن الشيخ سيدي في 24 رمضان المعظم عام 1359 ". ثم كانت مراسلات بين الشيخين سيدي بابه وماء العينين في شأن نازلة الاستعمار، كما يروي ذلك مفصلا الشيخ عبد الله بن الشيخ الطالب اخيار، حفيد الشيخ ماء العينين وسبطُ الشيخ سيدي بابه.

ومثالا على العلاقة المذكورة، يمكن إيرادُ الرسالة التالية، الموجودة بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت، والتي أرسلها الشيخ الشبيه بن الشيخ ماء العينين إلى الشيخ سيديَ بابَه أشهرا قبل وفاة هذا الأخير، معبرا له فيها عن محافظته وتمسكه بما كان عليه السلف:

«بسم الله الرحمن الرحيم اللهم صل على سيدنا محمد وسلم الحمد لله الذي جعل الأقلامْ تبلغ السادات الكرامْ وتغني عن المشافهة بالكلامْ  والصلاة والسلام على من انتخبْ من نور الكون، محمد بن عبد الله بن، عبد المطلبْ ورضي الله عن أصحابه والتابعين ما رسبْ في قعر البحر ما فاق الذهبْ وبعد فمن الكويتب بعد إن شاء الله سلام يعم ما بين الثور والأصفرْ أريجه حاد عن عرفه المسك الأذفرْ الكاسر شوكة العرب والعجمْ  والمحيي منهاج السنة بعد ما ادلَهَمّْ والحائز المعلى في حلبة السباقْ وهو الترياق من الشرك والنفاقْ المؤسس للمسلمين حين زاغت عنهم الأبصارْ وسبيت الصبيان والعُون والأبكارْ  وأيقنت الناس يوم يقع الفرارْ الولي التقي الخضمّْ السخي النقي من كل ذمّْ من اسمه وافق المسمى وعلى كل ماجد قد سما باب النهي عن المنكر والأمر بالمعروفْ اليلمعي البَر العطوفْ اليهفوفْ الوفي العروفْ من لم يبلغ مداه في الورع سابحْ وأزمة الفتوة بيده بثمن رابحْ تأزرتَ وارتديتَ بالمكارمْ وعنان العلم بيدك عن كل عالمْ  فطمتَ جرشاك عن الريب والمئاثمْ  كأن فيك قول القائل حاصلْ لا مفند ولا زائلْ:

وأنت "عَرابة الأوسي يسمو ==إلى الخيرات منقطع القرين

إذا ما راية رفعت لمــــــــــــجــــــــــــــــــد==تلقاها عَرابة باليمــــــــــــــــــــــــــــــــــــــين "

الشيخ سيدي بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي موجبه إليكم بعد السؤال عن أحوالكم المرضية أن تعلموا أني معكم على ما ترك الوالد من العهد القديم والود الصميم كما كنت مشاهدا. وليس الخبر كالمعاينة، رضي الله عنه بجاه أحمد الشفيع. ولا يغير ذلك الصروفْ ولو حل ما حل من المخوفْ والحمد لله ونشكره على ما لنا فيكم وما لكم فينا والمرجو إتمام المقصودْ والسلام كما بدأ يعودْ إليكم إلى يوم الوعد الموعودْ ثاني عشر المحرم من عام 1342 اشبيه بن شيخه الشيخ ماء العينين تيب عليهما ءآمين».

وبعد هذا التأريخ بأشهر قليلة تُوفي الشيخ سيديَ بابَه، مما يعنى أن علاقة الود والاحترام ظلت قائمة بين الشيخين والأسرتين إلى ذلك العهد، بل وإلى ما بعده. وقد جهل هذه الحقائقَ كثير من الناس، فصار كثير من الجهلة والنكرات يطعنون ويقدحون هنا وهناك ويهرفون في القنوات والإذاعات والصحف والمواقع بما لا يعرفون، ويسوِّدون الأوراق بالأكاذيب والجهالات الفاضحة.

خاتمة:

الشاهد من هذا كله والحاصل، أن المواقع الجغرافية والظروف "جيوسياسية" حاسمة في كل الخيارات والمواقف التي يتخذها القادة والعظماء، اختيارا أو اضطرارا. فمن السذاجة بمكان كتابةُ التاريخ وتعاطيه دون الغوص في الأسباب والملابسات والظروف المحيطة والمآلات، من أجل تلخيصه في ثنائيات سطحية ومعادلات تبسيطية تقسِّم المجتمع إلى فئتين لا ثالث لهما: فئة مجاهدة مقاومة بطَلَة حريصة على الكرامة والصالح العام، وأخرى عميلة خائنة جبانة زاهدة في مصالح المسلمين...

ومن تأمل قليلا تاريخ التوغل الأوربي في البلاد، يرى بوضوح أن المناطق الأوفر سكانا والمحاذية للنهر وللمستعمرات الفرنسية القديمة، كالحوض والترارزة، كانت سباقة إلى النهوض من أجل مقاومة الاستعمار، مما يجعل من الطبيعي أن تكون هي السباقةَ أيضا إلى مهادنة تلك القوة الجديدة المتفوقة والخضوع لها، حيث لا توجد قوة إسلامية قريبة يمكن الاستنجاد بها واللجوء إليها، مستفيدة في ذلك كله من تجاربها الجهادية المخفقة وتجارب جيرانها الأفارقة.

ومن أحسن مثال على ذلك، جهاد الأميرين العظيمين محمد لحبيب وأبيه أعمر بن المختار، وما تلا ذلك من اضطرار الأحفاد إلى مكاتبة الفرنسيين، على مراحل مختلِفة، بمن في ذلك مَن قاوم شخصيا قبل أن يرجع ويخضع للمستعمر، بناء على تجربته الخاصة وتجربة سلفه. وكذلك كان جهاد الأمراء البراكنة، خصوصا امحمد ولد سيدي وما تلاه من تسلسل لنفس السيناريو التروزي تقريبا.

وإن جئت إلى إمارة إداوعيش تجد الشيء نفسه. فقد قاوم بكار بن اسويد احمدواستشهد، ليقوم أبناؤه، خصوصا عثمان والحسين وعبد الرحمن وغيرهما بالخضوع للفرنسيين بناء على نفس المعطيات تقريبا.

وقُل الشيء نفسَه عن عائلات الشيخ أحمدو بمبا والحاج عمر الفوتي وابنه أحمد شيخو وساموري توري والإمام ما با، وسِيديَ آلْ بوري انْدايْ، وكارانْ قُطْبُو دابي الغيني وغيرهم.

وقد همَّ الشيخ سيديَ الكبير وابنه الشيخ سيدي محمد بالجهاد ودعوَا إليه وسعيا بحماس كبير، ليقوم بعدهما الشيخ سيديَ بابَه والشيخ سيدي المختار بمهادنة الفرنسيين والخضوع لهم، انطلاقا من تجربة سلفهما الجهادية وما لاقاه مشروعهما الوحدوي من عراقيل.

وقَلَّ مَن يتحمل مسؤولية كبرى ويحتل مركزا سياسيا ذا بال دون أن يجد نفسه داخلا، رغما عنه، في حسابات ومعطيات دولية وعالمية وإقليمية أكبر منه ومن مشروعه، بل وأكبر من بلده ومنطقته كلها. وقد يطلع المرء على طَرَف من ذلك، وقد لا يشعر به أصلا. إنه لأمْرٌ تقليدي، كلاسيكيٌّ كما يُقال اليوم.

لكن الشعوب البدائية والمجتمعات القبلية تقتصر في تحاليلها وقراءاتها للتاريخ على ثنائية البطولات القبلية والعائلية، مقابلَ الخيانة والجبن. والأدهى والأمر من ذلك كله، أن تتأثر كتاباتنا المعاصرة وقراءاتنا الجدية للتاريخ بالاعتبارات الجهوية التافهة والعصبيات البدائية والاستهدافات الشخصية.

والمحلل النزيه يدرك أن الحجج والمسوغات التي تأسست عليها مواقف وآراء العلماء الذين تطرقوا لنازلة الاستعمار في تلك الحقبة، سواء الرافض منهم والمهادن، كانت - أولا وأخيرا - حججا فقهية شرعية، ينبغي الحكم عليها من هذا المنطلق، بعيدا عن المآرب السياسوية والعقائد الأيديولوجية وتحامل الساخطين والدوائر المؤطرة من طرف هؤلاء وأولئك.

وبغَضِّ النظر عن أصْوبية أيٍّ من الاجتهاديْن: المهادن والرافض، إلا أنه مما يفوت اليوم على الكثير من مستصوبي ومرجِّحي رأي الطرَف الثاني، أن إلزاميةَ الأدلةِ الواردةِ في فتاواه القائلة بوجوب الجهاد والهجرة، بوسائل وظروف ذلك الزمان، ما زالت قائمةً، بل إن الوضع الآن أحسن بكثير كما هو واضح، مما يحتم مواصلة ذلك الجهاد قديما وحديثا دون توقُّف، ودون التفريق في ذلك بين دول النصارى المستعمِرة، ودول المسلمين المستعْمَرة.

وبالنسبة للهجرة، على وجه الخصوص، لو افترضنا جدَلا قدرةَ ساكني هذه البلاد على القيام بها ووجودَ أرض خارجة عن سلطة النصارى يهاجرون إليها، فما ذا عسى أن يكون مصير البلاد وقد هَجَرها أهلُها وتركوها للمستعمر؟ ألا يخشى ضياعُها الأبدي بتملكهم لها أو إسكانهم بها غيرَهم؟

وفي نفس السياق الموجب عدم الإقامة مع الكافر وعدم شرعية أن تتراءى نار المسلم مع ناره، فكيف ستعمل الجاليات والأقليات المسلمة المقيمة في بلاد الكُفر، بحثا عن الأمن أحيانا ولقمة العيش أحيانا أخرى؟ إنها نصوص عامة، لا تخصُّ فريقا من النصارى والمشركين دون آخر، بل هي عامة بالنسبة لهم حيث إن الكفر ملة واحدة.

وعلى كل حال، سيلاحظ كلُّ مطلع على طَرَف من الوثائق الأصيلة "الخام" المتعلقة بتلك العهود أن معظم علماء وقادة المجتمع كانوا يتعاملون، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، مع الدول والمجتمعات المحيطة بهم، والأمم الكبرى التي تنزل بساحتهم. ومن هؤلاء العظماء مَن لا يزيد من قدره التعامل مع الأجانب ولا ينقُص، كالشيخ العلامة ماء العينين وأضرابه. (يتواصل إن شاء الله تعلى)

 

هوامش جميع الحلقات:

[1]- محكمة العدل الدولية، مذكرات ومرافعات ووثائق، الصحراء الغربية، المجلد IV - العروض الشفهية، العرض الشفهي للسيد محمد ولد مولود، ممثل الحكومة الموريتانية، ص 391.

[2]- Professeur Abdel Wedoud Ould Cheikh, Palabres, Emission du Sahel TV, 11/14/2014.

[3]- على سبيل المثال: تبيِّن الوثائق الأصلية المختومة بخواتم الأمراء الأربعة وغيرهم من أمراء وشيوخ حسان دينونتهم ومبايعتهم للشيخ سيديَ وبيته. وقد أورد العلامة المؤرخ الشيخ هارون بن الشيخ سيديَ بعضا منها، بناء على الوثائق الأصلية؛ وهي موجودة بخواتمهم وخطوط كُتَّابهم.

[4]- د. محمد الحسن ولد اعبيدي، النزعة الاجتهادية في الفتاوى الموريتانية في القرنين 13 و 14، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم الإسلامية، جامعة الزيتونة، 2003- 2004، ص 259- 260.

[5]-  ستعرض بعض الوثائق المتعلقة بذلك في الحلقة الخاصة بالملاحق.

[6]-  نسخة أصلية من المراسلة في مكتب أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[7]- الشيخ العلامة ابّاهْ بن عبدالله، الشيخ سيدِيَ بابَه,, ترجمة علمية، أعمال ندوة بوتلميت، 19-20 محرم 1427هـ، 18-19 فبراير 2006م، دار الكتب العربية، بيروت، ط1، 2011.  ص159.

[8]- محمد بن مولود بن داداه، الشيخ سيديَ.. الخلفية التاريخية، أعمال ندوة بوتلميت، 19-20 محرم 1427هـ، 18-19 فبراير 2006م، دار الكتب العربية، بيروت، ط1، 2011، ص 71-72.

[9]- كنظرية "التعلُّق الوجوديّ بإبل الظّل" المعروفة عند بعض المؤرخين الكبار، أمثال محمد بن مولود.

[10]- د. إزيد بيه بن محمد محمود، "الشيخ سيديَ بابَه.. الوزنُ الاجتماعي والسياسيُّ وهَمُّ السلطة المركزية"، أعمال ندوة أبي تلميت، 19-20 محرم 1427هـ، 18-19 فبراير 2006م، دار الكتب العربية، بيروت، ط1، 2011. ص 188.

[11]- د. محمد الحسن ولد اعبيدي، النزعة الاجتهادية في الفتاوى الموريتانية في القرنين 13 و14، أطروحة لنيل شهادة الدكتوراه في العلوم الإسلامية، جامعة الزيتونة، 2003-2004، ص 242.

[12]- د. جمال ولد الحسن، حركة الإمام ناصر الدين، حوليات كلية الآداب، جامعة نُواكشوط، ع1، 1989-1990م، ص5. وم. م. ولد السعد، حرب شرببة وأزمة القرن 17 في الجنوب الغربي الموريتاني، م.م,ب.ع، 1994م، ص 84.

[13]-  نسخة أصلية في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[14]- د. حماه الله ولد السالم،  تاريخ بلاد شنكيطي (موريتانيا) من العصور القديمة إلى حرب شرببه الكبرى، دار الكتب العربية، بيروت - لبنان، ط1،  2010،ص 324.

[15]- البيتان من همزية الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيدي المشهورة: مزج الدموع بمسبَلات دماء؛ واللذان سبقاهما من رائيته المشهورة التي أولها: رويدك إنني شبهت دارا.

[16]- الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ، المصدر السابق نفسُه. والبيتان للشيخ سيديَ بابَه، من قصيدة يثني فيها على المتكسِّبين من صناعتهم وحِرفتهم وعَرَق جبينهم، ويُعرّض بمن يأكل الدنيا بالدين وحِيل الخداع.

[17]-  الحلقة الرابعة بعنوان:  "لعبة المغفلين" من سلسلته المنشورة سنة 2007، تحت عنوان: "تفاديا للعار".

[18]-  الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ، المصدر السابق نفسُه.

[19]- يحوي ديوان الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديَ، كغيره من الشعراء، أبياتا وقصائد مما يعرف بـ "الإخوانيات"؛ وهو نوع من الشعر يراد به اللهو وممازحة الحاضرين والتنكيت، بعيدا عن الحفظ والتصدير، ناهيك عن التدوين... إلا أن كثيرا من الناس لا يفهم ذلك، وإنما يحفظ كل شطر تفوه به ذلك الشاعر، بغض النظر عن مضمونه وقيمته. وقد شوهد بعضُ الناس يستغل هذه الأشعار للتحريش بين القائل والمعنيين وتعكير العلاقات المحترمة والوطيدة بين الوسطين الاجتماعيين المذكورين! كتبه صاحب المقال.

[20]- القصص موثقة في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت، بالوثائق الأصلية وكتابات المعنيين والشهود.

[21]- الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَ، المصدر السابق نفسُه.

[22]- أورد هذه الفتوى الدكتورُ حماه الله ولد السالم، في ملاحق كتابه تاريخ بلاد شنكيطي (موريتانيا) من العصور القديمة إلى حرب شرببه الكبرى، دار الكتب العربية، بيروت - لبنان، ط1،  2010، ص 339، دون ذكر لاسم صاحب الفتوى، وأورد الدكتور الشيخ ولد الزين ولد الامام طرفا من الفتوى معزوا لصاحبه، في محاضرة له بعنوان: "مكانة المقاصد الشرعية في الفتوى المورتانية" منشورة على الموقع الالكتروني لمنتدى الفكر الإسلامي: fpidc.org.

[23]- يقول الشيخ إبراهيم بن يوسف بن الشيخ سيدى: "انظر الصيغة التى ذكر بها الحرب بين المجلس وتندغة، فإنها ليست صيغة جزم، وذلك من دقته، رحمه الله تعلى، بخلاف ما بعدها من الحروب، وذلك لاضطراب المؤرخين فى الأمر. ولعل الأقرب، والله أعلم، أنها كانت بين بطون المجلس أنفسهم.

 

[24]- د. عبد الله سليمان الشيخ سيديا، ت "رسالة في أخبار البلاد البيضانية الصحراوية المغربية" (إمارتا إداوعيش ومشظوف)، الشيخ سيديَ بابَه بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديَ، ط1، 1435هـ-2014م، د الكتب، الكويت،2014. ص 114.

[25]- أحمد بن الأمين الشنقيطى، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، ت فؤاد سيد، المدني، ط4، 1409هـ-1989م، ص485.

[26]- نفس المصدر السابق، ص 114.

[27]- رسالة في تاريخ إدوعيش ومشظوف، للشيخ سيديَ بابَه، تح: الدكتور إزيد بيه. وانظر أيضا د. عبد الله سليمان الشيخ سيديا، تح. رسالة في أخبار البلاد البضانية الصحراوية المغربية، (إمارتا إداوعيش ومشظوف) للشيخ سيديَ بابَه بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديَ، ط1، 1435هـ-2014م، دار الكتب، الكويت، 2014، ص106-107.

[28]- أحمد بن الأمين الشنقيطي، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، ت فؤاد سيد، المدني، ط4، 1409هـ-1989م، ص241.

[29]- أحمدو بن عبد القادر، الشيخ سيديَ. "الظاهرة وتأثيرُها"، أعمال ندوة أبي تلميت، 19-20 محرم 1427هـ، 18-19 فبراير 2006م، دار الكتب العربية، بيروت، ط1، 2011. ص 54.

[30]-  د. إزيد بيه بن محمد محمود، "الشيخ سيديَّ بابَه. الوزنُ الاجتماعي والسياسيُّ وهَمُّ السلطة المركزية"، أعمال ندوة أبي تلميت، 19-20 محرم 1427هـ، 18-19 فبراير 2006م، دار الكتب العربية، بيروت، ط1، 2011. ص 184-185.

[31]- الشيخ محمد الحسن ولد الدَّدَوْ، تقديم أعمال ندوة أبي تلميت، 19-20 محرم 1427هـ، 18-19 فبراير 2006م، دار الكتب العربية، بيروت، ط1، 2011. ص 13.

[32]- الشيخ العلامة ابّاهْ ولد عبد الله، الشيخ سيدِيَ بابَه، ترجمة علمية، أعمال ندوة أبي تلميت، 19-20 محرم 1427هـ، 18-19 فبراير 2006م، دار الكتب العربية، بيروت، ط1، 2011. ص 156-157.

[33]- محمد بن أبي مدين، نزهة الراني في ترجمة الشيخ سيديَ الثاني، مخطوط بمكتبة أهل الشيخ سيديَ.

[34]- د. حماه الله ولد السالم، موريتانيا في الذاكرة العربية، مركز داسات الوحدة العربية، ط1، بيروت 2005، ص203.

[35]- درس علمي في مسجده العتيق (الكصر: القصر) والكلام مترجم من اللهجة الحسانية التي كان الإمام بُداه يتكلم بها وقتَئذ إلى العربية.

[36]- انظر رسالته الموّجَّهة إلى العلامة سيدي مُحَمَّد بن أحمَد بن حبت الغلاوي.

[37]- محمد سالم ابن عبد الودود، الشيخ سيديَ. التأثير والإبداع، أعمال ندوة أبي تلميت، 19-20 محرم 1427هـ، 18-19 فبراير 2006م، دار الكتب العربية، بيروت، ط1، 2011. ص35-36.

[38]-  محمد يحظيه ولد ابريد الليل، سلسلة مقالات بعنوان: تفاديا للعار، الحلقة 2 بعنوان: نهاية حقبة، 2007.

[39]- Geneviève Désiré-Vuillemin, Aperçu historique de la Mauritanie du xixe siècle à l’indépendance, Introduction à la Mauritanie, collection Connaissance du Monde, éditions du SNRS, Paris, 1979,  p. 77.

[40]- سيد أحمد واد الأمير، مدينة الرَّگبة بمنطقة البراكنة.. "دار ندوة" القرن التاسع عشر بموريتانيا! مقال منشور على موقع أقلام حرة يوم 27-09-2014: http://www.aqlame.com/article20673.html

[41]- د. أحمد محمود ولد الدَّنَبْجَه، قراءة في شعر الشيخ سيدي محمد ولد الشيخ سيديَ، أعمال ندوة أبي تلميت، 19-20 محرم 1427هـ، 18-19 فبراير 2006م، دار الكتب العربية، بيروت، ط1، 2011. ص141-144.

[42]-  النسخة الأصلية المُحتفظ بها من الرسالة موجودة في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.      

[43]- النسخة الأصلية المُحتفظ بها من الرسالة موجودة في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[44]- د. يحيى ولد البراء، الشيخ سيديَ (بابَه) بن الشيخ سيدي محمد وفقهُه (رجعة إلى مسألتي الاجتهاد والإمامة) أعمال ندوة أبي تلميت، 19-20 محرم 1427هـ، 18-19 فبراير 2006م، دار الكتب العربية، بيروت، ط1، 2011. ص233.

[45]- نسخة أصلية بخط صاحبها، في مكتبة أهل الشيخ وسيديَ بأبي تلميت.

[46]- القصة مؤصلة في العديد من المراجع، من بينها على سبيل المثال كتاب الأخبار للعلامة المؤرخ هارون بن الشيخ سيدي، وكتاب عبد الودود ابن انتهاه، كما أن هنالك مراسلات بين الشيخ محمد بن عبد العزيز والشيخ سيدي بابَه ذات صلة بالموضوع.

[47]- الطالب اخيار بن الشيخ مامينا، الشيخ ماء العينين "علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوربي"، ج2، ط2، 2011، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، الملحق رقم 21، ص 496.

[48]- عبد الودود بن أحمد مولود بن انتهاه الشمسديُّ، نيل الأوطار في الغامض من الحروب والأخبار، مخطوط، أحداث 1344 هـ. وانظر أيضا الطالب اخيار بن الشيخ مامينا، المصدر السابق نفسُه، ص 444.

[49]- الطالب اخيار بن الشيخ مامينا، المصدر السابق نفسُه، ص 439,

[50]- الطالب اخيار بن الشيخ مامينا، المصدر السابق نفسُه، ص 94,

[51]- الطالب اخيار بن الشيخ مامينا، المصدر السابق نفسُه، ص 103.

[52]- أعلن الشيخ ماء العينين نفسَه سلطانا للمغرب سنة 1910م. واستولى ابنه الشيخ أحمد الهيبه على العرش سنة 1912م، كما هو معروف.

[53]- نسخة أصلية من الرسالة بمكتبة أهل الشيخ سيديَ.

[54]- نسخة أصلية بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[55]- د. إزيد بيه بن محمد محمود، "الشيخ سيديَ بابَه.. الوزنُ الاجتماعي والسياسيُّ وهَمُّ السلطة المركزية"، أعمال ندوة أبي تلميت، 19-20 محرم 1427هـ، 18-19 فبراير 2006م، دار الكتب العربية، بيروت، ط1، 2011. ص 189.

[56]- الطالب اخيار بن الشيخ مامينا، الشيخ ماء العينين "علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوربي"، ج2، ط2، 2011، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، ص197 وما يليها.

[57]- محكمة العدل الدولية، مذكرات ومرافعات ووثائق، الصحراء الغربية، المجلد IV، العروض الشفهية، العرض الشفهي للسيد محمد ولد مولود، ممثل الحكومة الموريتانية، ص 391.

[58]- عبد الودود بن أحمد مولود بن انتهاه الشمسديُّ، نيل الأوطار في الغامض من الحروب والأخبار، مخطوط، أحداث عام 1343 هـ.

[59]- محكمة العدل الدولية، مذكرات ومرافعات ووثائق، الصحراء الغربية، المجلد IV، العروض الشفهية، العرض الشفهي للسيد محمد ولد مولود ، ممثل الحكومة الموريتانية، ص 391.

وقد بسط الدكتور حماه الله ولد السالم كثيرا من حالات الهجرة الشنقيطية إلى المشرق في كتابه: "موريتانيا في الذاكرة العربية"، مركز دراسات الوحدة العربية.

[60]- الطالب اخيار بن الشيخ مامينا، المصدر السابق نفسُه، ص 486.

[61]-  ستُنشر الوثيقة أو جزءٌ منها في الحلقة الخاصة بالوثائق، إن شاء الله.

[62]- مخطوط أصلي بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[63]- النسخة الأصليةُ المحتفظُ بها من تلك الرسائل موجودة بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[64]- أحمد بن الأمين، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، ت فؤاد سيد، المدني، ط4، 1409هـ-1989م، ص241.

[65]- د. يحيى ولد البراء، الشيخ سيديَّ (بابَه) بن الشيخ سيدي محمد وفقهه "رجعة إلى مسألتي الاجتهاد والإمامة"، أعمال ندوة أبي تلميت، 19-20 محرم 1427هـ، 18-19 فبراير 2006م، دار الكتب العربية، بيروت، ط1، 2011. ص 251.

[66]- نسخة أصلية من الرسالة في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[67]- رسالة أصلية بخط صاحبها في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[68]- المصدر السابق نفسُه.

[69]- محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطيُّ الجكَنيُّ، رحلة الحج إلى بيت الله الحرام 1325-1393هـ، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، ص 89-90.

[70]-  نسخة أصلية منها بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[71]- رسالة أصلية بخط صاحبها في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[72]- مخطوط بمكتبة أهل الشيخ سيديَ، كُتب أسفله ما يلي:  "انتهى من خط قاضي نواذيبو السيد المختار السالم بن محمد موسى، كتبها لنفسه عند بُلَنواعْ عام 1353 عصرَ يوم الجمعة أولَ يوم من المحرم اهـ. وكتبتها أنا عبدالله هارون بن الشيخ سيديَ عند نواذيبو يوم الأحد تاسع ذي القعدة عام 1394. وكتب الشيخ سيديَ بابَه ورقة فيها كثير من خطوط العلماء في الثناء على العالم السيد الفاضل محمد موسى بنِ محمَّدٍ ءَابَّ ما لفظُه: "ما رسم هؤلاء السادةُ في هذا الأمر صحيح مسلّمٌ. كتبه سيديَ بن سيدي محمد بن سيديَ، غفر الله لهم وللمؤمنين، ءامين. اهـ وممن كتَب في الورقة المذكورة: سيدي محمد بن الداه بن داداه وسيدي المختار بن الشيخ سيدي محمد ويُحظيه بن عبدالودود ومحمد الأمين بن عبدالقادر ومحمد عبدالقادر بن حبيب الله ومحمد بن ابّيَّاهْ واتقانَ بن الشيخ سعد بوهْ والدَّاهِ بن سيدْن وغيرهم.

[73]- (ق) يرمز البناني بهذا الحرف لعبد الباقي الزرقاني في شرحه لمختصر خليل.

[74]- مخطوط أصلي بمكتبة أهل الشيخ سيديَ.

[75]-  مخطوط أصلي بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[76]- رسالة أصلية بخط صاحبها، في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[77]- رسالة أصلية، في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[78]- مخطوط هارون بن الشيخ سيديَ المنقول من خط المختار السالم بن محمد موسى، المذكور أعلاه.

[79]-  المصدر نفسُه.

[80]-  المصدر السابق نفسُه.

[81]-  مخطوط أصلي بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[82]-  المصدر السابق نفسُه.

[83]- خُصصت الحلقة الثانية من هذه السلسلة لمسألة السيبة.

[84]-  توجد نسخة مخطوطة من النظم المذكور بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[85] - د. يحيى بن البراء، المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء، المجلد 12، ص  6126-6132.

[86] - د. يحيى بن البراء، المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء، المجلد الثاني عشر، ص 6135 – 6137.

[87]- محمد الأمين بن محمد المختار الشنقيطيُّ الجكَنيُّ، رحلة الحج إلى بيت الله الحرام 1325-1393هـ، دار عالم الفوائد للنشر والتوزيع، ص 89-90.

[88]- نسخة أصلية من الرسالة في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت. (الوثائق المرقونة).

[89]- مخطوط في مكتبة أهل أحمد بيبه بالنباغية. وتوجد منه نسخة في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[90]-  نسخة أصلية من المراسلة المذكورة بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت (الوثائق المرقمنة).

[91]-  هارون بن الشيخ سيديَ، كتاب الأخبار، الجزء المتعلق بأهل بارك الله، قيْدَ التحقيق والنشر.

[92]- بول مارتي، دراسات حول الإسلام في موريتانيا، الشيخ سيديا - الفاضلية - إداوعلي، ترجمة الدكتور البكاي ولد عبدالمالك، ص 89، بتصرف يسير.

[93]- تقييدات هارون بن الشيخ سيديَ، مخطوطات مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[94]- Paul Marty, Etude sur l’islam et les tribus du Soudan, tome III, Les tribus maures du Sahel et du Hoddh, Editions Ernest LEROUX, Paris, 1921, p144.

[95]- بول مارتي، دراسات حول الإسلام في موريتانيا، (الشيخ سيديا، الفاضلية، إداوعلي)، ترجمة د. البكاي ولد عبدالمالك، ص 85.

[96]- يقول ابن قطرب في إحدى قطعه:

هاذِ لبْـرَ فيك امانَ--عنَّكْ لَحَّكْهَ عَجْلانَ

وارسلِّي بِمَا أمْكَـانَ--من شِي فيهْ المقْصُودْ إعودْ

أكول الخيـــام أنِّ ذانَ--فالحبس أُلا عَنْدِي موجودْ

غير امْحَقَّقْ عن مُلانَ--موجود أعن لعمرْ محدودْ

وِلا قَدَّرْنَ مَا رَيْـت آلَ--يَحْصَلْ بيهَ فَم المقصودْ

كيسْ اعْلِي محمود الاَّلَ--تتْعَدَّ كَاعْ اعْلي مَحْمُودْ.

[97]- موسوعة تاريخية لم يُنشر منها حتى الآن سوى جزأين، بينما البقية قيْدَ التحقيق والنشر.

[98]- محمد بن أبي مدين، نزهة الراني في ترجمة الشيخ سيديَ الثاني، مخطوط بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[99]- Colonel Gouraud. La Pacification de la Mauritanie, Journal des marches et opérations de la colonne de l'Adrar, p. 46  ,137.

[100]- انظر المصدر السابق، ص 112.

[101]- للاطلاع على معلومات أكثر حول خضوع سكان الحوض للاحتلال الفرنسي أواخر القرن التاسع عشر، راجع، على سبيل المثال، المرجعين التاليين:

X. Coppolani. Rapport d'ensemble sur ma mission au Soudan français. (1re partie: chez les Maures.). 1899. et Paul Marty، Etude sur l’islam et les tribus du Soudan، tome III، Les tribus maures du Sahel et du Hoddh, Editions Ernest LEROUX, Paris, 1921.

[102]-  نسخة أصلية بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[103]- عبد الودود بن أحمد مولود بن انتهاه الشمسدي الأطاري، نيل الأوطار في الغامض من الحروب والأخبار، نسخة مخطوطة من الكتاب، أحداث عامي 1326 و 1327.

[104]- Colonel Gouraud. La Pacification de la Mauritanie, Journal des marches et opérations de la colonne de l'Adrar, p. 112.

[105]- المصدر السابق نفسُه، ص 259.

[106]-  عبد الودود بن انتهاه الشمسدي، المصدر السابق نفسُه، أحداث 1324.

[107]- غاستو دو فور، تاريخ العمليات العسكرية في موريتانيا، تعريب وتعليق المقدم محمد المختار ولد محمد ولد بيَّه، مكتبة القرنين 15/21 للنشر والتوزيع، نواكشوط – موريتانيا، ط11، 2012، ص 99.

[108]- يقول الشاعر الفحلُ محمدُّو بن محمدي العلويُّ في الشيخ سيديَ الكبير:

وردَتْ حِياضَ نَـوالِه وعلومِــهِ--هِيمُ الوَرَى فشَفَى غليلَ الهِيمِ

في كَفهِ رزقُ الأنـامِ فكلُّهُم--ساعٍ لموضع رزْقه المقسومِ
فترى البيوت أمامَهُ مملوءةً--مـا بين ناوِى رحلـةٍ ومُقيمِ
كُلاًّ بنسبة ما يحاول خَصَّه--من قُوتِ أفئدةٍ وقُوت جُسومِ

لَمْ يَكْفِهِ المْيْرُ الكثيرُ لدى الْقِرَى--كَلاَّ، ورِسْلُ الكُوم، نَحْرَ الكُومِ
فتَرَى بساحته الدِّماءَ وفَرْثَها--ولَقَى العِظامِ جديدةٍ ورَمِيمِ
وتَرَى القُدورَ روَاسيًا وتَرَى الجِفَا--نَ لَوَامِعًا بحواضر المطعُومِ. إلخ

[109]-  هارون بن الشيخ سيديَ، كتاب الأخبار، الجزء المتعلق بالسماسيد، مخطوط بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت، قيْدَ التحقيق والنشر.

[110]- الكلام هنا إنما هو عن الكتاب في نسخته الأصلية: (Éditions l'Harmattan 1984)، دون المقاطع المبتورة المنشورة على الإنترنت والنسخ المترجَمَة التي لم أتشرف بعدُ بقراءتها.

[111]- Francis de CHASSEY, MAURITANIE 1900-1975, Éditions l'Harmattan 1984, p.87.

[112]- هذه رواياتٌ مطردة مشهورة في منطقة الشيخ سيديَ بابَه ومناطق أخرى، خصوصا الترارزة واندَرْ.

[113]- الشيخ سيديَ بابَه بن الشيخ سيديَ، إمارتا إدوعيش ومشظوف، مخطوط أصلي بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلمبت، وقد حُقق مرتين على يدي د. إزيد بيه بن محمد محمود ود. عبدالله بن سليمان بن الشيخ سيديَ.

[114]- Louis Frérejean, Mauritanie-1903-1911 - Mémoires de randonnées et de guerre au pays des Beidanes, Edition KHARTALA, 1995, ISBN, p. 251-26-1-262.

[115]-  ورد هذا في عدة روايات مسنّدة عن بنات محمد شين وغيرهن

[116]- الطالب اخيار بن الشيخ مامينا، الشيخ ماء العينين (علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوربي)، ج2، ط2، 2011، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، ص 151.

[117]- راجع، على سبيل المثال، كتُب بول مارتي حول مختلِف مناطق البلاد وكذلك مذكرات ويوميات حرب وتقارير كل من افرير جان وغورو وكبولاني وغيرهم مما لا يدخل تحت حصر من الضباط وإداريي المستعمر.

[118]- انظر فتاوى ومراسلات الشيخ سيديَ بابَه والشيخ التراد والشيخ النعمة والعلامة لمرابط بن أحمد زيدان...

[119]- راجع فتاوى القائلين بوجوب جهاد الفرنسيين والهجرة عنهم على أهل هذه البلاد.

[120]- Paul Marty, Emirat de Trarza, Edition Ernest Leroux, 1919, p. 295.

[121]- Colonel Gouraud. La Pacification de la Mauritanie, Journal des marches et opérations de la colonne de l'Adrar, p. 166.

[122]- أحمدُ بن سِيدِي، موريتانيا: الماضي المتحرك والمكان المؤثر (الصراع ضد الطرد من الزمن)، الشركة الإفريقية للطباعة والنشر والإعلان، ص 307.

[123]- أحمدُ بن سِيدِي، المصدر السابق نفسُه، ص 305.

[124]- بول مارتي، دراسات حول الإسلام في موريتانيا، (الشيخ سيديا، الفاضلية، إداوعلي)، ترجمة د. البكاي ولد عبدالمالك، ص 33.

[125]- Louis Frérejean, Mauritanie-1903-1911 - Mémoires de randonnées et de guerre au pays des Beidanes, Edition KHARTALA, 1995, ISBN, p. 196-197-198.

[126]- من رسالة الشيخ سيديَ بابَه إلى سيدي محمد بن أحمد بن حَبَتْ، نسخة أصلية بخط صاحبها في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت (الوثائق المرقونة).

[127]-  نسخة من الرسالة أصلية بخط صاحبها في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت (الوثائق المرقونة).

[128]- Colonel Gouraud. La Pacification de la Mauritanie. Journal des marches et opérations de la colonne de l'Adrar, p. 153-166-167.

[129]- الشيخ محمد يحيى بن سيد احمد المجلسي، موسوعة الأزهار الندية في أخبار وتراجم أعلام المجلسية، ج4، ص 83-84-86-91. وانظر أيضا ديوان الشيخ سيديَ بابَه بمخطوطات مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[130]- يقول ولد محمد خويا بعد ذلك: لحكلِ يَلِّ مستكْبَلْ---ذَ الكافْ ألاهُ من مَزحي

  عن فَتْحتْنَ ذِي الهجْرَ تلْ---لا هجرةَ بعد الفتحِ.

[131]- اكشامْ: بندقية محلية الصنع قريبة المدى وبطيئة الطلق والتعبئة. واتموكينه: هي المادة المحترقة المكملة لفاعلية الرصاص.

[132]- مقابلة مع الراوي في فندق اسنيم بمدينة نُواذيبو يوم 20 جمادى الأولى 1435 هـ - 21 مارس 2014م.

[133]- ابَّاه بن محمد عالي بن نعم العبد المجلسي، المصدر السابق نفسُه، ج3، ص 1067-1068.

[134] - ابَّاه بن محمد عالي بن نعم العبد المجلسي، المصدر السابق نفسُه، ج3، ص 1070-1071.

[135]- النسخة الأصلية من الرسالة في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[136]- ديوان الشيخ سيديَ بابَه، مخطوط في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت، وغيرها.

[137]- نسخة أصلية في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[138]- نسخة أصلية من الرسالة في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[139]- نسخة أصلية من الرسالة في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[140]- اشتهر المرابط بن أحمد زيدان (1229- 1325هـ) بمحاربة البدع وصلابة الشخصية وحسن القيادة. وصفه المختار بن حامدٌ بأنه مجدد الدين فى عصره وشيخ مشايخ قطره. ويقول فيه محمد العاقب ابن مايابى:

فأنت فقيه العصر والعالم الذى--به رفع التقليد عن كل عــــــــالم

حميت حمى القضاء لما وَلِيتَه--وقد كان أضحى مستباح المحارم...

[141]-  نسخة أصلية من الرسالة بخط ابنه محمد محمود في مكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت.

[142]- القصة مروية مشتهرة؛ وكان ممن سمعتها منهم مشافهة البحاثةُ الشاب محمد يحيى ولد احريمو.

[143]- شكَّ الشيخ هل هو محمد الخضر أو أخوه محمد العاقب الذي توفي بالمغرب ولم يصل الحجاز مع أخويه، والذي يظهر أنه محمد الخضِر، حسب القرائن وروايةِ المؤرخ الكبير محمد بن مولود بن داداه عن الشيخ المحفوظ أيضا، وروايةِ اللغوي المؤرخ محمد ابن أحمد بن الشيخ سيديَ عن عبدالله ابن بيَّه نفسِه الذي حدثه بهذه الحكاية مرارا منذ أكثر من عقدين أو ثلاثة.

[144]- مقابلة مع الشيخ عبدالله ابن بيه في نواكشوط يوم 7 يناير 2015م بحضور ثلاثة أساتذة وأفراد من أسرة الشيخ.

[145]- الطالب اخيار بن الشيخ مامينا، الشيخ ماء العينين "علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوربي"، ج2، ط2، 2011، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط، ص 92-93.

[146]- الطالب اخيار بن الشيخ مامينا، المصدر السابق نفسُه، ص 103.

[147]- الطالب اخيار بن الشيخ مامينا، المصدر السابق نفسُه، ص 104.

[148]- د. يحيى بن البراء، المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء، المجلد 7، ص 2978- 2979.

[149]- د. يحيى بن البراء، المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء، المجلد 7، ص  3043-3029.

[150]- د. يحيى بن البراء، المجموعة الكبرى الشاملة لفتاوى ونوازل وأحكام أهل غرب وجنوب غرب الصحراء، المجلد 7، ص  3043-3044.

[151]- أحمد بن الأمين الشنقيطي، الوسيط في تراجم أدباء شنقيط، ت فؤاد سيد، المدني، ط4، 1409هـ-1989م، ص365 -366-367.

[152]- H. T. Norris: Shaykh Ma' al-'Aynayn al-Qalqami in «The Folk Literature of the Spanish Sahara» Bulletins of the School of Oriental and African Studies, t. 31, 1968, p. 113-136 et 347-376).

[153]- Voir Camille Douls, “Voyage d'exploration à travers le Sahara occidental”, Bulletin de la Société de géographie de Paris, 1888, p. 437-479.

[154]- محكمة العدل الدولية، مذكرات ومرافعات ووثائق، الصحراء الغربية، المجلد IV - العروض الشفهية، العرض الشفهي للسيد محمد ولد مولود، ممثل الحكومة الموريتانية، ص 391.

[155]- الشيخ محمد الامام بن الشيخ ماء العينين، الجأش الربيطْ، في النضال عن مغربية شنجيط، وعربية المغاربة من مركَّبٍ وبسيطْ، دار العلم، الرباط، 1957، ص 78.

[156]- الشيخ محمد الامام بن الشيخ ماء العينين، المصدر السابق نفسه، ص 78 – 79.

[157]- شبيهنا حمداتي ماء العينين، الشيخ ماء العينين وجهادُه العلمي والوطني، مطبعة دار المعارف، الرباط، 1995، مخطوط ملحَق، ص 161.

[158]- أحمد بن الأمين الشنقيطي، المصدر السابق نفسُه، ص367-368 .

[159]- Voir Mme Désiré-Vuillemin, Contribution à l’histoire de la pénétration française en Mauritanie, Dakar, 1962, p. 254-2551).

[160]- محكمة العدل الدولية، مذكرات ومرافعات ووثائق،المصدر السابق نفسُه، ص 393.

[161]- Louis Frérejean, Mauritanie-1903-1911 - Mémoires de randonnées et de guerre au pays des Beidanes, Edition KHARTALA, 1995, ISBN, p. 309.

[162]- COUR INTERNATIONALE DE JUSTICE, MÉMOIRES, PLAIDOIRIES ET DOCUMENTS, SAHARA OCCIDENTAL, VOLUME III, Exposes écrits et documents (suite n fin), Documents marocains, p. 192.

[163]- Documents diplomatiques français. Affaires du Maroc. t. III, 1906-1907, p. 3 et 4.

[164]- COUR INTERNATIONALE DE JUSTICE, Document precedent , p. 458.

[165]- محكمة العدل الدولية، مذكرات ومرافعات ووثائق،المصدر السابق نفسُه، ص 393.

[166]- Sahara espagnole «La factoria de Rio de Oro», Revista de geografia colonial y mercantil, 1ere  année, n° 8, 1897, p. 137.

[167]- J. B. Vilar, Ibid, et Frank E. Trout, Morocco's Saharans Frontiers. Genève, E. Droz, 1969. p. 138.

[168]- Don Martin Ferreiro, «Memoria acerca de los progresos geograficos leida en la junta general de 28 de Mayo de 1895», BSCM, XXXVII, Nos 7-9 juillet-septembre 1895, p. 268. Même information dans la Revisia de geografia comercial, IIème année, mars-mai 1895, nos 139-141, p. 175.

[169]- COUR INTERNATIONALE DE JUSTICE, MÉMOIRES, PLAIDOIRIES ET DOCUMENTS, SAHARA OCCIDENTAL, VOLUME II, Exposés écrits et documents (suite), DOCUMENTS DIVERS CONCERNANT LES RELATIONS DE LA POPULATION DU TERRITOIRE AVEC LES AUTORITES ESPAGNOLES ? Appendice 1 A l'annexe C.9, Cap Juby, le 15 février 1927. p. 394.

[170]- الطالب اخيار بن الشيخ مامينا، الشيخ ماء العينين (علماء وأمراء في مواجهة الاستعمار الأوروبي)، ج2، الملحق 56 ، ط1، ص 707،

[171]-  الطالب اخيار بن مامينا، المصدر السابق نفسُه، الملحق 57، ص 707.

[172]- مخطوط أصلي بمكتبة أهل الشيخ سيديَ بأبي تلميت (الوثائق الرقمية).

[173]- Francis de CHASSEY, MAURITANIE 1900-1975, Éditions l'Harmattan 1984, p.46.

[174]- Bertrand Fessard de Foucault - Ould Kaïge, Question et guerre du Sahara mauritanien (suite). http://www.lecalame.info/?q=node/1657.

[175]- Sophie Caratini, les Rggaybat (1610-1934), t. 2, Territoire et société, l’Harmattan, 1989, p 206)